الذين يملأون عيوننا لا نراهم !! لا بد من مسافة ما ليمكن تأملهم باعتبارهم خارجاً، و هذا ما لا يمكن عمله مع إبراهيم عبد المجيد، إبراهيم من هذا الجيل، الذي خرج إلى الدنيا بعد أن عصفت بها الحرب الكونيةالثانية، عاش حياة قاسية و غريبة في آن، هناك بالطبع ملامح مشتركة بين أبناء هذا الجيل و هناك أيضاً تجليات فردية، مثلاً سأفهم أن ينقل جمال الغيطاني كتب التراث في كراسات المدرسة بخط منمق، و أنقل أنا دواوين كاملة لم يكن في مقدوري شراؤها، أما أن يعيد إبراهيم كتابة روايات كاملة، معدلاً في العناوين، فهذا أمر آخر يتجاوز الضائقة المالية إلى الرغبة في أن يكون خالقاً لهؤلاء الذين أحبهم في روايات الآخرين. سيعيد كتابة (أنا الشعب) و يمنحها اسماً جديداً هو (شعاع الجلباب الأزرق)!! و يعيد كتابة (سلوى في مهب الريح)، و يكتب مجموعة من القصص بعنوان (هذه القلوب) على غرار (هذه النفوس) للسباعي من هنا ستبدأ رحلة إبراهيم العجائبية، رحلة إلى حيث الأحداث مقررة سلفاً!! و سيبدو كما لو كان بطلاً في تراجيديا من تراجيديات القدر اليونانية. لابد أن هذه القراءة/ الكتابة قد فتحت عينيه على الحياة و الناس، و لابد أنه سيرى الحياة رواية هائلة، أكبر من تلك التي أعاد كتابتها، و سوف يتساءل بالتأكيد عن السبب في مضي الأشخاص و الوقائع على هذا النحو!!
سوف تغريه الروايات، في الواقع و في الكتابة، على كتابة قصص من حياته الشخصية يجرب فيها أن يكون قادراً على توجيه الوقائع و الأشخاص كما يفعل هذا القدر الخفي، الذي يجلس في مكان ما و يفعل هذا بالبشر!
(التحايل على المعايش) تعبير مصري صميم، يعبر عن رغبة المصري وقدرته في نفس الوقت على مناورة الحياة و البقاء في أصعب الظروف، بل وتحويل الألم ذاته إلى فن جميل ومتع سرية!
هذا هو ابراهيم، العاطفي شأن صغار التلاميذ في هذا الزمان الفائت، يكوّن مع بعض زملائه فرقة لإصطياد المحبين الصغار، يكتب لهم الرسائل الغرامية مقابل قرش أو نصف قرش حسب الحالة! مستخدماً في ذلك ما يحفظه من خاتمة رواية (إني راحلة) ثم يذهبون إلى السينما بما تجمع لهم من قروش.
ستصبح السينما مصدراً من مصادر ابراهيم و مرجعاً لمعرفة كيف يكوّن رواياته جنباً إلى جنب مع هذه الأخلاط الغريبة من البشر: الفلول التي نزحت إلى الأسكندرية من الصعيد و الدلتا تحت وطأة الفقر، بعضهم أصحاب عزّ زائل وبعضهم هارب من ثأر أو طامح إلى حياة أفضل، مغامرون و أفاقون و أولاد عرب.
كان عليه أن يعاشرهم و يقترب من أهوائهم و رؤاهم، أحلامهم و كوابيسهم، أفراحهم و أحزانهم، هؤلاء هم الذين عمل معهم في صباه في السكك الحديدية، وشركة الأسمنت، و الملاحات، و الترسانة البحرية و غيرها من أشغال.
إدمان القراءة، والولع بالسينما، و العمل المبكر وسط هؤلاء ثلاثة مصادر لكتابة ابراهيم، مع ذلك كان يمكن أن تتحول الوقائع المدهشة و الشخصيات الغريبة إلى روايات بالقوة يكتفي باستعادتها من حين إلى حين كما يفعل مع الأفلام، و كان يمكن أن يهدر هذا الغنى الباهظ في كتابات رديئة عن الفقر و الكفاح و لعن الزمان، كان يمكن أن يحدث هذا و لكن مصادفة تنقذ الفتى من هذا المصير، و تنقذ لنا هذا العالم الفريد فيظل أكثر خلوداً من أصحابه الذين يمضون إلى نهايتهم في صمت، ومن دون أن يعبأ بهم أحد.
كان الصبي، ابن الستة عشر عاما، يهرول تحت المطر بحذاء مخروم ليصل إلى الصدفة الكبيرة في حياته، يصل إلى ندوة كان ضيفها الناقد الكبير محمد مندور، وكانت لحظة التنوير الأولى في حياة الصبي. اكتشف أن هناك ما ينبغي قراءته بجانب الروايات والقصص، هناك النقد الأدبي و الفلسفة و التاريخ و علم النفس.
في هذا النور الغامر فتحت له كتب مثل (ألوان) لطه حسين و (ساعات بين الكتب) للعقاد آفاقاً أوسع، و أشارت له و عليه بقراءة كتب أخرى لكتاب آخرين، فاندفع آخذاً نفسه بالشدة في قراءات أكثر عمقاً و تنوعاً و تنظيماً، و صار له من الوعي ما جعله قادراً على فحص هذا العالم الذي اغترفه اغترافاً، بل وقادراً على استيعاب طرق أخرى غير الحكي البسيط، طرق يستطيع بها أن يخلّص الواقعة من ضرورتها الغفل و يطلقها إلى الحرية حيث التأويل ممكن!
لم يكن هذا فقط دور الوعي، بل سيجعله (و هو الذي كان قد حصل على دبلوم صناعي و عمل به في الترسانة) يعيد النظر في حياته، فيدرس من جديد، و يحصل على الثانوية العامة، و يلتحق بالجامعة ليدرس الفلسفة. كانت هذه مرحلة أخرى أهم في التكوين العقلي و الثقافي لإبراهيم عبد المجيد، إذ سيلتقي في الجامعة بعقول هائلة مثل د. أبو ريان، و د. عثمان أمين، و د. النشار، و غيرهم، و ستصيبه التحولات كما أصابت جيله فيتحول من الوجودية إلى الماركسية ثم يعاني بعد ذلك، كما عانى جيله، من التحولات التي أقصت الماركسية، أو كادت، من الحياة!
ستظل النظرة الفلسفية ميزة في سرد إبراهيم. قد يكون مولعا كالآخرين بالغريب والشاذ في حياة أبطاله، لكنه يضع هذا الغرائبي في إطار يرفعه من مجرد الرغبة في الإدهاش إلى علامة يمكن قراءتها مرة على أنها فانتازيا ومرة أخرى على أنها تراجيديا في تحولات المصير الإنساني.
وإبراهيم لا يقسم جسمه في جسوم كثيرة كما يقول عروة زعيم الصعاليك بل يقسم نفسه في نفوس كثيرة، وهو لا يطل على عالمه كما يفعل ألفريد هيتشكوك، بل كما يطل نجيب محفوظ بقناع كمال عبد الجواد. فإبراهيم هو «علي» في رواية المسافات و«إسماعيل» في البلدة الأخرى، و«كروان» في طيور العنبر، و«ناجي» في قناديل البحر.
وكثيرة هي الشخوص المجروحة التي نصادفها في قصصه القصيرة، النفوس المعطوبة والكليلة من جراء عبث مطلق يلهو بمصائرها ولا تعرف لماذا! ستنمو هذه السمة لتصبح مدار رواية (البلدة الأخرى) ثم تستفحل فلا تخضع الأشخاص فقط بل تخضع أيضا حياة الإسكندرية نفسها لتحولات تبدو عبثاً لا هدف من ورائه.
إن أبطال إبراهيم في رواياته يغادرون واقعيتهم كما يغادر الحلزون قوقعته، يفعلون ذلك بنفس الرهافة والتوجس، وبتلقائية مدهشة، فلا نشعر أبدا أن الكاتب يريد أن يقول لنا إنهم أكبر مما هم عليه، إنه فقط يدعنا نستنتج ذلك. ستجد «عيد» مجذوبا عاديا لكنه عبر تحولات بطيئة، غير ملحوظة تقريبا، يصبح صاحب «كشف» ويقود مجاذيب الإسكندرية، ليروا الله الذي يتجلى له فوق البحيرة أثناء الغروب. كذلك «الديب» الذي يظل معلقا طوال الوقت بين ظهر القطار والسماء، تمر به البلاد والأزمان، فإذا نزل راح يحكي قصصا خرافية. وحتى «حبشي» الذي لا يعرف من أين جاء ولا ما هو أصله والذي يتزوج من امرأة ظهرت واختفت فجأة، لا يعرف هو أو هي من أين جاءت أيضا، حبشي الذي يعيش على ما يسرقه من السفن ويربي لقطاء المدينة على ألا يسرقوا، ألا يمثل حالة فلسفية.
نحن إذن أمام شخصيات تغادر بنعومة واقعيتها الفوتوغرافية لتصبح علامات على عالم كليّ، عالم مجروح بشكل ما ويتألم أو يحلم عبر هذه الشخصيات كما تفعل الريح إذا مرت بالبوص المثقوب كالنايات.
ظل إبراهيم وفيا لعالم الملاحم والأساطير اليونانية التي أولع بها، وفيا للأفلام التي شكلت ذائقته البصرية، وعلمته كيف يجعل مشاهده حيّة ومؤثرة. وظل وفيا أكثر، وهذا هو المهم، للحياة الكثيفة التي عاشها فعلمته كيف يضع الإيقاع في رواياته، حتى أنك ما إن تفتقد شخصاً ما في رواية حتى تجده يطل عليك تماما كما لو كان هناك تخاطر بين القاريء وشخوصه الأثيرة!
لقد توقفت كشاعر عند الإيقاع في أعمال إبراهيم، إيقاع الخفاء والظهور، الحوار والسرد، الفوتوغرافي والفانتازي، الظاهر والباطن، الصعود والسقوط، الحلم والكابوس. وعلى أن أتوقف الآن.
إنه إبراهيم الذي يسرق منا وقتا ليضيف إلى ذاكرتنا أوقاتا، يمحو وقتا ميتا ليطرز قلوبنا بأوقات حية تظل تنبض في مخيلتنا كساعة رقمية في الليل.
نقلا عن: صفحة الكاتب على فيسبوك