«هناك 26 شخصًا يتحكمون في إجمالي ثروة توازي ما يمتلكه نصف سكان الكرة الأرضية أي 3,8 مليار شخص» هكذا أعلن صراحة التقرير الصادر هذا العام عن مؤسسة «أوكسفام» والذي جاء تحت عنوان «الصالح العام أم الثروات الخاصة؟»، بالتزامن مع إنعقاد المنتدى الإقتصادي العالمي «دافوس».
طرحت إنجي محمد عبد الحميد، الباحثة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، قضية تناول «مفهوم العدالة الإجتماعية»، في دراستها للدكتوراه التي تمت مناقشتها مؤخرا بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية، بجامعة القاهرة، تحت إشراف الدكتور مصطفى كامل السيد، والتي جاءت تحت عنوان «مفهوم العدالة الاجتماعية في أدبيات التنمية: دراسة تحليلية في بنية وتطور المفهوم وتطبيقاته».
د. مصطفى كامل السيد
تشير الدكتورة إنجي في دراستها إلى أن هذا التزامن ما بين صدور تقرير مؤسسة «أوكسفام»، وإنعقاد المنتدى الإقتصادي العالمي «دافوس»، إنما يعد دليلا على أن صورة الأوضاع الاقتصادية العالمية لن تكتمل دون الإشارة إلى الآثار الاجتماعية والسياسية للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية.
اقرأ أيضا:
السامريون الأشرار(1): كيف خرجت كوريا من هوة الفقر إلى قمة الثراء بعيداً عن أغنياء الغرب؟ via @aswatonline https://t.co/Ct0zUK4Mep
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 30, 2019
اللامساواة.. قرار سياسى
تضيف إنجي أنه وفقا للتقرير فإن اللامساواة ليست أمراً حتميًا، ولكنها قرار سياسي من قادة المجتمع الدولي، إذ لا يوجد أي قانون اقتصادي يفترض أن يزداد الأغنياء ثراءً بينما يموت الكثير من الفقراء نتيجة لنقص الرعاية الصحية، أو الحرمان من البيئة النظيفة لذا فإن التقرير ينادي بفرض مزيد من الضرائب على الثروة، واستخدام عوائدها في توفير الخدمات الأساسية للفقراء والمهمشين كالتعليم، والرعاية الصحية.
تشير إنجي في ذات السياق إلى تقرير منظمة العمل الدولية الصادر هذا العام أيضا والذي جاء تحت عنوان «العمل من أجل مستقبل أكثر اشراقًا» إلى استئثار ال 1% الأغنى من سكان العالم بنسبة 27% في نمو الدخل العالمي، خلال الفترة من عام 1980 م إلى عام 2016م، في حين لم يتجاوز نصيب 50% الأكثر فقرًا ال 12% فقط.
التنمية حرية
تتناول إنجي مفهوم «العدالة الاجتماعية» في سياق تناولها أدبيات التنمية مؤكدة على أن مفهوم «العدالة الاجتماعية» قد تأثر صعودًا وهبوطًا، مع تطور مفهوم التنمية ذاته، وكذا تطور الظروف السياسية المُحيطة به على الصعيد الدولي، وهو ما يفرض على الباحثين طرح عدد من التساؤلات حول قضية «اللامساواة» منها: اللامساواة في ماذا؟ وبين من؟ وهل هناك أنماط من اللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية تعتبر مقبولة، وأخرى غير مقبولة؟ وما هو المعيار الذي نقيس عليه مدى قبول اللامساواة من عدمه؟
تقف إنجي مطولا أمام طرح «أمارتيا سن» في نظريته حول التمكين وقضية العدالة الاجتماعية، في كتاباته المختلفة ومنها كتاب «التنمية حرية» ذلك أن كتابات «أمارتيا سن» تعد أحد أهم وأبرز الإسهامات التي قدمت رؤية شاملة لكيفية الربط بين العدالة الاجتماعية والتنمية على المستوى النظري، ومن ثم تحويلها إلى تطبيقات–في صورة برامج وسياسات- من خلال تقارير التنمية البشرية.
أمارتيا سن
أكد «سن» في كتاباته على ضرورة توفير عدد من الحقوق الأساسية: كالحق في الصحة، والتعليم، والسكن، والحق في حرية اختيار نمط الحياة التي يريدها الشخص، كما انتقد الفكرة السائدة حينها التي اختزلت التنمية في المؤشرات الكمية فقط كالنمو الاقتصادي، والتصنيع، والتقدم التكنولوجي.
كما أكد «سن» على ضرورة توفر عدد من المحددات الأخرى، منها: الحريات التي يتمتع بها الفرد في أي مجتمع، والتي تتضمن الترتيبات الاقتصادية والاجتماعية، ومنها على سبيل المثال: سياسات التعليم، والرعاية الصحية، وكذلك الحقوق والحريات السياسية التي يتمتع بها الأفراد.
تتناول إنجي مفهوم «الفقر» عند «سن» مشيرة إلى أنه يرى «الفقر» متعدد الأبعاد ذلك أنه يتضمن أبعاداً كثيرة بعضها اجتماعي وبعضها سياسي لذا أكد «سن» على ضرورة التركيز على قضية العدالة الاجتماعية بوصفها الهدف الأمثل لعملية التنمية، الأمر الذي يتوجب معه فَهم معناها وكيفية تحقيقها.
بالنسبة «لسن» تتحقق «العدالة الاجتماعية» عندما يتمتع الأفراد بحرية اختيار الحياة التي يريدون أن يعيشوها، ويكفي مقارنة كافة الترتيبات المؤسسية بناءً على تبعاتها على حرية الأفراد، لتحديد ما إذا كانت عادلة أم لا. ويعود «سن» ليؤكد على أن العدالة تكمن في الحريات التي يتمتع بها الأفراد في الاختيار، والتي لا تتحدد قيمتها من خلال وجود إطار مرجعي واحد شامل؛ إذ يختلف الأفراد في رؤيتهم وتوجهاتهم نحو الحياة الجيدة، هذا بالإضافة إلى عدم قدرة الدولة على تقديم مفهوم محدد لما هو صالح وعادل، وهنا يجب على الدولة أن تكون محايدة وأن توفر الظروف المواتية لتمتع كل شخص بحرية اختيار الحياة الملائمة له.
غير أن منتقدي رؤية «أمارتيا سن» يرون أنه على الرغم من اهتمامه بالتأكيد على الصحة والتعليم والسكن كحقوق أساسية يجب ضمانها ضمن نظام يراعى تكافؤ الفرص ويضمن الحريات الأساسية، وعلى رأسها حرية الاختيار، إلا أن رؤيته جاءت منقوصة ذلك أنه لم يضع إطارا عاما يحدد ماهية هذه الحقوق.
اقرأ أيضا:
السامريون الأشرار (2)..نهضت اليابان حين خالفت قواعد حرية التجارة العالمية via @aswatonline https://t.co/Ehq2jvsar1
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 30, 2019
بالرغم من تلك الإنتقادات التي وجهت لرؤية «أمارتيا سن» إلا أن تبني البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة «مفهوم التمكين» الذي دعا إليه عند إصداره تقرير التنمية البشرية قد مثل نقلة نوعية في التعامل مع قضية العدالة الاجتماعية والتنمية بشكل عام.
المؤسسات الدولية.. واتساع الفجوة
تتناول إنجي دور المؤسسات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني العالمية في تناولها لقضية العدالة الإجتماعية مشيرة إلى أن هناك تفاوت في موقف المؤسسات الدولية الرسمية من ناحية، والحركات الاحتجاجية العالمية ومؤسسات المجتمع المدني العالمية من ناحية أخرى. ففي الوقت الذي أكدت فيه المؤسسات الدولية على أهمية دور الدولة في تعزيز برامج العدالة الاجتماعية، مع تأكيدها على أهمية المبادئ الاقتصادية النيوليبرالية باعتبارها الطريقة المثلى لإدارة الاقتصاد الوطني. ترفض الحركات الاحتجاجية ومؤسسات المجتمع المدني هذه السياسات وتعتبرها السبب الرئيسي وراء اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء على المستويين المحلي والدولي، ذلك أنها ترى أن الحل الأمثل لمثل هذه المشكلات يقتضي البعد عن السياسات الاقتصادية التي فرضتها المؤسسات الدولية، وبالتالي فأية حلول مقترحة لآثارها الاجتماعية والاقتصادية، تقتضي تبني سياسات مغايرة.
تقارير التنمية وقضية العدالة الاجتماعية
تقدم إنجي في دراستها تحليلا مفصلا لتقارير التنمية البشرية مؤكدة على أن الفترة الممتدة من عام 2010 وحتى عام 2016 قد شهدت أهم مرحلة في تناول قضايا العدالة الاجتماعية ضمن قضايا التنمية، إذ اتجهت التقارير إلى التركيز على قضايا اللامساواة باعتبارها العائق الأساسي أمام تحقيق التنمية المنشودة.
الملاحظة المثيرة للجدل حول تلك التقارير أنها قد تشابهت في موضوعاتها التي طرحتها في هذه الفترة مع الموضوعات التي تناولتها خلال بداية التسعينات من القرن العشرين، والتي شملت: قضايا مكافحة الفقر، والفجوة التكنولوجية، والاستدامة البيئية، والتشغيل. غير أن الجديد قد تمثل في أن التناول قد صار أكثر حساسية للأبعاد الاجتماعية والسياسية في عملية التنمية، وأقل تركيزًا على النمو الاقتصادي باعتباره الغاية المُثلى لعملية التنمية. مع تأكيد التقارير في أكثر من موضع وأكثر من عدد على خطورة اللامساواة على التنمية، والأمن والِسلّم الاجتماعي، حيث جاء ذكر القضاء على اللامساواة بكافة أشكالها داخل البلدان وفيما بينها، ضمن أهداف التنمية المستدامة ليمثل اعترافًا دوليًا بأهمية هذه القضية.
غير أن إنجي في ختام دراستها تلفت النظر إلى قلة الدراسات التي قدمتها المنطقة العربية حول قضية «العدالة الاجتماعية» على الرغم من وجود إسهامات كثيرة للعديد من المُنظّرين من الدول النامية كالهند وزامبيا وغيرها من بلدان آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وذلك باستثناء مساهمات بعض المفكرين العرب والمصريين البارزين، مثل: «سمير أمين» و«إسماعيل صبري عبد الله».