منوعات

كيف برأت النيابة طه حسين من تهمة «التشكيك في القرآن»؟ (1-2)

بدأت بوادر عاصفة كتاب «في الشعر الجاهلي» تجتاح الأوساط الثقافية والدينية والسياسية، بعد مجموعة من المحاضرات ألقاها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين على طلبة كلية الآداب في الجامعة ثم جمعها في كتاب نشر عام 1926.

خلص طه حسين في كتابه إلى أن الشعر الجاهلي منحول، وأنه كُتب بعد ظهور الإسلام ونُسب للشعراء الجاهليين، وهو ما أثار عاصفة من الاحتجاج قادها «حراس الماضي» من أزاهرة وأدباء وساسة، متهمين الأزهري السابق العائد من باريس بازدراء الدين الإسلامي والتشكيك في القرآن استنادا إلى أنه شكك في حقيقة وجود نبيىْ الله إبراهيم وإسماعيل.

انتحال الشعر الجاهلى

«أول شيء أفُجعك به في هذا الحديث، انني شككت في صحة الأدب الجاهلي وألححت في الشك أو قل الشك ألحّ عليّ، فأخذت أبحث وأقرأ وأفكر وأتدبر حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء، إن لم يكن يقيناً فهو قريب من اليقين»، هكذا يقول حسين في كتابه.

ويخاطب طه حسين قراءه فيقول: «لا أضعف أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ماتقرؤه على أنه شعر إمرؤ القيس أو طرفة بن العبد أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيىء، إنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صيغة النحاة أو اختراع المحدثين والمتكلمين.. الكثرة المُطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي مُنتحلة مُختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلى الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي».

دعا حسين في كتابه من يريد أن يلتمس الحياة العربية قبل الاسلام أن يلتمسها فى القرآن وليس فى هذا الشعر الذى يقال أنه جاهلي، «القرآن عبر عن هذه الحياة فى جوانبها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أصدق تعبير، وعلى هذا الأساس فإن الشعر الذى يقال أنه جاهلي قد تم انتحاله بعد الاسلام لتثبيت أمور دينية وسياسية اعتقد المسلمون انه لن يستقر الاسلام الا بعد تثبيتها».

اقرأ أيضا:

ديكارت ومنهج الشك

وفى سبيل إثبات هذه الفكرة استخدم طه حسين منهج الشك عند ديكارت، وتقوم القاعدة الأساسية لهذا المنهج على أن «يتجرد الباحث من كل شئ كان يعلمه من قبل وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.. ويجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى كل ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين، يجب ألا نتقيد بشئ ولا نذعن لشيء إلا منهاج البحث العلمى الصحيح»، يقول حسين في كتابه.

حاول طه حسين أن يثبت أن لغة الشعر الجاهلي لا تنتسب إلى لغة الحياة العربية قبل الإسلام بقدر ما تنتسب الى لغتها بعد الاسلام، وهو ما ينسف القاعدة التى اتفق عليها الرواة عبر أجيال طويلة، وهى أن العرب ينقسمون إلى قسمين «قحطانية منازلهم الأولى فى اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى فى الحجاز. أما القحطانية فهم عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية، فهم العاربة. وأما العدنانية فقد اكتسبوا العربية اكتسابا وكانوا يتكلمون لغة أخرى هى العبرانية أو الكلدانية ثم تعلموا العربية فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وأصبحوا العرب المستعربة».

ووفقا لهذه المقولة فإن الرواة اتفقوا على أن العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبهم بإسماعيل بن إبراهيم وأنه أول من تكلم العربية ونسى لغة أبيه، وشكك حسين في هذا الحديث واعتبره «أساطير لا خطر فيه ولا غناء منه وأن هذه النظرية متكلفة مصطنعة فى عصور متأخرة دعت اليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية».

واستند حسين فى رأيه الى حجتين: الأولى تراثية، حيث روي عن أبى عمر ابن العلاء أنه كان يقول ما لسان حمير «العاربة» بلساننا ولا لغتهم بلغتنا، أما الحجة الثانية فهى أن «البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التى كان يصطنعها الناس فى جنوب البلاد العربية واللغة التى كانوا يصطنعونها فى شمال هذه البلاد.. لدينا نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف فى اللفظ وفى قواعد النحو والتصرف فإذا كان كثير من الشعراء الجاهليين ينتسبون الى العرب تتطابق لغتهم مع الشعراء الجاهليين العدنانيين إذن لابد من حل للمشكلة. والحل أن هذا الشعر مكتوب بعد الاسلام وبلغة واحدة ولو كان مكتوبا قبل الاسلام لظهر فيه الاختلاف بين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة».

اقرأ أيضا:

إبراهيم وإسماعيل والمنطقة المحظورة

ووصل حسين إلى المنطقة المحظورة والتي فتحت عليه النار من كل الجهات حيث أشار إلى أن حديث القرآن والتوراة عن إبراهيم وإسماعيل لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلا عن قصة انتقال إسماعيل مع والدته إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها، «نحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الاسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى.

ويمضي حسين في كتابه إلى مساحة أخرى أشعلت الحرائق حول صاحبها، عندما تحدث عن الأسباب التى دفعت العرب إلى انتحال الشعر الجاهلي بعد الاسلام، ويرى أن السبب الأول «سياسى» وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد، وإنما كانت ترويه حفظا. فلما كان ما كان فى الاسلام من حرب الردة ثم الفتوح ثم الفتن، قتل من الرواة والحفاظ خلق كبير، ثم اطمأنت العرب فى الأمصار أيام بني أمية وراجعت شعرها، فإذا أكثره قد ضاع، واذا أقله قد بقي، وهى بعد فى حاجة الى الشعر، تقدمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال، ونحلتها شعراءها القدماء».

اقرأ أيضا:

أما السبب الثاني فهو ديني ويقول حسين: «كان هذا الانتحال فى بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبى، وكان هذا النوع موجها إلى عامة الناس، وأنت تستطيع أن تحمل على هذا كل ما يروى من هذا الشعر الذى قيل فى الجاهلية ممهدا لبعثة النبى، وكل ما يتصل به من هذه الأخبار والأساطير التى تروى لتقنع العامة، بأن علماء العرب وكهانهم، وأحبار اليهود ورهبان النصارى، كانوا ينتظرون بعثة نبى عربى يخرج من قريش أو من مكة».

ويضيف حسين في هذا السياق: «نوع آخر من تأثير الدين فى انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبى من ناحية أسرته ونسبه فى قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبى يجب أن يكون صفوة بنى هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بنى قصى، وأن تكون قصى صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها».

بعد نشر كتاب في «الشعر الجاهلي» تقدم الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر في 30 مايو عام 1926 ببلاغ إلى النائب العام ضد الدكتور طه حسين الاستاذ بالجامعة المصرية، يتهمه فيه بأنه ألف كتابا ونشره على الجمهور، يطعن فى القرآن العظيم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي.

محاكمة طه حسين

وفى 5 يونيو من ذات العام تقدم شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي ببلاغ مماثل يتهم فيه حسين بتأليف كتاب كذّب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبى، مطالبا باتخاذ الوسائل القانونية الفعالة ضد هذا «الطعن فى دين الدولة الرسمى وتقديم المؤلف للمحاكمة»، ثم لحق عبد الحميد أفندي البنان عضو مجلس النواب بشيخ الأزهر وقدم بلاغا أكد فيه أن «فى الشعر الجاهلي» يتضمن طعنا وتعديا على دين الدولة الرسمى.

الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي

بدأت النيابة التحقيق في البلاغات في أكتوبر عام 1926، وباشر التحقيق مع طه حسين محمد نور رئيس نيابة مصر ذلك «المثقف المصري الكبير، الذي رأى أن القضية ليست جنائية بالمرة وأنها قضية غير عادية وأن الحكم فيها تبعا لذلك يحسمها لمناصرة الموقف العلمي وحرية البحث العلمي ولصالح الديمقراطية ومستقبل البلاد»، بتعبير الأستاذ خيري شلبي في كتابه «محاكمة طه حسين».

ويصف شلبي قرار رئيس النيابة بأنه ليس مجرد تكييف قانوني أو فتوى قانونية أو محضر تحقيق مقدم للقضاء ضمن وثائق قضية، «إنما هو بحث علمي أيضا وصياغة أدبية على مستوى رفيع».

رئيس نيابة ومثقف كبير

وأبدى شلبي إعجابه الشديد برئيس النيابة الذي باشر التحقيق مع طه حسين، متسائلا: «هل مثل هذا النائب صنعته النهضة الثقافية التي كان طه حسين أحد أعمدتها الأساسية؟ أم أن أمثاله هم الذين صنعوا تلك النهضة التنويرية؟».

ويضيف شلبي في كتابه الذي تضمن النص الكامل للتحقيقات: «لقد كان طه حسين وهو يجلس بكل ثقة وجلالة قدره أمام رئيس النيابة -الذي ربما كان من تلاميذه خارج الجامعة- كان في الواقع يجني ثمرة غرسه الطيب، فها هي ذي جهوده وجهود أنداده قد أينعت رجالا في مواقع السلطة يقدرون قيمة العلم وقيمة العالم وحرية البحث».

