*حنا جيورجيس – محررة في قسم الثقافة في مجلة The Atlantic
*ترجمة: أحمد بركات
في صباح الثلاثاء قبل الماضي (6 أغسطس) أعلنت دار نشر «ألفريد كنوبف» خبر رحيل الكاتبة والروائية الأمريكية المبدعة توني موريسون في نيويورك عن عمر 88 عاما، بعد صراع مع المرض لم يدم طويلا.
وعلى خلفية إرثها الإبداعي، أصدرت عائلتها بيانا مقتضبا جاء فيه: «كانت الكاتبة الرائعة التي أثرت الكلمة المكتوبة، سواء كانت خاصتها، أو خاصة بطلابها، أو بآخرين، تقرأ بنهم شديد، وكانت غالبا ما تقضي أوقات الكتابة في المنزل».
الكتابة في عربات المترو
كانت موريسون، التي ولدت في مدينة لورين بولاية أوهايو الأمريكية، واسمها الحقيقي كلوي وفورد، نموذجا للتفاني في العمل الأدبي، حيث اشتهرت بكتابة رواياتها الأولى أثناء ارتيادها عربات المترو المزدحمة عبر مدينة نيويورك للذهاب إلى مقر عملها. في هذا الوقت، كانت موريسون تتحمل بمفردها (بعد انفصالها عن زوجها) أعباء تربية طفلين. في هذا السياق، تقول موريسون: «كتبت على قصاصات الأوراق داخل صالات الاستقبال في الفنادق، وأثناء انتقالاتي في العربات». وقامت بتسجيل كتبها المسموعة لأنها، – كما ذكرت راشيل كادزي في عام 2016-، وحدها تعرف كيف يجب أن يبدو طنين الكلمات.
عالم الأمريكيين الأفارقة
يتمثل أحد أعظم إسهامات موريسون في الأدب في رؤيتها الفذة للأمريكيين من أصل أفريقي، والعاطفة المفعمة التي تجلت في كتاباتها عن شخوصها السود. وحتى يومنا هذا – وبرغم مرور 49 عاما على نشر روايتها الأولى The Bluest Eye (العين الأكثر زرقة) (1970) – تبقى هذه الرؤية وتلك العاطفة حدثا نادرا – ما لم يكن متفردا – في الأعمال الأدبية والثقافة الشعبية بوجه عام. فشخوص موريسون، مثل بيكولا بريدلوف، الفتاة الصغيرة في رواية «العين الأكثر زرقة» تنبض بالرغبة؛ إنها تتطلع بشغف لا يضاهى إلى عالم جديد ومختلف. تعيش هذه الشخوص في ضاحية هارلم وفي مدن الغرب الأوسط، أو على متون سفن العبيد وبالقرب من الملاذات الجماعية. وبسبب (وبالرغم من،) خصوصية هذه البيئات، تُبدي هذه الشخوص مخاوف ورغبات وآلاما تستوعب القارئ استيعابا. إن عالم موريسون يمتد بعيدا إلى ما وراء صفحاتها، ويُجذّر نفسه عميقا في قلوب وعقول من شاهدوه عبر كتاباتها وصاروا عليه شهودا.
يكمن الشغف والصعوبة في قراءة أعمال توني موريسون في الاضطراب الذي تعانيه شخصياتها والبساطة الشديدة حد المخادعة التي ترسمها بها. يمثل هذان الملمحان الإنجاز الأهم والأكثر رسوخا في أدب موريسون. كما تبقى قدرتها على تطبيقهما على شخصياتها الأمريكية السوداء إنجازا اجتماعيا وسياسيا آخر أكثر إثارة. وعبر رواياتها، التي تجتاح القارئ على المستويين الموضوعي والخطابي، تضع موريسون القارئ تحت وطأة أسئلة عميقة وثقيلة: كيف يتسنى لطفلة صغيرة لا تستطيع عبور الشارع بمفردها أن تمقت عينيها اللتين ترى بهما العالم من حولها؟ ما الأوضاع التي يمكن أن تدفع بامرأة إلى التضحية بأطفالها؟ ما الفجوات الكامنة داخل الإنسان التي يستعصي حتى على الحب تجسيرها؟
هذه التساؤلات المُلحة صارت أشد إلحاحا بفضل اتجاه موريسون إلى تناول ذلك المجال الثري الخاص بتجارب وخبرات السود الأمريكيين. وبرغم تمدد رواياتها وتتبعها للشخصيات عبر عدة ولايات وعلى مدى قرون من الزمان، إلا أن كثيرا من المحاورين كانوا يسألونها دوما عن سبب ولعها واهتمامها بعالم السود تحديدا دون غيره. وكانت إجاباتها كاشفة وحاسمة؛ ففي معرض ردها على عدم مركزية البيض في كتاباتها، وضعت موريسون نفسها في سلسال كُتّاب من شاكلة الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي، الذي تعد روايته Things Fall Apart (الأشياء تتداعى) (1958) نصا تأسيسيا في الأدب الإفريقي. كما رفضت بشدة فكرة خضوع كتاباتها لذلك التقسيم العنصري المقيت للمجتمع الأمريكي. «إنني أكتب للسود مثلما لم يكن تولستوي يكتب لي كفتاة سوداء من مدينة لورين لا يتجاوز عمرها أربعة عشر عاما. ليس علي أن أعتذر أو أن اعتبر نفسي محدودة لأنني لا أكتب عن البيض، وهو أمر غير حقيقي في المطلق؛ إذ يوجد الكثير من البيض في كتاباتي. المسألة هي أنني لا أحب أن أضع المعايير الخاصة بالناقد الأبيض نصب عيني وأتعامل معها كمعايير مطلقة».
ساهمت أعمال موريسون في توسيع قاعدة الأعمال الأدبية التأسيسية وإثراء خيال المؤلفين – سواء من السود أو من غيرهم – الذين اقتفوا أثرها. لم يكن ممكنا أن يصبح لدينا جيسمين وارد، وتاياري جونز، وكولسون وايتهيد، وتيجو كول، وبول بيتي، وجاكلين وودسون، لو لم تكن توني موريسون. وفي أعقاب نشرمجموعة موريسون الأخيرة The Source of Self-Regard (مصدر احترام الذات) ألمحت الكاتبة الزامبية ناموالي سيربيل إلى الديكتاتورية الملهمة، التي تمثل سمة مميزة لأعمال موريسون، والتي خلقت فضاء واسعا ترعرع فيه روائيون آخرون على شاكلتها: «رأيت البعض يلمزون موريسون ويصفونها بالوضوح المفرط وعدم العمق، كما لو كانت كثرة المديح تستوجب الذم. وذات مرة وصفت جدتي البريطانية رواية Beloved (محبوبة) (1987) بأنها ’معقدة وعميقة‘ و’فقيرة ورديئة‘ معا. إن موريسون تنجح دائما في إثارة حنق الناس واستفزاز مشاعرهم؛ كيف تجرأت على أن تكون امرأة سوداء و’صعبة‘؟»
قوة الأدب الإصلاحية
كناقدة وكاتبة مقالات، طبقت موريسون تحليلاتها الجادة في عالم الأدب الذي طوفت به من أقصاه إلى أقصاه، وعلى الأسس السوسيو سياسية الأمريكية. وقد مثلت رؤيتها الثاقبة للأوضاع الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة صرخة مدوية في الوعي الأمريكي على مدى عقود، وقدمت كلماتها تقديرا غريبا (وإن كان غير مستغرب) للمخاطر التي تتربص بالبلاد خاصة إذا أصر الأمريكيون على التغافل عنها. ففي المحاضرة التي ألقتها في حفل تسلمها جائزة نوبل في الأدب في عام 1993، قدمت موريسون رؤية في اللغة لا يزال يتردد صداها حتى يومنا هذا، وربما أكثر من أي وقت مضى:
إن اللغة القمعية لا تمثل العنف، وإنما هي العنف؛ إنها لا تمثل حدود المعرفة، ولكنها تضع حدودا للمعرفة. وسواء كانت هذه اللغة هي لغة الدولة، أو اللغة الاصطناعية الزائفة الخاصة بوسائل الإعلام غير الموضوعية، وسواء كانت هي لغة الأوساط الأكاديمية الباعثة على الفخر (والمتكلسة في الوقت ذاته)، أو لغة العلم التي تحركها السلع والبضائع، وسواء كانت هي لغة القانون الذي لا ينطوي على أخلاق، أو لغة مصممة لتغريب الأقليات وتحاول إخفاء جريرتها العنصرية تحت قناعها الأدبي؛ سواء كانت هذا أو ذاك فهي لغة يجب أن ترفض وأن تعرى وأن تتبدل. إنها اللغة التي تمتص الدماء، وتضغط بلا رحمة على مكامن الحس والتأثر الإنساني، وتقحم حذاءها الفاشي تحت عباءة الاحترام وحب الوطن بينما تتحرك بلا هوادة صوب القاع والعقول المفرغة.
لكن إيمان موريسون بقوة الأدب الإصلاحية على المستويين الاجتماعي والفردي كان متجذرا بعمق في كل كتاباتها، حتى في أشد انتقاداتها صرامة. وقد تجلى هذا الإيمان في تفاؤلها وشهادتها بقدرة البشر على الحب والتعاضد والانتصار حتى على أقسى صنوف المعاناة. ولا تزال كلماتها، والآثار التي طبعتها على الأدب على مدى عقود، حية ونابضة. وقد عبرت موريسون بإيجاز وبلاغة عن رسالة الفن كما آمنت بها وعبرت عنها على مدى عقود من الزمان. ففي مقالة نشرتها مجلة The Nation في بداية عام 2015 تحت عنوان No Place for Self-Pity, No Room for Fear (لا مكان للشفقة على الذات، ولا مجال للخوف)، كتبت موريسون: «أعلم أن العالم مصاب بالكدمات حد النزيف، وبرغم أنه من المهم ألا نتجاهل آلامه، إلا أنه من المهم أيضا ألا نستسلم لشروره. على غرار الفشل، فإن الفوضى تحتوي على معلومات يمكن أن تقود إلى المعرفة، وربما الحكمة. وهكذا الفن».