منوعات

تجليات العنصرية في أمريكا: القوميون البيض واستدعاء «أيقونة روديسيا» الغابرة

براندون أوجبونو – أستاذ مساعد بجامعة براون الأمريكية

ترجمة: أحمد بركات

يطلق اسم «أدب المعجبين Fan Fiction» على تلك الكتابات الإبداعية التي يقدمها القراء عن أعمال أدبية معروفة، حيث يقومون بخلق عوالم جديدة كاملة من عناصر الأدب الذي نال إعجابهم، وذلك من خلال الإضافة إليه، أو البناء عليه، أو على أجزاء منه.

 وقد يغير الكُتاب المعجبون البدايات أو النهايات في العمل الأصلي، أو يبتكرون شخصيات جديدة، أو ينشئون علاقات بين الشخصيات لم تكن موجودة بالأساس. وقد يستمر المعجبون بكتابة أجزاء جديدة حول الروايات متعددة الأجزاء حتى بعد توقف تلك الروايات. وبرغم ظهور هذا الأدب بلغات عديدة، وزيادة عدد منشوراته إلى درجة كبيرة، وإسهام الإنترنت في نشره وتوفير منصات كثيرة له، إلا أن العنصريين المتطرفين نجحوا في قلب المعادلة.

الروديسى الأخير

في أثناء نزهة صيفية قمت بها مؤخرا في ربوع الولايات المتحدة بالقرب من جامعات «رابطة اللبلاب» (Ivy League) (ُسميت بهذا الاسم لأن مبانيها القديمة، التي يعود أغلبها إلى نهاية القرن التاسع عشر، يتسلقها نبات اللبلاب، ويحولها من جدران حجرية باهتة إلى خضراء زاهية خاصة في فصل الصيف)، شاهدت مصادفة ملصقا على الزجاج الخلفي لسيارة دفع رباعي مكتوبا عليه «جامعة روديسيا». أثار هذا الملصق دهشتي بدرجة كبيرة، فقد صارت هذه الجامعة أثرا بعد عين بعد أن آل مصير دولة روديسيا، التي كات تقبع في جنوب إفريقيا في الفترة من 1965 إلى 1979 (زيمبابوي حاليا)، إلى زوال. كانت هذه الدولة قد خرجت من رحم المستعمرة البريطانية «روديسيا الجنوبية»، ومن ثم حملت اسم السياسي الإمبريالي البريطاني الشهير «سيسل رودز».

في السنوات الأخيرة، حظيت أيقونة روديسيا بشعبية جارفة في أوساط البيض العنصريين، خاصة من فئة الشباب.

 لفت هذا الوله بالدولة الغابرة انتباه وسائل الإعلام بعد اكتشاف حقيقة امتلاك «ديلان روف»، العنصري الأبيض الذي قتل 9 من مرتادي الكنيسة السود في عام 2015، موقعا شخصيا على الإنترنت باسم Last Rhodesian (الروديسي الأخيرالذي نشر عليه بيانه الخاص قبيل إقدامه على تنفيذ عمليته. وفي أعقاب هذه العملية، أدرك المجتمع الأمريكي والعالمي حقيقة تقديس روف لجمهورية روديسيا السابقة. وكان السياسي البريطاني إيان سميث قد أعلن إبان توليه رئاسة وزراء روديسيا في الفترة من 1964 إلى عام 1979 أن «الرجل الأبيض هو سيد روديسيا». كانت هذه الدولة قد عرفت تاريخيا بحروبها الكثيرة ضد الأفارقة، ومن ثم صارت رمزا  للقومية البيضاء المسلحة و’فانتازيا‘ الحرب الإثنية.

Dylann Roof

القومية البيضاء وأدب المعجبين

لماذا نشاهد الملصق الخاص بجامعة روديسيا في ولاية «رود أيلاند»، أو في أي مكان آخر بالولايات المتحدة؟ إحدى الإجابات المحتملة هي أن روديسيا تمثل بديلا للعلم الكونفدرالي، أو للصليب النازي المعقوف. ونظرا لأن أغلب الناس لا يعرفون الكثير عن روديسيا، فإن رمزيتها تمثل رسالة كونفيدرالية أو نازية، لكن بعواقب أقل (حتى الآن، على أقل تقدير).