ويشير شلبي إلى أن القضاء المصري في هذه القضية أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المجتمع المصري في زبدته الحاكمة كان مع التنوير والديمقراطية وحرية الرأي، وأن هذه البذرة أصيلة في المجتمع المصري لا تموت وإن احتجبت أحيانا تحت جحافل الظلام التي تراكمها عصور الجهالات في فترات التغيير والإضطرابات.

ويتساءل شلبي: هل هذه النيابة العامة جزء من ذلك المجتمع العجيب الذي هب يطلب محاكمة مفكر على فكره بل يطالب برأسه لمجرد أنه اجتهد في البحث في موضوع حساس وحرج؟، أم أنها نيابة على درجة من الثقافة والتحضر واتساع الأفق تؤمن بالديمقراطية وحرية الرأي وحرية البحث العلمي؟، وهل يمكن لمجتمع كهذا أن يفرز نيابة كهذه؟

جرى التحقيق مع طه حسين بعد تكييف التهمة التى جاءت فى أقوال المبلغين من حيث اتضح أنهم ينسبون له أنه طعن على الدين الاسلامى فى مواضع أربعة من كتابه هى:

أولا: أنه أهان الدين الاسلامى بتكذيب القرآن فى إخباره عن إبراهيم وإسماعيل.

ثانيا: ما تعرض له المؤلف فى شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جمعيا وأنه فى كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله.

ثالثا: ينسب المبلغون للمؤلف أنه طعن فى كتابه على النبى صلى الله عليه وسلم من حيث نسبه.

رابعا: انه أنكر أن للاسلام أولية فى بلاد العرب.

اقرأ أيضا:

النيابة تنتصر لحرية الرأي

قررت النيابة بدء التحقيق مع طه حسين وفقا لما قُدم ضده من اتهامات، غير أن محمد نور رئيس النيابة أثبت فى قراره المنهج الذى سار عليه فى التحقيق حتى يكون الحكم عنوان الحقيقة وليس مطية للاهواء، وقال «ومن حيث أن العبارات التى يقول المبلغون أن فيها طعنا على الدين الاسلامى، إنما جاءت فى كتاب، فى سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذى أُلف من أجله، فلأجل الفصل فى هذه الشكوى، لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر اليها منفصلة، وإنما الواجب توصلا الى تقديرها تقديرا صحيحا، بحثها حيث هى فى موضعها من الكتاب، ومناقشتها فى السياق الذى وردت فيه. وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها، وتقدير مسئوليته تقديرا صحيحا».

أطلع محمد نور بعمق على كل المراجع التى استند اليها طه حسين، وفند الأدلة التى بنى عليها نتائجه، واختلف معه اختلافا بينا فى معظم ما ذهب إليه، لكنه وجد أن الشرط الأساسى لإدانته غير متوفر، وهو القصد الجنائى، فأنهى تقريره بهذه الفقرة التى تلقى الضوء على القضية كلها قائلا «وحيث أنه مع ملاحظة أن أغلب ما كتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى وهو ما قصرنا بحثنا عليه، وإنما هو تخيلات وافتراضات واستنتاجات لا تستند إلى دليل علمى صحيح فإنه كان يجب عليه أن يكون حريصا فى جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الاسلامى، الذى هو دينه ودين الدولة».

وأضاف نور في تقريره «صحيح أن المؤلف كتب ما كتب عن اعتقاد بأن بحثه العلمى يقتضيه، ولكنه مع هذا كان مقدرا لمركزه تماما، وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة فى كتابه منها قوله: وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه أزورارا، ولكنى على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن اذيع هذا البحث».

واسترسل نور في تقريره الذي أعده بعد جلسات تحقيق استمرت نحو 6 أشهر: إن للمؤلف فضلا لا ينكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثره مما أخذ عنهم، قد تورط فى بحثه حتى تخيل حقا ما ليس بحق، أو مالا يزال فى حاجة إلى إثبات أنه حق.. أنه قد سلك طريقا مظلما، فكان يجب عليه أن يسير على مهل، وأن يحتاط فى سيره حتى لا يضل، ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة.

وختم نور تقريره الذي نشره بعد ذلك في كتيب صغير حققه وقدم له خيري شلبي في كتابه بقوله: وحيث أنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل أن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها. وحيث أنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا.

وانتهت التحقيقات بتبرئة طه حسين أمام رئيس النيابة المثقف المنتصر لحرية الرأي والتعبير، إلا أن النار ظلت مشتعلة في ساحات البرلمان والصحافة والجامعة، وهو ما سنتعرض إليه في المقال القادم.

الفيديو جرافيكس

نص: بلال مؤمن

تحريك ومونتاج: عبد الله محمد

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker