فن

الهارب من أسر النمطية.. كمال الشناوى.. للإبداع وجوه كثيرة

هناك أساليب كثيرة في السينما المصرية يتم من خلالها تدمير الموهبة وسحقها بلا هوادة.. من أهم تلك الأساليب أن يتم سجن الممثل في دور أجاده للمرة الأولى؛ ليقضي عمره الفني يتخبط بين جدران هذا الدور الواحد محاولا استنطاقه بكل وسيلة كانت إلى أن يجف الدور تماما ويذوي معه الممثل؛ فيدخلان سويا متاهة الاستجداء، أو دوامة الشيخوخة أيهما أقرب؛ ليصير الفنان المغتالة موهبته نموذجا للبؤس يصعب تحمله..

 ويكون التساؤل كيف تحول ذلك الحضور الآسر والقبول في البدايات؛ إلى هذا الثقل غير الفني عند النهايات.

لنحو ثلاث عشرة سنة وُضِعَ الفنان متعدد المواهب كمال الشناوي في أسر شخصية الشاب الوسيم المحبوب خفيف الظل، معشوق الفتيات، ابن الطبقة الارستقراطية؛ حتى كاد الملل أن يقتله.. بدا كل شيء مكررا المشاهد بتفاصيلها، جمل الحوار بمفرداتها، النظرات واللفتات بإيحاءاتها، والوجوه نفسها التي ركد فيها الإحساس.. أوشك الأمر أن يصير كابوسا لا يخفف حدته مال أو شهرة أو إعجاب.

اقرأ أيضا:

الهروب من الأسر

إلى أن جاء خريف عام 1959، حين قدم المنتج حسن رمزي لـ «كمال» سيناريو بعنوان «المرأة المجهولة» عن مسرحية فرنسية بعنوان «صورة مدام إكس». بطل الرواية هو الطبيب الشهير ابن الطبقة الأرستقراطية دكتور أحمد عبد الفتاح الذي يهوى فتاة فقيرة ويرتبط بها دون رغبة أسرته، وتتوالى الأحداث حتى تتهم الزوجة في شرفها؛ فيسافر الطبيب مصطحبا ابنه الوحيد إلى أوروبا تاركا المرأة التي أحبها للضياع.. لم ير «كمال» في الدور جديدا؛ لكن دورا آخر لا يحتل سوى عدة مشاهد لفت نظره بشدة.. وهو شخصية القوَّاد «عباس أبو الدهب» والتي كان مرشحا لها الفنان «فاخر فاخر».. عرض الأمر على المنتج فقوبل طلبه بالرفض بل والتحذير من إهدار نجوميته، وتحول حب الجماهير له إلى كراهية وازدراء، وعند مشاورة مخرج العمل «محمود ذو الفقار» كان رده كسابقه.. ما زاده إصرارا على القيام بالدور.. بمقاييس ذلك الوقت كان هذا الاختيار بمثابة انتحار فني؛ لكنه كان عند «كمال» – الفنان التشكيلي قبل الممثل- يرتكز على فلسفة مفادها أن الفن هو أداة تستنطق كل ما هو قبيح بالجمال الذي فيه، فالقبح ليس نقيضا للجمال، إنه فقط مغاير وأكثر صرامة و «..متغلغل حتى العظام» أما الجمال فهو أكثر ميلا نحو البساطة كقشرة خارجية، كما أنه ذو قابلية أكبر للتبدل.. وهكذا اقتنع  «رمزي» و «ذو الفقار» فكان تجسيد «كمال» للدور علامة من أهم علامات التميز في مسيرته الفنية.. وقد تلقى الجمهور الأمر بكثير من التفهم، ورأى النقاد أن «الشناوي» انتصر للفن على ما سواه بغض النظر عن العواقب.

ثم يقدم «كمال» في العام التالي فيلما بعنوان «تحت سماء المدينة» قصة وإخراج حسين حلمي المهندس، ومن خلال شخصية «أحمد» المحامي الشريف الذي لا يصمد طويلا أمام متطلبات خطيبته المادية، فيقترف جريمة بيع مستند هام في قضية لخصم موكله؛ لكنه سرعان ما يعود إلى سيرته الأولى محاولا إصلاح خطئه- يقدم فناننا من خلال هذا الدور نموذج الإنسان العادي الذي تتجاور لديه نوازع الخير والشر، الذي يتمسك بالشرف؛ لكنه ليس معصوما من الزلل، كما أنه لا يستسلم للسقوط، فيعود متحملا تبعة ما فعل بشجاعة، غير فاقد الأمل.

https://youtu.be/ovPpcVlLnAc

وفي «اللص والكلاب» من إخراج كمال الشيخ.. يقدم الشناوي أحد أهم أدواره وأكثرها تعقيدا.. دور «رؤوف علوان» طالب الجامعة الفقير الذي يدافع عن «سعيد مهران» عندما يرتكب جريمة السرقة، ويقنعه أنه كان على صواب فيما فعل؛ لأن تلك الفجوة بين الفقراء والأغنياء، لم تحدث إلا نتيجة السرقة والنهب؛ وبقدرة على الإقناع والتبرير وبأداء شديد الهدوء والعمق يقنع «رؤوف» «سعيدا» بأن عليه أن يسلك طريق السرقة لانتزاع حقه الضائع.. ومع تغير أحوال «رؤوف» والتحاقه بطبقة الأغنياء يرى في «سعيد» عدوا خطيرا يجب القضاء عليه، ويبلغ به شعوره بالخطر درجة تأليب الرأي العام على «سعيد» من خلال الصحيفة التي يعمل بها.. بلغ أداء «كمال الشناوي» في هذا الدور حدا من العبقرية والنضوج الفني لا يوصف، فلقد عبَّر الفنان القدير عن انفعالات كالكراهية والحقد على الأغنياء، وهو طالب فقير بتعبيرات وجهه، وهي أبلغ كثيرا من أي كلام، كما أفصح عن مشاعر كالتوجس والريبة والخوف والرغبة في الانتقام عندما صار غنيا يخشى انتقام سعيد مهران – بثبات النظرات وعمقها واختلاجات الوجه.. ومن خلال «رؤوف علوان» هذا النموذج اللاأخلاقي كشف الفنان زيف وادعاء نماذج كثيرة صعدت بفعل المتغير الاجتماعي فتنكرت لأصلها وانقلبت على الطبقة التي خرجت منها.

https://youtu.be/a2D7JC1v90U

وفي العام 1963 يشارك الفنان «كمال الشناوي» في ثمانية أفلام في عودة للأدوار البسيطة، ولا يلفت النظر فيها سوى فيلم إنتاج مصري ياباني مشترك بعنوان «على ضفاف النيل» شاركته البطولة فيه الفنانة شادية، إلى جانب الممثل الياباني الذي قام بالدور الرئيس، وإخراج الياباني كوناكاهيرا.

وفي مغامرة فنية لا تقل خطورة عن سابقتها يخوض الشناوى تجربة «المستحيل» من إخراج حسين كمال، عن قصة للدكتور مصطفى محمود.. يؤدي «كمال» دور المهندس «حلمي» الذي عاش تحت سيطرة والده الذي اختار له زوجة لا تناسبه، وهي في محاولاتها الساذجة لملء حياته، تزيده مللا ورتابة، وتجعله أكثر ميلا للانعتاق من هذا الأسر البغيض، فيبدأ بالتقرب من صديقات زوجته، ومن هن في محيطها، لكنه يكتشف أنهن لسن سوى صورا تختلف ظاهريا عن زوجته؛ لكن الجوهر واحد، وهو جوهر يبعث على السأم والكآبة.. وينتهي بطلنا إلى أن نفوسنا التي تشكلت في الأسر قد صارت ذواتنا الحقيقية التي يصبح الفكاك منها هو المستحيل عينه.

https://youtu.be/nUZT8H8Q_tk

ويعود «الشناوي» في عام1968، لتقديم الأدوار المركبة في فيلم «الرجل الذي فقد ظله» عن قصة فتحي غانم، ومن إخراج كمال الشيخ- في دور الصحفي «يوسف السيوفي» يجسد «كمال» أزمة الشخص الانتهازي الذي لا مبدأ له سوى الوصول لأهدافه بأي وسيلة، وهو في مقابل ذلك يتخلى عن صديقه وعن زوجة أبيه وأخيه وعن الفتاة التي أحبها.. من أجل أن يلحق بالطبقة الأرستقراطية عن طريق الزواج من إحدى الفتيات؛ لكنها ترفضه.. ويرى «يوسف» أن ما وصل إليه أصبح في مهب الريح بعد أن لاحت بشائر ثورة يوليو1952، فيعيد حساباته محاولا الدخول في اللعبة من جديد متاجرا بآلام طبقته التي تبرأ منها.. يحفل الدور بمشاعر الصراع النفسي التي يعبر فيها البطل بملامحه عن بركان الانفعالات الذي يموج بداخله.. وقد أحكم «كمال» صنع تلك المشاهد فلم يخرج فيها مشهد أقل من الآخر بل جاءت كلها على نفس الدرجة من الإجادة والإتقان.

https://youtu.be/xaMAxndclKI

أدوار مبدعة

وفي منتصف السبعينيات يقدم «كمال» دور «خالد صفوان» رجل الأجهزة الأمنية، في فيلم «الكرنك» وبالرغم من أن الفيلم حفل بالعديد من المغالطات؛ ضمن خطة ممنهجة ومدفوعة لتشويه الحقبة الناصرية- إلا أن أداء «الشناوي» كان مبهرا باستعراضه أساليب شخصية «خالد صفوان» التي يغلب عليها الهدوء الظاهري- في التحايل من أجل الحصول على الاعترافات، كما عبَّر «كمال» عن أزمة الشخصية التي تلجأ دائما لتبرير انحرافها بأن هناك مصالح عليا تهون أمامها مثل هذه الانتهاكات.

بالطبع أثارت هذه الشخصية لغطا واسعا استمر لفترة طويلة، إلى أن أعلن الشناوى في أحد البرامج التليفزيونية أن الإساءة لثورة يوليو والحقبة الناصرية لم ترد له على بال، كما أوضح أنه قبل الدور لأنه كان جديدا عليه، وهو من الأدوار المركبة التي يحب أداءها، وتشكل له ما يشبه التحدي.

وكعادته لا يكف «كمال الشناوي» عن إحداث حالة من الدهشة لدى الجماهير والنقاد؛ فيقدم مع خيري بشارة في «العوامة 70» عام1982، دور حسين الشاذلي، عم بطل الفيلم الذي انتهت حياته إلى العزلة وإدمان الخمر، ومن خلال عدة مشاهد تجمعهما يروي العم لابن أخيه لماذا ترك القرية بعد أن باع الأرض «لأنها لمن يزرعها» وكيف التحق بالعمل في معسكرات الجيش الإنجليزي، وكيف انتهى إلى السجن، وأن إرادته لم تنكسر برغم كل ما واجهه من محن.. ورغم أنه لا توجد أي مشاهد «فلاش باك» إلا أن «كمال» استطاع بأداء خبير أن ينقلها للمشاهد بدقة.. كان الفنان الكبير قد بلغ الرابعة والستين قابضا على تجربة بالغة الثراء اختلطت فيها الدموع وبالضحكات؛ فجعل هذا المخزون الإنساني الباذخ حاضرا بقوة في أدائه للشخصية فخرجت على نحو شديد الروعة.

https://youtu.be/DXFMiotkdyk

وعن قصة لـ «بسيوني عثمان» من إخراج «شريف يحيى» يقدم «كمال الشناوي» عام1987، فيلما بعنوان «المخطوفة» يؤدي فيه شخصية «راتب بركات» رجل الأعمال بالغ الثراء الذي يقوم بإذلال بطل الفيلم الذي صفع ابنته بعد تسببها في تحطم «تاكسي» هو مصدر رزقه الوحيد.. في هذا الدور كشف الفنان عن الطبيعة القاسية لبعض الأغنياء، واعتبارهم الفقراء كائنات لا تستحق الحياة، ويجب سحقها بلا هوادة إذا لزم الأمر.

ومن خلال رؤية فنية شديدة العمق والبساطة في آن يقدم «كمال» عام 1992 دور وزير الداخلية في فيلم الإرهاب والكباب للمخرج شريف عرفة، والسيناريو لوحيد حامد.. وقد وجهت إحدى المذيعات للفنان الكبير سؤالا عن سبب أدائه للدور بهذه البراعة، وهل اقترب يوما من أحد وزراء الداخلية، وكانت إجابة الشناوى أن هذا لم يحدث قط، وأن تصوره للشخصية هو الذي يوجهه أثناء أدائها، وأضاف أنه لم يقلد أحدا.. وأن على وزراء الداخلية تقليده هو إن شاءوا.. وبقدر ما يبدو هذا الكلام مضحكا إلا أنه يعبر عن قيمة الفن لدى الفنان المبدع الذي يرى أن الفن لا يجب أن يحاكي الواقع، بل على الواقع أن يحاكي الفن إن استطاع.

لقد قدم الفنان كمال الشناوي عبر نحو ستة عقود عددا  هائلا من الأعمال الفنية الكثيرة والمتنوعة؛ لكن ما ينبغي عدم إغفاله أن عددا لا بأس به من هذه الأعمال حمل رؤية الفنان الذي ينتصر دائما للفن كقيمة إنسانية كبرى، مع التسليم أن عواقب ذلك ليست مأمونة في كل الأوقات، ولم يكن ذلك من منطلق الإيمان برسالة الفن فقط، بقدر ما كان أيضا تعبيرا صادقا عن الإنسان الذي تتوق روحه نحو الكمال.. رحم الله كمال.

 

 

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock