لم تكن «حركة الجيش المباركة»، كما سماها أصحابها فى بداياتها الأولى، مجرد ثورة على الملك والأسرة العلوية والإقطاع وبقية القائمة مفرطة الطول بالغة الشهرة من أوجه القصور التى ارتآها الضباط الأحرار ومجلس قيادتهم، بل كانت أيضا فى جانب خفى من جوانبها «ثورة بريدية» قررت أن تجعل من طوابع البريد تلك القصاصات الصغيرة الملونة التى لا يدرك أهميتها، بل ضروريتها ولا يقدر حجمها ووزنها الحقيقيين سوى تلك الحفنة وذلك النفر القليل من المصريين الذين يهتمون بهذه النوعية النادرة من الدراسات التى تتعرض لدور الطوابع وتحلل محتواها ومغزاها متجاوزة ذلك الدور التقليدى الساذج المنطبع فى أذهاننا الذى يقف أمام الطوابع باعتبارها رسوما حكومية ويتوقف عندها كأداة لدفع هذه الرسوم.
قررت ثورة يوليو أن تجعل من طابع البريد جنديا باسلا ومقاتلا شرسا فى كتيبة المدافعين عنها والمروجين لها ليس فى مصر فقط بل فى العالم كله طوال 86 عاما هى تلك الممتدة ما بين منتصف العام 1866- وهو تاريخ صدور أول طابع مصرى- حتى منتصف العام 1952 تقريبا- وهو تاريخ صدور آخر طابع بريد فى العهد الملكى الذى جعلته يوليو بائدا.
حافظ الطابع المصرى على ثوابت كلاسيكية تتعلق بالموضوعات التى يتناولها وكذلك الشخصيات التى تظهر عليه بل كذلك فى نوعية الألوان الهادئة والتصميمات الوقورة بما يتناسب مع نظام حكم ملكى هو الأعرق والأقدم والأكثر ثباتا فى النصف الجنوبى من الكرة الأرضية.
كل هذا تغير فجأة بين ليلة ثورة وضحاها، تبدل بوضوح وجلاء شديدين منذ صدور المجموعة اليوليوية الأولى بعد قيام الثورة ببضع أسابيع.. لم يكن التغيير والتبديل للتصميمات والألوان التى تخلت عن قتامتها وتفتحت وازدهرت فقط، بل امتدت أيضا- وهذا هو الأهم- إلى الأشخاص الذين تستضيفهم الطوابع فوق أوراقها وإلى الموضوعات التى تناولتها، فمن كان يصدق أنه بعد فاروق وفؤاد والخديو إسماعيل نطالع بعد يوليو فلاحا من قرى المنوفية أو عسكريا من نجوع أسيوط يتربع فوق الطوابع المصرية ويراسلهما هواة من الولايات المتحدة وأوروبا طالبين توقيعهما.
بدلا من الوجوه الحمراء وأصحاب الدم الأزرق يحل باتريس لومومبا وأحمد سيكوتورى، وعوضا عن المؤتمرات الدبلوماسية والاحتفالات الدولية والمصطلحات الفرنسية نطالع عناوين من عينة الكفاية الإنتاجية والمجتمع الاشتراكى وعدالة التوزيع والخطط الخمسية.. تغيير، بل ثورة.. لا بل هو انقلاب حاد ومفاجئ مباغت بالغ السرعة- وأيضا بالغ التأثير- فى مفهوم ودور طابع البريد ونوعية الرسالة الإعلامية والمادة الإعلانية اللتين يقدمهما وما يمكن أن نسميه- بلغة يوليو- التوعية الثورية ليس إلى الرأى العام الداخلى، فحسب بل أيضا إلى الشارعين العربى والأجنبى.
الرغبة فى تغيير العالم والحلم أن يلحق بنا الأشقاء – كل الأشقاء – فى الدوائر العربية والمتوسطية والأفريقية المحيطة بنا والملتفة حولنا، كان حلما بريديا مصريا، ربما لم يكن حلما مباشرا تم التخطيط له فى اجتماعات رسمية وسبق أن وضعت خطط عمل بشأنه بناء على دراسات وأبحاث وتوجهات مخابراتية وتوجيهات رئاسية بل كان- وهذا هو قمة العبقرية- حلما تم التعبير عنه وترجمته بعفوية غير مقصودة وتلقائية ليست متعمدة واكبت الأحداث وسايرت التغيرات المتتابعة والتغييرات المتلاحقة التى شهدتها مصر والمنطقة والعالم كله.
ودونما وعى بشرت طوابع البريد بالحلم القومى والثورة الاجتماعية. وفى المحيط العربى كانت اليمن والعراق والجزائر أولى وأهم المحطات التى خاطبها البريد المصرى منذ منتصف الخمسينيات من خلال عدة إصدارات تذكارية متتالية تتحدث عن الوحدة العربية تارة وعن حلم الاستقلال تارات أخرى، فها هو طابع بلون الدم يصدر فى يوليو 1957 تحية لقيام الجمهورية فى العراق على أنقاض الملكية المنهارة فى بغداد فى نموذج تكرارى للتجربة الثورية المصرية فى تصميم فنى يليق بالثوار والثورات عبارة عن قبضة قوية مضمومة الأصابع تحتضن شعلة مضيئة فى رمز واضح للغد المشرق، بينما رسغ اليد قد حطم بالفعل سلسلة حديدية ترمز إلى الملكية عميل الاستعمار.
من العراق إلى اليمن التى أهدى البريد المصرى لثورتها فى مارس 1959 طابعا مشابها حمل العلمين المصرى واليمنى لا يفصلهما سوى سنابل قمح ويحيط بهما ويحوطهما ضوء فجر بازغ تبشيرا بعهد جديد.
فى أغسطس 1962 وفى أعقاب ثورتها الحقيقية الجليلة المهيبة كان اللقاء الأول بين طوابع مصر وثورة الجزائر حيث نجد طابعا ملفتا بتصميمه لافتا بلونه الارجوانى الذى تتوسطه خريطة لافريقيا يخرج من موضع الجزائر وموقعها فيه علمها الشهير مع تاريخ اندلاع الثورة مكتوبا بالأرقام العربية واللاتينية وهو طابع منعت فرنسا رسميا دخوله الى بلادها وكافة مستعمراتها وعلى رأسها الجزائر بالطبع فى تطبيق وتأكيد عملى واضح على الدور الذى يمكن أن يؤديه طابع البريد.
ومن الجدير بالذكر والتذكير أن منع دولة عظمى لطابع بريد أن يدخل حدودها ليس له من سابقة- فى حدود علمى ومعلوماتى المتواضعين- إلا فى تجربة وحيدة فريدة فى ديسمبر من عام 1956 وكان طرفاها- ويا للعجب! مصر وفرنسا بسبب طابع عن العدوان الثلاثى وكان هذا الطابع وقيمته قرش واحد يباع سرا فى السوق الفرنسية السوداء بما يوازى أكثر من جنيه أى بأكثر من مائة ضعف سعره.
ومن النماذج العربية إلى الأمثلة الأفريقية، ونكتفى بتقديم تلك الطوابع الثلاثة التى أصدرها البريد المصرى عن أيقونة الثورات الأفريقية بل العالم الثالث كله فى نهاية الخمسينيات ومطلع عقد الستينيات، وهو الزعيم الكونغولى الثائر باتريس لومومبا، ومن المهم أن نوضح أنه- بخلاف ملوك مصر ورؤسائها – الشخص الوحيد الذى تكرر ظهوره على طوابع مصر ثلاث مرات كان أولها طابعا فرديا صدر فى مارس 1961 بمناسبة يوم أفريقيا التى احتلت خريطتها المساحة الكبرى من الطابع فى خلفية داكنة عدا صورة «لومومبا» الذى ظهر مبتسما تحيط به- كالقديسين- هالة بيضاء فى إشارة إلى مثالية الرجل وطهارة ثورته، أما الطابعان الآخران فكانا عبارة عن مجموعة ثنائية مختلفة التصميم صدرت فى الأول من يوليو 1962 بعد اغتيال الرجل وكان القاسم المشترك بين الطابعين هو وجود شعلة الحرية المضيئة.
إصدارات عديدة أخرى قدمها البريد المصرى فى رصده وتبشيره واحتفائه واحتفاله بثورات شعوب العرب وأفريقيا اتفقت جميعا على هدف واحد وهو تقديم الدعم المعنوى لكل الثوار أينما تواجدوا وهو هدف ظل محترما ومعتبرا من «البريد اليوليوى» حتى رحيل عبدالناصر الدرامى المفاجئ فى سبتمبر 1970 ليبدأ بعدها نفس البريد- مستجيبا لتوجهات العصر الجديد- فى مرحلة تراجع ومهادنة غير متعرض للثورات الخارجية من قريب أو بعيد اللهم إلا نماذج عفوية متقطعة صدرت بعد عقود فى عصر الرئيس مبارك لتسجل ذكرى بعيدة لثورة أو ثائر مثل ذلك الطابع الصادر عام 1983 تخليدا لذكرى الثائر ابن أمريكا اللاتينية سيمون بوليفار الذى أقمنا له تمثالا وميدانا على بعد عشرات قليلة من الأمتار من ميدان التحرير بمباركة وموافقة ناصرية، ثم ذلك الطابع الصادر فى عام 1989 بمناسبة مرور مائتى عام على قيام الثورة الفرنسية أى مجرد طوابع «بروتوكولية» تسجل ذكرى بعيدة مضت.
نقلا عن: مجلة الوعي العربي