كتب ميرزا الخويلدي في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 19 يونيو (حزيران) 2019 مقالة بعنوان «المتنبي أول مثقفي السلطة» ليستفز به عقل كل قارئ عموماً وألباب محبي المتنبي خصوصاً، سيما أنه استهل مقالته بقوله: «المتنبي نموذج للمثقف الانتهازي» ثم يؤكد على ذلك مفتتحاً فقرته الثانية بقوله: «كان المتنبي مثقف سلطة بامتياز»، وقد قدم الخويلدي تشخيصاً جيداً نتفق مع بعضه ونختلف مع بعض آخر لكن ما كتبه جدير بالتأمل والمناقشة.
وقد صدق المتنبي حين وصف شعره بقوله:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
فقد شغل الدنيا بحثاً ودراسة، بل إن الأمر قد تعدى شعره ليصل إلى شخصيته العامة نقداً وتحليلاً، وقد صنفت بذلك المصنفات ونشرت عنه المقالات.
قبل النظر في «الحالة المتنبوية» علينا إلقاء نظرة إلى المحيط السياسي:
في القرن الرابع الهجري ضعفت الدولة العباسية فقسمتها النزعات وثورات الممالك المستقلة فرأى نفسه يفوق بعض من انتصر وتملك مملكة في العقل والفصاحة والشجاعة فحدثته نفسه بالملك لكنه علم أنه لا قوة تسعفه ولا قبيلة تنصره في ذلك، فقومه على ما يبدو لم يكونوا بذاك حتى إنه قال:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
فبحث عن سبيل يكفل له ذلك ويشبع طموح نفسه التواقة للسلطة فقال:
رِدي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
إن بلاد الخلافة العربية تمزقت فالأخاشيد في مصر وسوريا، والبويهيون في إيران، والأندلس أموية عربية اسماً غير عربية واقعاً، ويتفرد الحمداني بإمارة عربية.
فبرز الحس الانتمائي والولاء العرقي عند المتنبي ليتناغم مع طموحه في السلطة المتماهي مع طبيعة شخصيته التواقة للارتفاع أقصى ما يمكن.
وهذا ما عبر عنه د. محمد نجم «وحزنه العميق على ما آل إليه السلطان العربي الممثل في الخليفة، إذ أصبح خرقة بالية ورمزاً دينياً واهياً وانتقل من يدي أبنائه إلى أيدي المتآمرين من الأتراك وأتباعهم».
ورأى ذلك المتنبي بأم عينه حتى قال:
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عُربٌ ملوكها عجم
إذن كان المتنبي صاحب هدف كما هو صاحب رسالة تمثلت بالانتصار لثقافته العربية وأمته قيماً وأصلاً وأخلاقاً وحضارة، وهذا ما أشار له الفرنسي د. أندريه مايكل بقوله: «كان في ذلك الزمان صوت يرتفع من بين المناقشات والاختلافات كان صاحبه المتنبي… ما أراد المتنبي إلا أن يطالب للعروبة ولقيمها بالمقام الذي كان مقامها من قبل».
ومعلوم أن مثقفي السلطة لا هدف سامٍ لهم سوى طلب رضا صاحب السلطة مقابل فتات من الهبات، وهذا ما يميز المتنبي عنهم، كما أن هذا يدعونا للبحث في مفهومي «المثقف» و«مثقف السلطة»، فالمثقف في أبرز تعريف له هو من يمتلك المعرفة المؤثرة في فكره وسلوكه ومن ثم يبني مواقفه مما يحيط به من حوادث على هذا الأساس المعرفي ويصرح بموقفه من القضايا العامة متحملاً ثمن ذلك، بينما نجد تعريف مثقف السلطة بأنه مثقف منضوٍ تحت سياسة السلطة وإرادتها وينافح عن قراراتها وأفكارها مقابل حظوة وهبات، وهذا ما لم يكنه المتنبي الذي صرح عدة مرات برؤاه وأفكاره بما يخالف أفكار ورؤى السلطة التي كان في كنفها.
وانطلاقاً من هدف المتنبي العروبي وطموحه في الارتفاع السلطوي وما يصح تسميتهما معاً «بالرؤية المتنبوية» التي آمن بها فقد اتصل المتنبي بسيف الدولة علي بن أبي الهيجاء الحمداني أمير حلب سنة 337هـ أو قبل ذلك فحضر معه بعض وقائع الروم ولازمه أكثر من تسع سنين قبل أن يفارقه عام 346هـ إثر الغيرة التي أصابت بعض حظوة سيف الدولة، ثم كتب كافور الإخشيدي حاكم مصر إليه يطلبه للقدوم عليه فطلب منه أن يوليه ولاية فوعده كافور بذلك إلا أن كافوراً قد تراجع عن وعده فرحل المتنبي عن مصر ليلة الأضحى عام 350 هـ.
طلبه وزير بغداد المهلبي سنة 352هـ ليمدحه فرفض المتنبي ذلك لعدم قناعته باستحقاقه المدح، كما كتب له الصاحب بن عباد وزير الري يطلبه ليمدحه فرفض المتنبي ذلك قائلا إن غليماً معطاء في الري يطلبنا لمدحه ولا سبيل لذلك، رغم أنه زار ابن العميد وزير ركن الدولة بن بويه في أرجان كما أنه زار عضد الدولة بن بويه في شيراز وقد مدح من يستحق المدح بما يتوافق مع مبادئ المتنبي المبنية على نصب الفعل التاريخي فمدح بدر بن عمار حاكم طبرية:
وأعجب منك كيف قدرت تنشا
وقد أعطيت في المهد الكمالا
ومدح سيف الدولة بقصائد عديدة خالدة ليس هذا محل تفصيلها لكننا نذكر ما يدعم فكرتنا ببعض أقواله.
فها هو يمدحه بقول جبار لا معقول:
يحيد الرمح عنك وفيه قصد
ويقصر أن ينال وفيه طول
أو:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
أو:
أنت الذي لو يعاب في ملأ
ما عيب إلا لأنه بشر
لقد رأى المتنبي أحلامه وطموحاته وأفكاره تتجسد بالعربي الحمداني فمثل نفسه به فمدحه لا لأنه منافق متزلف من أجل حفنة دراهم كمثقفي السلطة اليوم، بل لأنه يراه الحلم العربي الذي يتجسد عبره ويرجوه والذي من خلاله طمح للوصول إلى هدفه بالسلطة والارتفاع في القدر، لذا طلب منه مشاركته بالوقائع الحربية، وما أجمل ما قاله د. علي شلق «صورة سيف الدولة في شعر المتنبي هي صورة المتنبي المناضل الفارس الذي يطلع إلى القدر ويتأهب لمجهوده ويزدري واقع الناس».
كما رأى سيف الدولة بالمتنبي إعلامياً كبيراً يؤرخ وينشر إنجازاته السياسية والعسكرية عبر لغة شعرية متنبوية لا يجيد صناعة مثلها إلا المتنبي، إضافة إلى أنه بمثابة مستشار خبير لمعرفته بحجم ثقافة وفكر المتنبي وما يمكن أن يقدم من آراء صائبة، فقد كانت المنفعة السياسية متبادلة للطرفين وإن كانت القوامة لسيف الدولة وهذا ما دفع المتنبي ليقول:
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرم
وهذا المنهج السياسي الذي كان يعمل به سيف الدولة مع المتنبي بات منهجاً سياسياً معمولاً به عالميا في العصر الحالي حتى بات رئيس الدولة يحيط نفسه بالمفكرين والمثقفين كمستشارين وخبراء، ومن ذلك حكومة جون كيندي التي عرفت «بحكومة هارفارد» لأن أغلب مستشاريه من هارفارد، وقد أدى هذا المنهج إلى أسلوب إدارة في الولايات المتحدة معتمداً على ثقافة تقوم على ما سمي باللغة الأميركية غير الإنجليزية وقد يرمز لها بـThink Tank كنمط جديد في التمازج بين أداة الفكر وأدوات إدارة الحكم وهي التي سعى إليها سيف الدولة ثم كافور عبر المتنبي.
كان المتنبي – وهذه حقيقة لا خلاف عليها – معتداً بنفسه مفاخراً بها يرى نفسه أعلى من غيره شجاعاً لا يهاب دفع الثمن وهو القائل في حضرة سيف الدولة:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
أنني خير من تسعى به قدم
ما أريد أن أشير إليه فيما أسلفت أنه لم يكن مداحاً من أجل المال والحظوة فقط كمثقفي هذه الأيام إنما كان يمدح من يسعفه فعله للمدح كسيف الدولة وكان يرفض أن يمدح من لا يسعفه فعله للمدح مثل الصاحب بن عباد الذي عرض أن يشاطره ماله!
نقلا عن: الشرق الأوسط
503 4 دقائق