يتمحور السؤال الأهم الذي بات مطروحا حاليا لدي العديد من الباحثين المهتمين بدراسة الإسلام السياسي، حول: لماذا فشل مشروع الإسلام السياسي في مصر، بعد أن نال فرصة عظيمة في تولى الحكم في أعقاب ثورة 25 يناير 2011؟
في دراسة له بعنوان «تسلف الإخوان.. تآكل الأطروحة الإخوانية وصعود السلفية في جماعة الإخوان المسلمين» صدرت عن مكتبة الأسكندرية عام 2010، أي قبيل الثورة مباشرة، قدم الباحث الراحل حسام تمام المتخصص في مجال دراسة الحركات الإسلامية، رؤية استشرافية تنبأت ببوادر فشل مشروع جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
روافد صوفية
«دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية» هكذا عبر حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، عن رؤيته للجماعة عند تأسيسها عام 1928، حين سجلها بوصفها جمعية خيرية على غرار الجمعيات الخيرية ذات التوجه الصوفي المعروفة آنذاك.
حسن البنا
ووفقا لرؤية حسام تمام فإن هذه الجماعة تأسست على نهج تأكيد الإطار الجامع للحركة، فالإطار الفكري للجماعة يستند على مبدأ أن تكون الجماعة بمثابة الرابطة الإسلامية الجامعة التي يلتئم تحت لوائها المسلمون جميعا دون تفرقة أو تمييز. غير أن روح التصوف كانت حاضرة في البناء التنظيمي للجماعة منذ النشأة الأولى، حيث احتلت جزءا هاما من مقررات التأطير والتربية في الحركة، إلى جانب اتسام البناء التنظيمي بكونه بناء لجماعة حركية جمعت بين التقاليد الصوفية والعسكرية.
أدخل البنا في المقررات الثقافية للجماعة عيون كتب الصوفية مثل شرح المسترشدين للحارث المحاسبي، والأنوار المحمدية للنبهاني والرسالة القشيرية وإحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي وغيرها الكثير من كتب الصوفية.
الإخوان في أدبيات القاعدة.. أسرى «مزرعة الدواجن» و«تلاميذ المارينز» via @aswatonline https://t.co/q54a9yXkjo
— أصوات Aswat (@aswatonline) August 7, 2019
موجات تسلف الإخوان
يرى حسام تمام أن جماعة الإخوان في سنوات التأسيس الأولى بدأت بوصفها وريثة للسلفية الإصلاحية التي كان الشيخ رشيد رضا أبرز رموزها قبيل تلك الفترة. غير أن المكون السلفي بالجماعة كان آنذاك يتصف بكونه سلفية جامعة، تجميعية، توافقية تقبع في أقصى مناطق المرونة على حد وصف تمام.
الباحث الراحل حسام تمام
وفي دراسته المهمة، يتناول تمام مراحل تطور المكون السلفي داخل جماعة الإخوان بوصفه يمثل عددا من الموجات المتتالية، حيث جاءت الموجة الأولى عقب تعرض ستة من قيادات جماعة الإخوان للإعدام عام 1954، ودخول عدد كبير منهم السجون، ما أدى إلى إرتحال العديد من قيادات الجماعة والمنتمين لها إلى عدد من دول الخليج منها قطر والكويت والإمارات والمملكة العربية السعودية التي استقبلت النسبة الغالبة منهم والتي وصفها تمام بكونها «محضن التيار السلفي الوهابي».
جاءت الموجة الثانية مع عودة هؤلاء المرتحلين إلى مصر بمنتصف سبعينيات القرن الماضي محملين بما تسرب إليهم من مكون سلفي وهابي في بيئة اجتماعية مغلقة تم فيها بشكل تدريجي تبني كل ما يرتبط بمظاهر التشدد السلفي من ارتداء النساء للنقاب وانخفاض مساحة الإنفتاح على مختلف الفنون والآداب وأنماط الحياة التي كانت معروفة ومقبولة لدى الأسر الإخوانية من قبل.
يضيف تمام أن سبعينيات القرن الماضي قد شهدت توسعا كبيرا للتيار السلفي بين صفوف طلاب الجامعات المصرية، من جانب آخر عاد الإخوان إلى تأسيس مجلة «الدعوة» عام 1976 لسان حال الجماعة التي كانت تصدر أيام حسن البنا وتوقفت مع هجرة قيادات الإخوان خارج مصر.
غير أن تلك المجلة – وفقا لتمام – قد شهدت نوعا ما من التماهي مع الفكر السلفي حيث ضمت العديد من المقالات التي كانت أقرب للخطاب السلفي منها لدعوة الإخوان، ذلك أنها قد تناولت قضايا عقد الذمة وحرمة بناء الكنائس ولزوم دفع الجزية ووجوب تطبيق الشريعة دون تقييدها برضا حاكم ولا محكوم وبحرمة الغناء والموسيقى.
يعود تمام ليشير إلى أن مرحلة ثمانينيات القرن الماضي قد شهدت كمون السلفية الإخوانية غير أنه لم يقدم تبريرا وافيا لأسباب حالة الكمون تلك، إلا أن مرحلة التسعينيات من القرن الماضي قد شهدت الموجة الثالثة تلك التي كانت بمثابة ميلاد جديد للمكون السلفي داخل جماعة الإخوان المسلمين.
الفضائيات بوابة الزحف السلفي
مع بدء البث الفضائي انطلقت العديد من الفضائيات ذات الخلفية السلفية من بينها «قناة الناس» «وقناة الحافظ»، عبر تلك الفضائيات برز عدد من شيوخ الإخوان السلفيين الذين تمكنوا من الجمع بين التعليم المدني وبين العلم الشرعي الذي حازوا عليه في مصر والمملكة العربية السعودية.
من أبرز هؤلاء السلفيين الذين ساهموا بتقديم برامج حوارية تثقيفية على «قناة الناس» ذات الخلفية السلفية صفوت حجازي الذي قدم برنامج «زمان العزة» بعد أن عاد من المملكة العربية السعودية عام 1998، التي جمع فيها بين العمل والدراسة، ومن ثم تبوأ مكانة مميزة داخل جماعة الإخوان.
كما فتحت «قناة الناس» أبوابها للعديد من شيوخ الإخوان من بينهم الدكتور راغب السرجاني الذي قدم أكثر من برنامج منها «قرار جرىء» وبرنامج «نقطة صدام»، مزج السرجاني في برامجه ما بين قراءة التاريخ الإسلامي والفكر الإخواني والسلفية في آن واحد.
من جانب آخر لم تتردد جماعة الإخوان عام 2005 فى أن تتبنى ترشيح الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، في إنتخابات مجلس الشعب عن دائرة الدقي أمام وزيرة التضامن السابقة آمال عثمان، وهو الشيخ السلفي الذي كان قد قدم عددا من البرامج ذات المضمون السلفي على «قناة الناس» كان منها برنامج «التبيان» ومن بعده برنامج «لقاء» وبرنامج «فضفضة».
حازم صلاح أبو إسماعيل
كذلك قدم الشيخ عبد الخالق الشيخ على «قناة الحافظ» ذات التوجه السلفي عددا من «البرامج الحوارية» ذات المكون السلفي المضمر الخفي.
هكذا يؤكد تمّام على أن أهم مصادر التثقيف والدعوة بين جماعة الإخوان المسلمين أصبحت تأتي من رموز مزدوجة سلفية، إخوانية، بحيث صار «الدعاة والشيوخ المتسلفون» أشبه بحلقة الوصل ما بين الإخوان والسلفيين.
إنتعاش السلفية وإنتكاس التنظيم
تعرضت جماعة الإخوان المسلمين وفقا لحسام تمام لهزة تنظيمية كبيرة في أعقاب عقد الإنتخابات الداخلية لها نهاية عام 2009 وبداية 2010، حيث أسفرت تلك الإنتخابات عن تصدر العديد من رموز التيار التنظيمي المحافظ، ما مثل حالة من إنسحاب الجماعة عن رؤيتها التوافقية التي عرفت بها في مرحلة التأسيس نحو حالة من «التسلف» أو التحول «للسلفية».
انتهت انتخابات يناير 2010 بانتخاب محمد بديع مرشدا ثامنا للجماعة الإخوانية وهو أحد أبرز المنتمين للتيار القطبي المتشدد الذي يمتد فكره إلى سيد قطب وبصحبته محمود عزت وجمعة أمين نائبين له.
هكذا ظهر السلفيون الكامنون وتعاظم شأنهم ودورهم داخل الجماعة ومن ثم حدثت العديد من المعارك التي خرج منها السلفيون منتصرين فبات أربعة فقط من أصل خمسة عشر من مكتب الإرشاد غير ملتحين، كما برزت أزمات ملاحقة بعض الكتب والأعمال الفنية التي يرى السلفيون أنها من المحرمات، وتعد قضية المواطنة واحدة من أهم القضايا التي شهدت تراجعا ملموسا لدى جماعة الإخوان المسلمين بتأثير من مكونها السلفي.
يختتم تمام دراسته بطرح رؤية مستقبلية يؤكد فيها على أن جماعة الإخوان و نتيجة لبروز المكون السلفي بها ستفقد كثيرا من مرونتها ومن قدرتها على ضمان التنوع الداخلي، إضافة إلى أنها ستتجه نحو مزيد من التنميط والمحافظة. ولعل فشل المشروع السياسي للإخوان المسلمين، بعد مرور عام واحد فقط على تولي الجماعة حكم مصر، وما جسده مشهد وقوف صفوت حجازي وغيره من قادة الإخوان عام 2013 على منصة «رابعة» مرددين خطابا سلفيا صرفا، لهو أكبر دليل على صدق نبوءة الباحث الراحل حسام تمام.