رؤى

الوهابية المرتبكة.. التحدي الجهادي(2-2): أسامة بن لادن والشباب السعودي والجهاد الأفغاني

كان أسامة بن لادن جزءاً من التيار الإسلامي العام في السعودية تنسبه بعض المصادر لإخوان الحجاز. ومع ظهور الدعوة للجهاد الأفغاني مطلع الثمانينيات تأثر بالدعوة إليه وتعاون مع عبد الله عزام حيث كان هو من ينفق علي مكتب الخدمات، ولكنه استقل بعد ذلك  وأسس ما أُطلق عليه «مأسدة الأنصار». كان تصور «بن لادن» يقوم علي تأسيس قوة جهادية للعرب تستفيد من الجهاد الأفغاني وتوظفه لصالحها ولا تكون مرتهنة له وتكون ذات طابع مؤسس علي عقيدة التوحيد الصحيحة، واضعة في اعتبارها ملاحظات علماء الوهابية التقليديين وعلماء الصحوة البازغين في ذلك الوقت كسفر الحوالي.

اقرأ أيضا:

تأسيس القاعدة

بدأ أسامة بن لادن وأصدقاء طفولته بتكوين النواة الأولي للسعوديين ضمن الجهاد الأفغاني منذ منتصف الثمانينيات، وتبع ذلك التجنيد المنظم للشباب السعودي الذي اخترق – في حقيقة  الأمر-الانتماءات الرخوة في الغالب لجماعة الإخوان في الحجاز ومناطق الشرق و الشمال السعودي، لم تكن شبكات الإخوان مهتمة كثيرا بقضايا العقيدة للأفغان وإنما كان يهمها بشكل رئيسي تعزيز مفهوم الجهاد واستخدامه لتأسيس ما صار يُعرف بعد ذلك بـ «تنظيم القاعدة» عام 1988الذي نشأ في جوهره وأساسه من الجهاديين السعوديين الذين مروا بالحرب الأفغانية وكونوا شبكات جديدة بخبرات جهادية مختلفة عن تلك الخبرات الهشة والضيقة للجماعات الداخلية في المملكة، والتي كان أغلبها ينتمى للإخوان السعوديين والسروريين الذين قاوموا وبقوة التيار الجهادي الجديد، وقد كانوا في ذلك قريبين جدا من المؤسسة التقليدية ومن الحكومة السعودية التي رأت في هذا التيار الجديد خطرا مع نهاية الثمانينيات، صحيح أن الهلال الأحمر السعودي وهيئة الإغاثة الإسلامية وعموم المجال الديني التقليدي والصحوي كانوا جميعا يؤيدون الدعم المالي وجمع التبرعات والدعم الدعوي في مطلع الثمانينيات – بيد أن الجميع مع تطور الحالة الجهادية العربية المستقلة التي أسسها «أسامة بن لادن» بتسفير الشباب السعودي وتجنيده لصالح الجهاد قبل أن يغرب عقد الثمانينيات قد أخافت الجميع ،ولم يعد العرب جزءاً شائعا في حالة جهادية أفغانية وإنما أسس ما عٌرف باسم «الأنصار» الذين هاجروا لدعم الجهاد دون أن يذوبوا في حالته المحلية الأفغانية الخاصة.

لقاء الجهاديين المصريين والسعوديين

كان جذب الشباب إلي المعركة مع الروس في أفغانستان من كل العالم الإسلامي خاصة العالم العربي قد أعطي للجهاد المعني المعولم المجاوز للحدود أيضا –، وهنا التقي الجهاديون المصريون مع السعوديين حيث تلاقحت خبرة المصريين التنظيمية والحركية والفقهية مع القدرات المالية والكاريزما الشخصية  لأسامة بن لادن، وقاد ذلك فيما بعد لاندماج الكتلة الأكبر من الجهاديين المصريين فى تنظيم القاعدة الذي كان جوهره بالأساس سعوديين قبل أن يكتمل ليصبح فيما بعد «قاعدة الجهاد» قبل ثلاثة أعوام من أحداث 11 سبتمبرعام 2001 التي غيرت شكل العالم والعلاقات الدولية والإقليمية فيه، ووضعت تنظيم القاعدة كأكبر تحد لأمريكا والعالم الغربي، كما اعتبرته النظم في الداخل أكبر خطر عليها وبدأ إسلاميوها في الداخل بما في ذلك علماء الصحوة في السعودية يتخذون مسافة بعيدا عنه للابتعاد عما بدا أنه ذهاب للعنف واستخدام القوة والتكفير ضد النظم المحلية بما في ذلك النظام السعودي نفسه.

‎كان أنصار الصحوة «الصحويون» يريدون إصلاحا للنظام من الداخل ونقدا للتيارات الدينية التقليدية الوهابية في تحالفها معه  واستئثارهم وحدهم بالمجال الديني دون فتح الباب لتجاوز الأرستقراطية النجدية من آل الشيخ، وفي تحولات ما بعد دخول مثقفي الصحوة من غير المتخصصين في علوم الدين فإن الصحويين انتقدوا ما اعتبروه نزوعا غاليا للوهابية في مواجهة فئات مجتمعية يتم وصفها بالكفر كالشيعة في المناطق الشرقية وصوفية الحجاز.

‎كان وجود أبو محمد المقدسي في أفغانستان وهو خريج مدرسة الحديث ذات الطابع السلفي وتقاربه مع التيارات الجهادية  المصرية والسعودية هناك – هو من ألهمهم فكرة تكفير النظام السعودي وقد ألف كتابه «الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية» في أفغانستان في عام 1990، وقد كان أحد ملهمي الجماعة السلفية المحتسبة وجهيمان العتيبي فقد زار مقراتهم في المدينة ومكة حين كان يطلب العلم الشرعي هناك بناءً علي مراسلات له مع بن باز، حيث كان يرغب في دراسة الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهو مالم يحظ به، وكان له صلة قوية بأحد علماء السعودية الذي كان حانقا علي المؤسسة الوهابية والحكومة السعودية وهو «حمود بن عقلا الشعيبي» الذي يعد الشيخ الأهم لتيار السلفية الجهادية في السعودية، فقد كان أستاذا لرموز التيار الجهادي السعودي «علي الخضير وناصر الفهد وأحمد الخالدي»، وهؤلاء جميعا كانوا يؤيدون حكومة طالبان ويعتبرون الملا عمر ونموذجه هناك النموذج الأمثل بما في ذلك تحطيم تماثيل بوذا في منطقة باميان، واعتبر هؤلاء أن أحداث 11 سبتمبر هي نوع من الجهاد ضد الأمريكان.

اقرأ أيضا:

التيار الجهادي السعودي

‎حتي مطلع التسعينيات كان التيار الجهادي السعودي يركز اهتمامه بالجهاد المعولم والأممي مع بقاء خيط رفيع مع الحكومة السعودية التي لم يعلن أنه يناصبها العداء. كان بن لادن مهتما بتجميع الجهاديين السعوديين للقتال في اليمن الجنوبي ضد النظام الماركسي هناك، فقد كان قتال الكفار مقدما علي قتال النظم حتي ذلك الوقت، وحين غادر بن لادن المملكة في العام 1991 إلي باكستان ثم إلي السودان حيث التقي هناك أيمن الظواهري وقدامي المجاهدين القادمين من أفغانستان من المصريين خصوصا، فإن السعودية رأت وجوده (مصدر قلق لها) خاصة وأن حسن الترابي الذي كان له الكلمة العليا في توجيه سياسة السودان في ذلك الوقت قد رفض استقدام القوات الأمريكية إلي السعودية بعد حرب الخليج الثانية، وحين لم يُصغ بن لادن لنصائح الناصحين له بالعودة إلي البلاد فإن السعودية قد جمدت حساباته عام 1992 وسحبت منه الجنسية عام 1994 بموجب مرسوم من الملك فهد. في ظل وجود أمريكي في السعودية وانخراط الحكومة بشكل أكبر في شن حملات اعتقال ضد رموز الحالة الصحوية منذ عام 1994، وفقدان الصحوة لبني تحتية حقيقية تدافع عن العلماء المعتقلين، بدا أن تنظيم القاعدة والجهاديين وتيارات المتشددين المؤيدة لهم هي من ستحتل المشهد في البلاد. ففي العام 1996 نشر أسامة بن لادن «إعلان الجهاد علي الأمريكيين المحتلين لبلاد الحرمين».

الملك فهد بن عبد العزيز وقائد قوات التحالف بحرب الخليج الثانية نورمان شوارتسكوف

‎وفي أفغانستان أتاح صعود طالبان وانتصارها علي الجماعات المتناحرة وأمراء الحرب بعد نهاية الجهاد الأفغاني منذ عام 1994 واستيلاؤها علي قندهار عام 1996، لأسامة بن لادن وتحالفه الجهادي الأممي الجديد ذى الطابع السري – ومع  عدم الترحيب بوجودهم في السودان – الملاذ الآمن الجديد، والقوة التي جمعت الجهاديين جميعا ليصدروا عام 1998 بيان «الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين» والتي كانت النواة للتخطيط للحدث الكبير وهو ضرب الولايات المتحدة في عقر دارها واستهداف مركز التجارة العالمي والبنتاجون، وهو ما قاد لإعلان الولايات المتحدة الحملة التي أطلقتها لما عرف باسم الحرب علي الإرهاب فهاجمت طالبان وأسقطت حكمها بعد رفض الملا عمر تسليم «بن لادن» لها.

‎ اعتبر الجهاديون السعوديون شن الحرب علي طالبان وإسقاط حكومتها حملة صليبية أمريكية علي العالم الإسلامي، فألف «ناصر الفهد»، وهو أحد الرموز الجهادية السعودية الجديدة، «التبيان في حكم من أعان الأمريكان» وفيه اعتبر أن من يساند الأمريكان أو يواليهم أو يعاونهم بأقل عون، حتي ولو كانوا مواطنين أمريكيين مسلمين، فهو كافر وفي أقل المراتب هو آثم، وقدم للكتاب «حمود بن عقلا الشعيبي» شيخ ذلك التيار والمؤيد لحكومة طالبان والداعم للملا عمر والمزكي للنموذج الطالباني كما شاركه في هذا التقديم «سليمان بن ناصر العلوان» و«علي بن خضير الخضير» وهما من رموز للتيار الجهادي السعودي الجديد أيضا، وقد أضاف «ناصر الفهد» جزءًا ثانيا من كتابه «التبيان في حكم من أعان الأمريكان» بعد الغزو الأمريكي للعراق، وهو ما يحمل ضمنيا اتهامه للنظام السعودي بالكفر لأن أراضي السعودية كانت تُستخدم من قبل الأمريكان في ضرب العراق.

القاعدة في جزيرة العرب ورثة الصحوة

‎ظهر تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» كتحالف بين الشبكة السعودية المحلية التي كانت السجون أحد جسور التعارف بينها وبين شبكة الجهاد العالمية بقيادة «أسامة بن لادن»، وبدأ التنظيم عملياته في الرياض ضد ثلاثة مجمعات سكنية مغلقة خاصة بالأجانب في مايو 2003، أي بعد شهرين تقريبا من الغزو الأمريكي للعراق- وقُتل في هذه العملية 39 شخصا وهو ما جعل السلطات تتعقب رموز ذلك التيار. وتقبض عليهم ثم يخرجون علي شاشات التليفزيون السعودي ليقروا بأخطائهم في الفتاوي التي أطلقوها بشأن الجهاد وبشأن التيارات المخالفة لهم فكريا، وليؤكدوا أن الجهاد لا يجوز إعلانه إلا بإذن ولي الأمر. فعل ذلك «علي الخضير» و«ناصر الفهد» و«أحمد الخالدي»، وهو ما مثل ضربة كبيرة لذلك التيار بفقدانه لرأسماله «العلمائى» المؤيد له.

‎تتابعت بعد ذلك عمليات تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ومنها الهجوم علي مجمع المحيا في نوفمبر 2003 وقتل خلاله 17 شخصا. كما نفذ التنظيم عمليات قوية في العام 2004 استهدفت مجمعات سكنية ومنشآت نفطية إلى جانب استهداف القنصلية الأمريكية في جدة واستهداف مواطنين غربيين في السعودية. بيد أن التنظيم خبا منذ العام 2005 ونقل نشاطه إلي اليمن الذي كان له وجود قديم به منذ مطلع التسعينيات، والذي أثمر تفجير المدمرة الأمريكية كول في خليج عدن عام 2000 وقتل فيه 17 بحارا أمريكيا.

‎هكذا بدا ظهور تنظيم القاعدة المسلح في السعودية كومضة خاطفة لم يُقدر لها التجذر أو الاستمرار في الوجود، لأن أعضاءه وعلي رأسهم «يوسف العييري» الذي كتب كتاب «حقيقة الحرب الصليبية»، وقتل من بعد في المواجهة مع الأمن السعودي، اعتبروا أنفسهم وارثي الصحوة في السعودية وهاجموا علماءها وعلي رأسهم «سلمان العودة» الذي بدأ يراجع مقولاته حول العمل السياسي وتحدي الدولة السعودية والعلماء الرسميين لها.

وضع الجهاديون أنفسهم في مواجهة علماء الصحوة الذين ابتعدوا عن التيار الجهادي وأعلنوا إدانتهم لأعمال العنف التي مارسها واستخدامه القوة المسلحة بما في ذلك إدانتهم لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وعمليات القتل والعنف التي حدثت في العام 2013، كان التيار الجهادي يفتقد كما الصحوة من قبله لبنية مستقلة ولم يغنه أو يفده ارتباطه بالتيار الجهادي الأممي الذي نشأ خارج البلاد وفقد أغلب بنيته وموارده بعد الضربات التي وجهت له منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ظل التنظيم يعمل في اليمن حتي اليوم ولكنه لم يقدر له البقاء في السعودية، ووقف الصحويون بعد خروجهم من السجن في نهاية التسعينيات مع الدولة في مواقفها ضد الجهاديين السعوديين الذين خرج أغلبهم للالتحاق بتنظيم القاعدة في العراق مع جيل جديد هو جيل الستينيات بزعامة أبو مصعب الزرقاوي وأبو حمزة المهاجر بينما واجه جيل الخمسينيات المؤسس إما قتلا كما حدث لأسامة بن لادن الذي قتل في «أبوت آباد» بباكستان علي يد قوة أمريكية عام 2011 بعد قليل من نشوب ثورات الربيع العربي، أو مراجعة لما كان أقدم عليه وتحمس له، وبدا أن نموذج الثورات يطرح منطقا جديدا مختلفا عن منطق التنظيمات الجهادية السرية التي تستخدم العنف، بيد أن ظهور أجيال جديدة من الجهاديين كان مرتبطا بقوة بفتح الجبهة السورية وجبهات أخري لدول سقطت بعد الربيع العربي، ولا تزال تلك التنظيمات تمثل تحديا كبيرا للمؤسسات الدينية التقليدية في العالم الإسلامي وعلي رأسها المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية.

 

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock