كتب الأديب المصري سمير المنزلاوي على صفحته في فيسبوك، إنه استفاد لأول مرة من الكتابة، وابتهج بشدة، حين كان يجلس في مقهى، وتعرف إليه أحد الشباب من الرواد، وأرسل له قهوة مدفوعة الأجر.
وذكر مرة أحد الأصدقاء الشعراء، إنه استفاد في أحد الأيام من الشعر، ذلك أنه دخل إحدى الكليات الجامعية لزيارة أحد معارفه، وفوجئ بفتاة جميلة تمسك بديوان شعري له، وأسرعت إليه حالما لمحته، لتطلب توقيعه على الكتاب، وتدعوه بعد ذلك إلى إفطار جيد في مطعم الكلية.
ومرة كنت أجلس في مقهى في شارع إدجوار في لندن، أتأمل الضجيج العربي في ذلك الشارع القديم الممتلئ بروائح الشرق، وخيالاته، وأطعمته، وحتى احتياله، حين اقترب مني شاب يجر حقيبة متوسطة الحجم، وكان من الواضح أنه قادم من سفر، قال إنه جاء من دولة أوروبية، وهبط من القطار في محطة بادنغتون القريبة، وكان ذاهبا إلى موقع ما في الشارع، حين شاهدني، وأراد أن يتعرف إليّ ويبلغني بوجود أشخاص كثيرين حيث يعيش، يتابعون ما أقدمه، جلس معي دقائق وأيضا أصر على دفع قهوتي التي كانت قد بردت ولم أمد يدي إليها.
وأيضا مثلما حدث للصديق سمير، وللشاعر الذي جلس مع الجمال في مقهى الكلية الجامعية، أحسست بكثير من البهجة، والأمل وأن الكتابة أيضا ليست صنعة بائرة تماما، وهناك من يقدرها، ويمكن ببساطة أن يدفع لكاتب أو شاعر، ثمن وجبته، ويمكن بقليل من الحظ، أن تعثر على عشاق للكاتب، يتبنون إبداعه، ويروجون له.
هذه الابتهاجات الكبيرة، أمام فوائد صغيرة جدا، تبدو للأسف إنجازا عند الكاتب العربي، الذي تصيبه جراثيم الصنعة، ويظل يدور بإبداعه زمانا، يترجى الناشرين حتى يقومون بنشره، ولن ينشر إلا بعد أن يدفع قيمة النشر كاملة، ثم يجلس لينتظر الحقوق ولا حقوق أبدا، أو هي حقوق ضئيلة لا يمكن أن يعتمد عليها في أي ضرب من ضروب الحياة، لأنها ببساطة لن تشبع ذلك الضرب، بمعنى أنه لن تنصب مائدة للطعام في بيت من حقوق الكتابة، لن يتعلم ولد ولن يشفى مريض، ولن يسافر أحد من بلد إلى بلد، وفي جيبه حقوق غنمها من كتاب، ولطالما أشرنا إلى ضرورة أن لا تتسع أحلام الداخلين الجدد إلى سكة الكتابة، وأن يكتفوا بحلم أن يتعرف إليهم الناس فقط، ولا يكونوا نكرات، إن ولجوا مجتمعا ما.
وكنت وما زلت أقول لكل من يطلب مني تقديمه إلى القراء، بكتابة أسطر على ظهر كتابه الأول، إنني أستحي من تقديم الأحلام المجهضة، وحين يصر على ذلك، أكتب بغير رضى، ويخوض المبدع الجديد مغامرته، لينتهى إلى ما انتهى إليه من سبقوه.
تغيير المشهد صعب، وربما هذا الجيل الجديد، الذي غير بمفاهيمه وصلادته أنظمة ديكتاتورية مرعبة، يستطيع أن يطور في المستقبل، العلاقة بين المبدع وحقوقه الضائعة.
أنا أيضا في بداية تجربتي، كانت أحلامي متسعة جدا، وفي ذلك الوقت كانت الكتابة، وكان الرسم، وكرة القدم، كلها هوايات بلا أي فائدة مادية، والحلم كان في أن يحس المهتمون بالأدب، بتجربتي التي ظننت بتهور شديد، أنها تجربة جديدة وجديرة بالاحتفاء بها، ذهبت إلى عدد من الكتاب الكبار، طالبا تقديمي، ولم يقدمني أحد، وأذكر أن ناشرا كبيرا صرّح بأنه سينشر كتابي بلا أي تكلفة لو أتيت له بتقديم من كاتب معين، كتبت لذلك الكاتب مرات ولم يرد عليّ، وكان أن نشرت عن طريق رهن الساعة الروليكس، تلك القصة التي رويتها مرارا، ليس بغرض أن أثبت عشقي للكتابة، وإنما لأثبت مقدار تهوري، وأن تلك الهدية القيمة من والدي، كان يمكن أن تضيع بلا أي ضرورة للضياع.
في السنوات الأخيرة، بدا أن الأدب أصبح من الممكن جره في بعض الكسب، الكسب الأكبر من ثمن قهوة أو شاي أو شطائر همبرغر في كافتيريا جامعي، ذلك حين ظهرت الجوائز، حين تمددت الجوائز، وحين اختالت الجوائز في المشهد الأدبي حتى خنقته. وبدا أن كل من يريد أن يكتب، لا يفعل ذلك بسبب عشق، أو جرثومة أصابته، وإنما ليغازل جائزة، أصبحت الأفكار تتصارع في كل بيت فيه واحد يستطيع أن يصنع أفكارا، يمكن جرها في معركة سردية حامية أو غير حامية، لا يهم، الناشرون يستلمون حقوق النشر مقدما، المطابع تعمل، والبريد يحمل طرود المشاركات إلى مقار الجوائز في كل مكان، ويأتي الانتظار القلق لقوائم الجوائز، ليكسب من يكسب ويخسر من يخسر، ومن ثم تعاد الكرة مرة أخرى، إلى أن يأتي يوم تتعب فيه الجوائز، وتترجل عن المشهد أو ينزوي المبدع صحبة أحلام تهيجت سنوات، ثم خمدت..
هل ترى سنعود حين يحدث ذلك، أي حين تتلاشى الجوائز، إلى مشهد استلام سمير المنزلاوي لقهوة مدفوعة الأجر؟ إلى مشهد ضحكات الشاعر مع سندوتش الهمبرغر؟
لن أعيد المقارنة مع الغرب، وأقول أن المبدع هناك يحصل على قيمته مضاعفة من أول عمل ينشره، فقد اتضح أن الغرب نفسه ليس راعيا للأحلام الكبيرة عند كل من يبدع، هناك كتاب يحصلون على تلك القيمة، وآخرون يبقون في الظل مهما قدموا، وقد لا يحصلون على حقوق مادية أبدا.
وبالنسبة للأدب المترجم من العربية إلى اللغات الأخرى، هنا أيضا توجد أحلام مجهضة، وقليل جدا من ذلك الأدب ينجح ويحتل مكانة هناك، لذلك كل من يردد أن الترجمة حل ممكن لنا ككتاب، ستحملنا إلى التقدير الكبير، هو مخطئ أيضا.
دعونا نغير المشهد بعيدا عن القهوة مدفوعة الأجر، والجوائز التي لو أرادوا تقسيمها على كتاب الوطن العربي بلا أي مسابقات أو لهاث، لن تكفي كل المبدعين طبعا.
تغيير المشهد صعب، وربما هذا الجيل الجديد، الذي غير بمفاهيمه وصلادته أنظمة ديكتاتورية مرعبة، يستطيع أن يطور في المستقبل، العلاقة بين المبدع وحقوقه الضائعة.
نقلا عن: القدس العربي