يمثل هذا الافتتان بروديسيا، الذي تم اكتشافه مؤخرا، أحدث محاولات عملية نشر وترسيخ القومية البيضاء، التي تجري بدرجة كبيرة في الفضاء الرقمي. فألمانيا النازية والولايات الكونفدرالية الجنوبية يمثلان رموزا أصيلة في هذه الحركة. وبرغم أن هذه الأماكن حقيقية (ألمانيا النازية والولايات الكونفدرالية الجنوبية وروديسيا) إلا أن شعبيتها لدى القوميين البيض تعود بالأساس إلى تدبير خبيث نجح في تحويل مادة تاريخية إلى قصص خيالية، وأضاف إليها أبعادا ميثولوجية في شكل أراضي وأبطال وأشرار وغير ذلك من عناصر الأساطير. بهذه الطريقة، باتت عملية بعث القومية البيضاء تتشابه في تفاصيل كثيرة مع أدب المعجبين، وربما تقتفي أثره.

توجد تعريفات كثيرة لأدب المعجبين تصب جميعها في أنه ذلك اللون من الأدب الذي يستخدم المادة المصدر – التي عادة ما تكون قصة خيالية – كمادة ملهمة لصياغة قصص جديدة يكتبها شخص ما بخلاف الكاتب الأصلي. وتمتد جذور هذا الأدب إلى حيث نشأة القص وتَشكل قواعد معجبين بهذا اللون من الفنون. ثم جاء عصر الإنترنت ليمنح هذا اللون الجديد القديم منصة حقيقية ساعدت في انتشاره، وسرعان ما تحول أدب المعجبين من تجمعات شكلية عبر الإنترنت إلى صناعة مزدهرة. وتكمن قوة هذا اللون من الأدب في بساطته، حيث يصبح بمقدور القارئ تحويل شعوره بالحب أو الكراهية أو الافتتان أو غير ذلك إلى رواية، أو تاريخ يتناول عوالم جديدة.

هل كنتَ يوما مولعا بالعلاقات بين شعبي «روميولان» و«كلينجون» في مسلسل Star Trek؟ يمكنك أن تتخيل نسختك الخاصة من تاريخ هذين الشعبين. هل شاهدت فيلم Wreck-It Ralph؟ في ثوان قليلة يمكنني مشاركة نسختي الخاصة المستوحاة من النسخة الأصلية مع ملايين الناس. في ضوء التعريفات السابقة وأمثلة أخرى لا تحصى، أؤكد أن القومية البيضاء تعمل كنموذج مضاد وخطير لنموذج أدب المعجبين. ورغم أن فانتازيا القوميين البيض (القصص الخيالية التي ينسجها القوميون البيض) تستند إلى أحداث تاريخية حقيقية، إلا أن الأعمال الحديثة غالبا ما يكتبها أناس مبتورو الصلة بالأماكن أو الشخوص الأصليين، وهو ما يؤدي إلى قصص تاريخية أقرب إلى الهزل.

وعلى نحو مناسب، تمتلك أنظمة القوميين البيض الثلاثة المشار إليها سابقا (روديسيا وألمانيا النازية والولايات الكونفدرالية الجنوبية) ملامح متشابهة في خلق نموذج مضاد لأدب المعجبين، وتتمثل هذه الملامح في إضفاء القيمة وإضفاء المركزية وإضفاء العلاقة، على النحو التالي:

  • إضفاء القيمة: مهما كان المصير التاريخي الحقيقي للدول، فإن المعجبين يحولونها إلى أماكن انتصارات، أو، على أقل تقدير، قصص تراجيدية عن الفردوس المفقود.
  • إضفاء المركزية: في جميع الحالات، يضع المعجبون اللون الأبيض للأشخاص في مكانة مركزية لانتصاراتهم الخيالية، أو – بعبارة أدق – البشرة البيضاء هي المحدد الأساس لتحقيق النصر والفردوس الأرضي.
  • إضفاء العلاقة: يصطنع «المعجبون» علاقة بالدولة الخيالية المنتصرة عبر لونهم الأبيض المشترك.

فيما يتعلق بملمح «إضفاء القيمة»، يجب أن نلاحظ أن تفاصيل الأحداث التاريخية الحقيقية (الطرف المنتصر في الحروب، مثلا) تصبح أقل أهمية مقارنة بالمُثُل التي يؤمن بها القوميون. على سبيل المثال، لا ينبع شغف «المعجبين» بروديسيا من حدث بعينه، وإنما لأنها كانت دولة موالية للبيض في صراع مسلح ضد السود. وبالمثل، يتحدث بعض المناصرين عن آثار الولايات الكونفدرالية الجنوبية في الولايات المتحدة  وعن فضائل قادتها السياسيين والعسكريين. في الوقت نفسه، لم تحظ قضية العبودية التي أدت إلى اشتعال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، وتشكل المحدد الأهم في الجدل السياسي الأمريكي حتى يومنا هذا باهتمام كبير من قبل المعجبين. ربما تكون قضية العبودية على قدر من الأهمية، لكنها لا تبدو كذلك عند المعجبين إذا ما قورنت بالإرث التاريخي للجنرال روبرت إدوارد لي، قائد جيش الولايات الكونفدرالية الجنوبية الذي أسييء فهمه.

روبرت إدوارد لي

أما في ملمحيْ «إضفاء المركزية»، و«إضفاء العلاقة»، فيبرز العنصر القومي في أقوى تجلياته، حيث يبدى «المعجبون»، سواء في ألاسكا أو ألاباما، تضامنا مع شخص روديسي افتراضي، بشكل أعمق من تضامنهم مع أمريكي أفريقي حقيقي. لكن هذه العلاقات تقوم على أسس خيالية؛ فالعلاقة الوحيدة بين أحد مواطني ولاية «رود أيلاندر» الحقيقيين من جانب ومواطن روديسي افتراضي من جانب آخر هي اللون الأبيض فقط، وليس الثقافة أو التاريخ. وينطبق الشيء نفسه على جميع الشباب الذين يتحولون بعد ساعات قليلة على موقع Stormfront القومي الأبيض المتطرف إلى خبراء في تراثهم الوهمي المرتبط بقبائل الفايكنج.

إن هذا الاعتقاد الراسخ في اللون الأبيض – في أهميته وقدرته الكلية – هو الزوبعة التي تثير غبار القومية وتنشره، حيث يتجلى الخيال الجامح في أدب المعجبين أكثر ما يتجلى في استدعاء هذه الهوية. فاللون الأبيض يشبه إلى حد بعيد «القوة» (Force) في سلسلة أفلام Star Wars، حيث يستطيع بعض الناس فقط إدعاء الانتساب إليها، لتمنحهم بدورها قوة فائقة.

وتستدعي التطورات التي تشهدها هذه الفكرة في الوقت الراهن سمات القصص الخيالية التي تفوق في عبثيتها بكثير عبثية سلسلة أفلام X-Men، بما في ذلك طقس تجرع اللبن كإشارة إلى القوى المتحولة المتقدمة (البيضاء). فالقدرة على تحليل سكر اللبن «اللاكتوز» في مرحلة البلوغ – وهي سمة تدعى «استدامة إنزيم اللاكتيز» (بمعنى النشاط المستمر لهذا الإنزيم في فترة البلوغ)، وتنتشر في بعض المجموعات البشرية الجغرافية – هي علامة على الأصل الأوربي، وإشارة إلى اللون الأبيض، ورمز للتفوق والسيادة. هذا الطقس قد يكون عنصريا ومبتذلا، كما أنه غير صحيح، فقد تطورت هذه السمة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

لكن، مرة أخرى، إنه «أدب المعجبين»، الذي لا يفترض فيه أن يكون حقيقيا. أو.. هل هو كذلك؟

ربما يكون العمل الخيالي الذي يتناول رموزا وأحداثا تاريخية مثيرا وممتعا للغاية. إننا نقرأ كتاب Harriet Tubman, Demon Slayer (هاريت توبمان، قاتلة الشيطان) – على سبيل المثال – لنعرف كيف تمكن الكاتب من الدمج بين رمز تاريخي وقتل الشيطان، وليس من أجل معرفة شيء جديد عن الحياة الحقيقية للمناضلة الأمريكية السوداء هاريت توبمان. صحيح أن الخيال يمكن أن يكون مسليا وأن يقدم دروسا مستفادة، لكن القارئ يعي تماما الفارق الجوهري بين التاريخ والفانتازيا.

تطبق القومية البيضاء تفاصيل خيالية على مواد تاريخية، لكنها تنسى أنها مجرد خيال. بهذه الطريقة تحولت تلك القومية إلى واحدة من أكثر الحركات المدمرة والمهددة للديمقراطية والأمن القومي. إن وضع القومية البيضاء في مربع واحد مع خيال المعجبين لا يعني التقليل من شأنها، وإنما محاولة لفهم سبب ضراوتها. إنها لا تنبع من تاريخ مشترك في الطهي أو الموسيقى أو اللغة، وإنما هي نوع من خيال المعجبين الجامح الذي يضع دائما «نحن» في مقابل«هم».

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى
Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker