منوعات

عن سارتر وتطور فلسفته ونظريته 3-3 إذا أرادت الماركسية أن تُبعث من جديد فعليها بـ«سارتر»

رونالد أرونسون – أستاذ تاريخ الأفكار في جامعة وين ستيت بالولايات المتحدة الأمريكية

عرض وترجمة: أحمد بركات

تبدو أفكار سارتر الآن لكثيرين عتيقة ومبهمة، أو بعبارة أخرى مجرد استجابة لضغوط – سواء تاريخية أو فكرية – قد خَفتَ وهجها وانطفأ أوارها منذ زمن بعيد. فمع سقوط الشيوعية، تقوضت أدوات الماركسية. وشرع سارتر نفسه في التحول عن الماركسية في المرحلة الأخيرة من عمره لأسباب فكرية، إضافة إلى فقده بصره الذي منعه من استكمال طرحيه الماركسيين المهمين Critique of Dialectical Reason (نقد العقل الجدلي) (1960) وThe Family Idiot (معتوه العائلة) (1971). كما ترك سارتر الحزب الفرنسي الشيوعي بسبب معارضة الأخير لانتفاضات الطلاب التي اندلعت في مايو 1968. وفي وقت لاحق من العام نفسه أبدى كفرا بواحا بالاتحاد السوفيتي بعد قيامه بغزو تشيكوسلوفاكيا. وشرع على إثر ذلك في توطيد علاقة مهمة مع الثوار الماويين الشباب المناهضين للماركسية الذين أفرزتهم الحركة الطلابية.

الماركسية.. توجه فلسفى وطموح سياسى

لكن – كما تبين بعد ذلك – لم تكن أخبار موت الماركسية دقيقة في مجملها. وبعد أن تربعت الرأسمالية على عرش العالم بلا منازع على مدى جيل بأكمله، شهد الفكر الماركسي تجديدا شعبيا، بعد أن تحرر بشكل متزايد من أغلال المكارثية والحرب الباردة. أما عن أسباب ذلك فيخبرنا سارتر «لا نستطيع أن نتجاوزه لأننا لم نتجاوز الظروف التي أوجدته». فبالنظر إلى أننا لم نطح بالرأسمالية، فإن الماركسية تبقى كتوجه فلسفي وطموح سياسي.

لم يقتصر هذا البعث الماركسي على شكل الحركات والأحزاب العمالية، وإنما تحول إلى طرق جديدة ومبتكرة للتفكير النقدي في الرأسمالية، خاصة فيما يتعلق بعدم المساواة والأزمات المالية. ولا عجب أن هذا النقد قد شهد طفرة بعد عقد من الرأسمالية التقشفية الذي أعقب فترة الركود العظيم «Great Recession». كان الوعي يتنامى، خاصة بين أجيال الشباب، بضرورة وجود بديل للرأسمالية، وبضرورة أن يمر هذا البديل، بغض النظر عن التفاصيل، عبر بوابات الاشتراكية. وشكل الاشتراكيون في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لأول مرة في تاريخ البلدين قوة سياسية حقيقية على الأرض. وأعاد بيرني ساندرز كلمة «الاشتراكية» إلى قاموس الخطاب السياسي الوطني، وشهدت قوائم الاشتراكيين الديمقراطيين في الولايات المتحدة طفرة تاريخية غير مسبوقة بعد أن ارتفعت نسب التسجيل من 7000 إلى 50000 في أعقاب اعتلاء الرئيس دونالد ترامب سدة البيت الأبيض.

في ظل هذا البعث، تبقى عودة الحركة الماركسية الخاصة بالطبقة العاملة من عدمه أقل أهمية من المعاناة التي ترزح تحت نيرها هذه الطبقة وغيرها – بما في ذلك البيئة ذاتها – تحت وطأة الحكم الرأسمالي. إضافة إلى هذا الشعور، أصبح هناك إدراك متزايد لفكرة المادية التاريخية التي يعتبرها سارتر «بنى وأولويات اقتصادية تؤثر بشكل حاسم على السياسة والثقافة، وتقيد- ما لم تكن محدِدة بصورة مطلقة – كل ما هو ممكن». حتى لو لم تعد الماركسية هي فلسفة عصرنا الحالي، فمن المقدر لها أن تبقى مصدر إلهام قوي للفكر والتنظيم المناهضين للرأسمالية.

في المقابل، لو كان مقدرا لهذا البعث الماركسي أن ينجح فسيتعين على الماركسية مرة أخرى أن تنهل من سارتر، لأن تأكيده على الحرية يتجاوب من ناحية مع ثقافة سياسية أمريكية تتشكك بقوة في الملكية الجماعية وسيطرة الدولة على الإنتاج، ولأنه يساعدنا من ناحية أخرى على فهم الأسباب التي أدت إلى فشل الماركسية.

مقبرة الآمال الثورية

لقد سبر سارتر أغوار هذه القضية بعمق في الجزء الثاني – غير المكتمل – من كتابه (نقد العقل الجدلي) الذي تناول فيه كيفية تحول الثورة البلشفية إلى مقبرة للآمال الثورية، والتأسيس لواحد من أكثر الأنظمة السلطوية الوحشية في القرن العشرين.

وكما أدرك كثير من المفكرين السود، يمثل سارتر الماركسي الوجودي مصدرا حيويا لفهم الذات. ففي تقدمته لكتاب فرانز فانون The Wretched of the Earth (معذبو الأرض) (1961)، يقدم سارتر لفكرة العنف المضاد، ويبحث الوسائل التي تمكنت من خلالها الشعوب المستعمرة من هزيمة الاحتلال والانخراط في المقاومة. كما عول ستوكلي كارمايكل على أفكار سارتر في خطابه الشهير الذي ألقاه في عام 1966 تحت عنوان Black Power (القوة السوداء). وكانت نظرية الحرية عند سارتر هي التي وثقت عرى تحزبه الشديد إلى جانب المقهورين، بدءا من الأفارقة السود الذين رزحوا تحت نير الاستعمار إلى العمال الفرنسيين المهمشين والمستغلين. أما الوجه الآخر من دفاعه عن المظلومين فيتمثل في مقته الشديد للظالمين، مثل الطبقة البرجوازية (التي هاجمها بضراوة في كتابه Nausea (الغثيان) (1938))، والأرستقراطيين الجنوبيين البيض في الولايات المتحدة الأمريكية، وممارسي التعذيب الفرنسيين في الجزائر، والأمريكيين الذين شاركوا في مذابح فيتنام، والمسئولين في المنظومة السوفيتية السلطوية.

إن أقصى ما يمكن أن نستفيده من الماركسية الوجودية اليوم هو ذلك التصور المتجدد لمفهوم الحرية. إن سارتر – كما أشرت في كتابي We: Reviving Social Hope (نحن: إحياء الأمل الاجتماعي) (2017) – يساعدنا على تقدير كيف يتعاون الأفراد لخلق الأمل حيث لم تكن تلوح بارقة أمل من خلال العمل الجماعي. يصر سارتر على أننا يمكننا دائما أن نختار، وأن عدم الاختيار هو اختيار في ذاته. بهذا المعنى يؤكد سارتر أننا دائما نتحمل مسئولية ما تجاه أنفسنا، حتى لو كنا نتعرض للبطش والظلم والقهر. وبينما يتعلم سارتر من الماركسية أن يقدر أعباء التاريخ والطبقة، إلا أنه لا يتخلى أبدا عن هذه الركيزة المهمة في فكره. وبرغم أن مفهوم سارتر للحرية يتخفف في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية من الحرية المجردة والشاملة إلى الحرية الملموسة والموضعية (المرتبطة بمكان و حدث)، إلا أنه يصر على أن ما يميز البشر عن الحجارة هو «أننا دائما نصنع شيئا ما مما يُصنع بنا».

من المفهوم أن ينقسم الراديكاليون حول هذا التصور عن الحرية. فهو في النهاية يناقش مسئوليتنا عن المواقف التي لم نخلقها، ثم يجعلنا مسئولين عما نفعله حيالها. ربما يكن من الصعب استيعاب هذه الفكرة، لكنها تبقى بمثابة تذكرة حية بإمكانية النضال الإيجابي طوال الوقت. إن المقاومة تنبعث من نفس القوة التي ينبعث منها تقرير المصير، شأنها في ذلك شأن الخضوع واللامبالاة، والتواطؤ والاستسلام. فإذا قبل الفرد في وقت ما بالخضوع والإذعان، أو رضي بأقل من نصف رغيف، فإنه في أوقات أخرى سينضم إلى الآخرين وسينفجر في العراء، حينها سيُعاد تعريف الهويات وصياغة المواقف وبعث الثورات.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock