على الرغم من شهرته كأحد أهم منظري القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، إلإ أن الدور الذي قام به في عدد من البلدان العربية كسوريا والعراق، وحقيقة المشروع الذي حمله على عاتقه، ما زالا محل جدل ونقاش واسعيْن بين الباحثين العرب والغربيين على السواء.
فعلى الرغم من الرواية التي قدمها ساطع الحصري باعتباره عربيا تنّقل ما بين حلب السورية وصنعاء اليمنية ودرس بالأزهر الشريف في القاهرة، قبل أن يسلك طريقه إلى بلاط الخلافة العثماني، فإن روايته الخاصة عن رحلة حياته بدءا من ميلاده بمدينة حلب عام 1880، ثم انتقاله لصنعاء بصحبة أسرته، ثم رحيله إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف، وعمله كقاض شرعي في بعض الولايات العربية العثمانية، ثم انتقاله في مرحلة لاحقة إلى عاصمة الخلافة العثمانية ليستكمل دراساته التربوية، ثم يعود من جديد إلى العالم العربي ليغرس العديد من أفكاره التربوية والقومية – كل هذه الوقائع تحتاج إلى المراجعة والتفنيد، وهو ما قام به الباحث الأمريكي ويليام كليفلاند، الأستاذ في جامعة برنستون، في كتابه «الحصري من الفكرة العثمانية إلى العروبة»
ويليام كليفلاند
رائد الاتجاه العلمانى
في هذا الكتاب ذهب ويليام كليفلاند إلى أن ساطع الحصري تعمد إحاطة المرحلة الأولى من حياته بالكثير من التخفي والغموض، إذ يعلن نسبة اسمه الحصري إلى بلدة يمنية، وهو ما ينفيه الشاعر محمد مهدي الجواهرى في سيرته الذاتية (الجزء الأول) والذي أكد أنه سأل العديد من اليمنيين عن بلدة تحمل هذا الإسم، وقد نفوا جميعا وجودها، وزعم ميلاده بمدينة حلب، وقد نجح الباحث الأمريكي في مطالعة سجلات مواليد حلب في تلك الفترة فلم يعثر على اسمه، وهو ما جعل الباحث يرجح أن ساطع الحصري ولد في اسطنبول حيث تعلم وترقى ولم يأت إلى العالم العربي إلا بعدما بلغ الأربعين من عمره، وبعد سقوط الخلافة العثمانية.
الشاعر محمد مهدي الجواهرى
ما ذهب إليه الباحث الأمريكي ربما يقدم تفسيرا لأمرين في غاية الأهمية، الأول هو ما اشتهرت به لكنة الحصري من عجمية واضحة يظهر بها التأثير التركي، بالإضافة إلى التحول الكبير من الدعوة إلى عصرنة الخلافة العثمانية التي قادتها جماعة (تركيا الفتاة) العثمانية، والتي كانت على نقيض في تلك الفترة من الدعوة إلى العروبية، إلى الدعوة إلى القومية العربية التي صار واحدا من أهم فلاسفتها ومنظريها.
اقرأ أيضا:
حنا ميخائيل.. رفيق إدوارد سعيد الذي اختار المقاومة والنضال via @aswatonline https://t.co/0SPGO8knZU
— أصوات Aswat (@aswatonline) August 6, 2019
وفقا لهذه الرواية فإن القدوم الأول للحصري إلى المنطقة العربية كان مع تأسيس المملكة العربية السورية عام 1920، حيث التحق ببلاط الأمير فيصل بن الحسين وعين مديرا للمعارف، وبذلك تبدأ المرحلة الثانية من حياته، ومن الملاحظ أنه في تلك المرحلة كان يجهل اللغة العربية بينما أجاد التركية أولا والفرنسية ثانيا، وقد كان هذا يثير حفيظة السوريين الذين ثاروا على الأتراك وحاكمهم جمال باشا، وبعد سقوط المملكة السورية عاد الحصري إلى اسطنبول قبل أن ينتقل إلى القاهرة، ثم إلى بغداد مع تأسيس المملكة الثانية للملك فيصل بن الحسين عام 1921، وهي المرحلة الثالثة من حياته التي شرع فيها بإصدار العديد من مؤلفاته القومية التي دافع فيها عن فكرة الوحدة العربية على أساس من اللغة المشتركة، داعيا للتحرر من فكرة الوحدة على أساس الدين، وهو ما جعل باحثة روسية تعتبره رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي، مؤكدة على أن مشروعه التربوي العروبي كان يرتكز على مواجهة النظام التعليمي العثماني التقليدي الذي عمد إلى تربية مشاعر الولاء للسلطة العثمانية على أساس البعد الديني.
فكرة «القومية» عند الحصرى
تأسست الفكرة القومية عند الحصري على أساس اللغة، مستبعدا الأساس الديني، وهو ما اضطره إلى توسيع بعض المفاهيم أو تصحيحها بحيث نفى حصر صفة العروبية على الجزيرة العربية وحدها، ومدها لتتسع وتشمل سائر الشعوب الناطقة بالعربية، وبذلك تغلب الحصري على اشكاليات الوحدة القائمة على أساس الدين من ناحية أو العرق والدم من ناحية أخرى، مؤكدا استحالة أن توجد أمة في العالم تتحد في جذورها العرقية أو الدم بشكل تام نتيجة الامتزاج والاختلاط العرقي الطبيعي والفطري بين الشعوب.
وأيا ما يكون الأمر فقد استطاع ساطع الحصري أن يؤطر نظرية متكاملة في القومية العربية قدم فيها عددا هاما من المؤلفات يأتي على رأسها «محاضرات في نشوء الفكرة القومية» و«ماهي القومية؟» ومدافعا عن فكرته ومبرهنا عليها من خلال كتابيه «العروبة بين دعاتها ومعارضيها» و«آراء وأحاديث في القومية العربية». مستفيدا من العديد من المفكرين الغربيين من أمثال لوتورنو، ورينان وغيرهم ليخط اتجاها آخر في الفكر العربي المعاصر إلى جانب تلك الأفكار التي انبرت للدعوة إلى الجامعة والوحدة الإسلامية، قبل أن يتوفى في القاهرة في الخامس من أغسطس عام 1965.