منوعات

عن سارتر وفلسفته وتطور نظريته (3-2): مشروع الماركسية الوجودية

رونالد أرونسون – أستاذ تاريخ الأفكار في جامعة وين ستيت بالولايات المتحدة الأمريكية

عرض وترجمة: أحمد بركات

برز اهتمام سارتر بالعلاقة بين القوة الإنسانية والحتمية التاريخية في العنوان الذي اختاره لكتابه الذي نُشر في عدة مجلدات وضمنه مجموعة غير قليلة من مقالاته. ظهر المجلد الأول من هذا الكتاب Situations (المواقف) في عام 1947. ومن خلال تصور «أن تكون في موقف معين»، سبر كتاب Being and Nothingness (الكينونة والعدم) باستفاضة أغوار «حريتنا الإنسانية التي لا مفر منها»، والمتجذرة في «قدرة الوعي الإنساني على مجابهة أو تجاوز الواقع أو المعطيات التي نجد أنفسنا بداخلها».

اقرأ أيضا:

نظرية المواقف

فالقول بأننا دائما «في موقف معين» يعني الاهتمام بما يقيد أفعالنا، سواء كان ذلك متمثلا في واقعنا التاريخي أو الاجتماعي، بدءا من اللغة والبيئة ومرورا بالطبقة والجنس والنوع ووصولا إلى التنشئة الإجتماعية والأسرية. «إننا» – كما يؤكد سارتر – «في موقف ما، لكننا لسنا مُسيرين حتى النخاع». فالحرية عند سارتر تفتقد المعنى خارج ’مواقف وأوضاع‘ قائمة وملموسة، مهما كانت ظالمة أو مقيِدة. وفي إطار محاولته لفهم ’المواقف‘ الظالمة، يلتقي سارتر بقوة مع المقاربات الماركسية للبنى التاريخية والاجتماعية. وقد تركت نظرية ’المواقف‘ بصمة عميقة على الثقافة الفكرية التي سادت هذا العصر، وعبرت عن نفسها بقوة في «الأممية الموقفية» Situationist International، وهي حركة ثورية اجتماعية ساعدت على إشعال فتيل ثورات الطلاب في عام 1968.

Image result for ‫ثورات الطلاب في عام 1968‬‎

في هذه الفترة عبر سارتر بجلاء عن استقلاله الفكري الذي لم يبرحه طوال حياته، وأعلن بقوة تنكره للدوجماتية أيا كان منشؤها. وتماشيا مع روحه الفلسفية شهدت توجهاته والتزاماته السياسية عددا من التحولات بحسب تطور المواقف والأوضاع. فرغم إسهامه في تأسيس حزب «التجمع الديمقراطي الثوري» (RDR)، في معارضة واضحة «للحزب الفرنسي الشيوعي» (PCF)، إلا انه تحول فيما بعد إلى رفيق سفر وترحال للحزب الفرنسي الشيوعي عندما تعرض الأخير لحصار خانق إبان سنوات الحرب الباردة. في هذه الرحلات كان سارتر حريصا على أن يعلن أن «اتفاقه مع الشيوعيين» لا يعدو موضوعات محددة ومحدودة، وأن موقفه المتعاطف يأتي «انطلاقا من مبادئي وليس من مبادئهم». في هذا الوقت أيضا، انفصل سارتر تماما وعلنا عن ألبرت كامو في عام 1952، الذي كان قد تحول إلى مناهض لدود للشيوعية.  

Image result for ‫الحزب الفرنسي الشيوعي‬‎

وفي نهاية الخمسينيات، غدا ارتباط سارتر الفلسفي بالماركسية أكثر منهجية. فقد أعلن نفسه بوضوح «ماركسيا يبحث عن المنهج»، وذلك من خلال كتابه Search for Method (البحث عن المنهج) (1957)، الذي أكد فيه أن الماركسية هي «فلسفة هذا العصر». لكنه شدد أيضا على أنها تتعرض للجمود والتكلس على يد «ماركسيي اليوم» (في إشارة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي). فالماركسية، كما ارتأى سارتر، بحاجة إلى نوع من إعادة التفكير الذي يمكن أن تمنحه الوجودية. ولكي تعود إلى الحياة، يجب على الماركسية أن تستبدل حتميتها الميكانيكية بما أسماه سارتر «التطبيق العملي الإنساني» Human Praxis (فالإنسان هو من يصنع تاريخه).

وحتى تنصف الماركسية الإنسان، كما أشار سارتر، ستبقى الوجودية كيانا فكريا شبه مستقل يبحث في موضوعات الكينونة الاجتماعية والحتمية الذاتية الفردية للإنسان. ورغم أن تشديد سارتر السابق على الحرية ظل على حاله دون تغيير، إلا أنه صار ينظر إليها على أنها محكومة بالتاريخ والمجتمع.

وفي كتابه Critique of Dialectical Reason (نقد العقل الجدلي) (1960)، الذي تحول إلى مقدمة لكتاب Search for a Method، طور سارتر هذه الموضوعات إلى درجة كبيرة. بدأ نقد سارتر للعقل الجدلي من التطبيق العملي الفردي وسعى إلى وضع الأسس الفلسفية للماركسية إضافة إلى فهم الأسباب التي جعلت الماركسية «فلسفة متكلسة». يتتبع المجلد الأول The Theory of Practical Ensembles (نظرية الفرق العملية) (1960) باختصار أصول النضال الجماعي، واصفا الخطوات التي من خلالها يلتئم الأفراد معا لتشكيل حركة ثورية. لم يكن واضحا إذا كان المقصود من ذلك طرح عملية تاريخية واقعية، أو منطقا عاما لأي ثورة، أو مسارا يجب أن يتبعه الحزب اللينيني. ولم يمهل الأجل سارتر حتى ينهي مجلده الثاني، الذي نشر بعد موته في عام 1985. يربط الكتاب التالي The Family Idiot (معتوه العائلة) (1971) أيضا بين الأفكار الماركسية والوجودية، وعلى غرار سابقه فقد هذا الكتاب مؤلفه قبل إتمامه.

تطور هذه الكتب الثلاثة – «البحث عن المنهج» و«نقد العقل الجدلي» و«معتوه العائلة»، إضافة إلى كثير من المقالات التي شملها كتاب «المواقف»، نظرية الماركسية الوجودية. كان هدف سارتر من هذا الدمج بين الفلسفتين هو التصدي لحالة الشيخوخة المبكرة التي أصابت الجسد الماركسي، وليس «نبذ الماركسية باسم طريق ثالث، أو باسم النزعة الإنسانية المثالية».

ولنزع أي قداسة أو علم بالمآلات عن الماركسية، يرفض سارتر أطروحة أن أحجية التاريخ قاب قوسين أو أدنى من أن تحل، وأن البشرية تعيش مخاض تحول سيقضي في نهايته على ذلك الإحساس بالاغتراب ويحقق معنى التاريخ الإنساني. وعندما يعلن أن «الجدلية ليست حتمية»، فإنه يشدد على البعد الذاتي غير الموضوعي للتاريخ، وينبذ حلم التحول الطوباوي الذي من شأنه أن يقيم مرة واحدة وإلى الأبد «مملكة النهايات الكانطية». لقد رفض سارتر جملة وتفصيلا الآلية الماركسية أحادية الاتجاه التي بموجبها تحدد «القاعدة» «البنية الفوقية» (المؤسسات ونظم الحكم). وأصر – بدلا منها – على أن التاريخ صنيعة الإنسان، وأن المستقبل دائما مفتوح على كل الاحتمالات.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock