ما أكثر البطولات الشعبية التي شهدتها مدن وقرى مصر وأهملها التاريخ الرسمي لأن صناعها كانوا ببساطة أفراداً عاديين لا يميزهم لقب ولا يحملون أية رتبة إجتماعية.
ومن هذه البطولات، قصة شهدتها مدينة بورسعيد الصامدة إبان ما عرف باسم العدوان الثلاثي في عام 1956.
قرار عبد الناصر
بدأت القصة في صيف ذلك العام وتحديداً في السادس والعشرين من شهر يوليو، حين اتخذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قراراً بالرد على الإهانة التي وجهتها الولايات المتحدة وتحديداً البنك الدولي الذي يتخذ من واشنطن مقراً له بقرارها سحب تمويل مشروع السد العالي الذي كانت مصر تراهن عليه لتنمية اقتصادها الناهض
وجاء الرد مدوياً في خطاب ألقاه عبد الناصرفي ميدان المنشية في مدينة الإسكندرية أمام حشد هائل من المواطنين، حيث تلا بياناً جاء فيه قرار الحكومة المصرية بتأميم شركة قناة السويس الدولية التي كانت حتى تلك اللحظة «دولة داخل الدولة» على حد تعبير بعض المؤرخين بسبب إدارتها الإنجليزية والفرنسية المشتركة.
أثار القرار بطبيعة الحال ردود فعل متباينة، ففي حين عمت الأفراح الشارع المصري والعربي بشكل عام، كان السخط هو الغالب فى العواصم الأوروبية وبخاصة باريس ولندن.
وبعد أشهر من محاولات ترهيب مصر للتراجع عن قرارها وهى محاولات لم تجد نفعاً، قرر كل من أنطوني إيدن رئيس الحكومة البريطانية آنذاك ونظيره الفرنسي جي موليه وديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني التحالف لشن عمل عسكري ضد مصر.
وشهدت مدينة سيفر الفرنسية اجتماع المسئولين الثلاثة والاتفاق بينهم على كيفية شن الهجوم والذي بدأ بالفعل في 26 أكتوبر عام 1956 بتوغل صهيوني في سيناء ثم تبعه إنزال بريطاني فرنسي مشترك للمظليين في منطقة القناة.
بطولة مصرية وإعجاب إيطالى
وهنا تحولت مدينة بورسعيد بأكملها إلى خلية مقاومة نشطة ضد الغزاة، حيث فتحت مخازن السلاح لأبناء الشعب ووُزع على المتطوعين ما يقرب من نصف مليون قطعة، وحمل القادرون من الرجال من سن الخامسة عشرة وحتى الخمسين الأسلحة دفاعاً عن تراب الوطن.
ولم يقتصر الدور الوطني في بورسعيد على جنود الجيش أو رجال الحرس الوطني أو حتى أفراد المقاومة الشعبية الباسلة بل تعداه إلى أفراد الأمن الذين برز منهم اسم الشهيد السعيد حمادة.
ووفقا لصحيفة «دومينكا دلكوبر» الإيطالية، فقد كان الشهيد مكلفاً من قبل قادته بحراسة القنصلية الإيطالية في بورسعيد، وسرعان ما وجد نفسه في أتون العدوان على المدينة والتي تعرضت لقصف جوي عنيف لم يفرق بين حي وآخر.
القنصلية الإيطالية ببور سعيد
ومع اشتداد القصف واقترابه من مقر القنصلية، بدأت الشظايا تطال المكان وكان السعيد في مرمى النيران، الأمر الذي دفع القنصل الإيطالي الذي أشفق عليه لدعوته لدخول مبنى القنصلية حتى ينجو بحياته معتبراً أن الصفة الدبلوماسية للقنصلية من شأنها أن تحمي من بداخلها وتردع الغزاة عن قصفها.
إلا أن حمادة ورغم تقديره لعرض القنصل إعتذر له عن دخول مبنى القنصلية مؤكداً أن واجبه كإنسان مصري أولاً وكفرد أمن ثانياً يفرض عليه أن يبقى في موقعه وأن يواصل دفاعه عمن كلف بحمايتهم من العاملين في القنصلية ومن رعايا إيطاليا في المدينة.
ورغم أن القنصل أكد لحمادة أنه يعفيه من واجب الحراسة إلا أن الأخير حسم الأمر بجملة قاطعة حين قال للقنصل: «هذا مكاني ولن أغادره أبداً».
وصدق ما تنبأ به حمادة، فمن لا تردعهم شرائع الأرض والسماء لا يردعهم علم أجنبي يرفرف على مبنى، فاشتد القصف على الموقع وبقي الجندي المصري في موقعه ثابتاً وصامداً إلى أن أصيب بشظية إصابة بالغة أدت إلى استشهاده.
ويصف مراسل الجريدة الإيطالية المشهد بقوله: «النيران اشتدت بعد ذلك وارتفعت ألسنة اللهب فى كل مكان وانمحت أحياء بأكملها على أرض بورسعيد وسقط الشهداء بالمئات، خرجنا نتفقد آثار المعركة، وعلى باب القنصلية تسمرت أقدامنا فقد كان المشهد قاسيا للجندى المصرى البطل، وقد تمدد جسده على الأرض بلا حياة وسط بركة من الدماء ويده اليمنى تقبض فى إصرار على سلاحه».
وكانت مشاعر الحزن والفقد تسيطر على أبناء الجالية الإيطالية وهو يحملون الجسد المسجى للمصري الذي قدم روحه وهو يصر على حمايتهم حتى الرمق الأخير.
ورغم أن قصة الشهيد حمادة لم تنل ما يليق بها من اهتمام إعلامي، إلا أن الفن بوصفه ضمير الشعوب انصف الشهيد بتخليده في أغنية لازالت تتردد كلماتها في جنبات بورسعيد حتى يومنا هذا.
حيث ألهمت قصة حمادة البطولية الشاعر البورسعيدى كامل عيد الشهير بشاعر المقاومة والذي كان أحد الذين حملوا السلاح دفاعاً عن مدينته في عام 1956 وأسس في أعقاب 1967 وإبان حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973 فرقة شباب النصر التي استخدمت فن السمسمية وموسيقى الضمة التقليدية المعروفة لسكان مدن القناة لتقديم أغان وطنية هدفها شحذ همم الجنود والمدنيين على حد سواء أثناء تلك الفترة من تاريخ مصر.
الشاعر البورسعيدى كامل عيد
ما أن سمع كامل عيد بقصة السعيد حمادة حتى سطر أغنية بعنوان «بلدي يا بلد الفدائيين» تقول كلماتها:
«بلدي يا بلد الفدائيين
بلدي يا بلد الثوريين
بافخر بيكي في كل مكان
واحلف بيكي بألف يمين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
بلدي يا بلد الفدائيين
يا للي تاريخك كله نضال
يا للي شبابك كله جمال
يا ما ترابك فيه أبطال
هزموا جيوش المحتلين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
اسمع قصة جندي شهيد
ابن بلدنا الحر سعيد
ضحى بهمة وعزم حديد
يوم عدوان ستة وخمسين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
كان يومها ماسك دورية
ع القنصلية الايطالية
مليان حماسة ووطنية
عن الأعادي ما غمض عين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
واقف وايده علي زناده
يحمي الأجانب في بلاده
ويحمي أرضه وأمجاده
من الوحوش الهمجيين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
لما العدو فقد عقله
من اللي شافه وحصل له
ضرب بوحشية قنابله
لكن قنابله تخوف مين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
قنصل إيطاليا طلع انسان
قال لسعيد أنا عندي أمان
تعالي تنجى من العدوان
واحنا لجميلك مش ناكرين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
رد سعيد بصوت عالي
بعد الوطن إيه يبقالي
أموت شهيد وطن غالي
ولا أشوفش راية المحتلين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
سقط شهيد الحرية
علي رصيف القنصلية
وتاني يوم الصبحية
بكوا عليه الايطاليين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين
بلدي يا غنوة علي لساني
حبك في دمي وكياني
فداكي أهلي وأوطاني
وبكره راح نفدي فلسطين
آه يا بلدي يا بلد الفدائيين»
وتحولت الأغنية إلى جزء لا يتجزأ من تراث السمسمية في منطقة القناة وتناقلتها الأجيال وتناقلت معها قصة البطل المصري، الذي استشهد على أرض بلاده وبكاه الأوروبيون .