كتب : أندرو باسيفيتش
ترجمة : تامر الهلالى
تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم غير مستقرة استراتيجيا ويفاقم ذلك ميل إدارة ترامب نحو عدم الاستماع والتعالي على أي نصيحة أو تحذير، علاوة على غياب اتجاه سياسي منسق، كل تلك أمور تشهد على حالة من الفوضى الخطيرة. أضف إلى ذلك إحجام أو عجز الكونجرس عن تقديم أي شيء تقريباً من الرقابة المجدية.. كل هذه المعطيات خلقت ظرفا لا مثيل له منذ أن دمرت فيتنام تقاليد الحكم الأمريكي في فترة ما بعد الحرب.
ومع ذلك، فإن تحميل الرئيس ترامب وحده مسؤولية هذه الأزمة هو إساءة فهم للمشكلة.. وبشكل أساسي، تمثل رئاسة ترامب تفريخاً للمشكلة أو مجرد عَرَض للمرض. لقد فشلت المقاربات السياسية التي تصورها العديد من أسلاف ترامب منذ أعقاب الحرب الباردة. هذا الفشل لا يعتريه شك، حتى لو لم تعترف بهذه الحقيقة النخب السياسية والعسكرية الكبرى في البلاد. الحقيقة أنه في شخص دونالد ترامب البغيض، عادت دجاجات الفشل، لتتجول في المنزل الأمريكي بشكل فوضوي.
أوهام التفوق الكونى
سيطلق علماء المستقبل على الفترة ما بين سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 والانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2016 إنها حقبة الأسبقية العالمية للولايات المتحدة. لقد أعطى التاريخ على ما يبدو لأمريكا مكانة «القوة العظمى الوحيدة»، التي عملت على تحويل العالم بما يناسب تصوراتها الخاصة له.
وقد أكد قادة كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري مرارًا وتكرارًا هذا الإدعاء الكوني والأمثلة على ذلك عديدة، ولكن في عام 1998 عبرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت عن هذا الإدعاء في أفضل وأوضح صورة ممكنة حينما قالت: «إذا كان يتعين علينا استخدام القوة فذلك لأننا أمريكا.. نحن الأمة التي لا غنى عنها.. نحن الأمة صاحبة القامة الأعلى و نستطيع أن نرى المستقبل بوضوح».
مادلين أولبرايت
من وجهة نظرنا الحالية، فإن تعبيرات أولبرايت تدعو للسخرية. ومع ذلك، تجسد ملاحظتها جوهر نظرة التفوق الكوني التي كانت ولازالت سائدة في واشنطن. ردد العاملون في وسائل الإعلام هذه النظرة وتلك الشعارات، خاصة في إطار الدعاية عن أن الحكومات الأمريكية تعمل على معالجة بعض الظلم أو الوحشية البشعة، سواء في شرق إفريقيا أو البلقان أو أى أرض أخرى بعيدة
وافق على ذلك المنحى قادة الشركات، خاصة أولئك الذين لديهم حصة في المجمع الصناعي العسكري المترامي الأطراف. كانت الأسبقية العالمية المرتبطة بالنشاط العسكري جيدة للأعمال. لم يجد الأمريكيون العاديون سبباً يدعو إلى الاعتراض، حيث كان ترديد نشيد وشعار «نحن رقم واحد!» متعة عظيمة.
من خلال الأخذ في الاعتبار هذا التوقع للتفوق والهيمنة فقط، يمكننا معرفة الارتباط بالاتفاقيات المتنوعة فيما بعد الحرب الباردة مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ومنظمة التجارة العالمية، وإلغاء القيود المصرفية، وتوسيع حلف الناتو، ووضع إطار للتصدي لأحداث 11 سبتمبر بحرب غير محددة المدة، وابتكار مصطلح «محور الشر» لتبرير السعي وراء أجندة الحرية، وتوسيع إمبراطورية القواعد الأمريكية في الخارج، وبطبيعة الحال، التدخل في بلدان مختلفة أكثر من مرة مع أو بدون موافقة الكونجرس المسبقة.
ركائز الهيمنة
كل هذه الأمور يمكن فهمها في سياق مرتبط ومفهوم بشكل صحيح: كل ذلك عبارة عن تعبير عن: الليبرالية الجديدة بالإضافة إلى النزعة العسكرية الجديدة بالإضافة إلى الإمبريالية الجديدة وهو ما شكّل نموذجاً يهدف إلى إبقاء الولايات المتحدة «في المرتبة الأولى» إلى الأبد. ومع ذلك، فإن تفاصيل السياسة أقل أهمية من الأعمدة الرئيسية الثلاثة التي أعطت هذه المبادرات المختلفة تعبيراً جماعياً عنها.
الركيزة الأولى: الغطرسة
أول هذه الأعمدة كان الغطرسة، التي كانت واضحة بشدة في خطاب جورج دبليو بوش في خطابه الذي ألقاه في ويست بوينت عام 2002 عندما أعلن، فيما يشبه كثيراً عقائد الماركسيين وطريقتهم في التعبير عنها وتأكيدها، وجود «نموذج وحيد للتقدم البشري». تجسد أمريكا هذا النموذج، حيث الطريقة الأمريكية للحياة هي الوحيدة صاحبة القدرة على تحديد مستقبل البشرية. هكذا صدق بوش الإبن، و هكذا صدق والده وبيل كلينتون وحتى – وإن كان مع بعض المحاذير – فعل أيضاً باراك أوباما. فمنذ ما بعد الحرب الباردة، أصبح التصور الفائق لدور أمريكا التاريخي ومسؤولياتها شرطا مسبقا لانتخاب الرئيس.
الركيزة الثانية: الإيمان بالقدرة العسكرية غير المحدودة
تم الترديد مرارا وتكرارا، منذ نهاية الحرب الباردة، للأمريكيين إن جيشهم هو أعظم جيش في العالم بأسره، والأعظم في التاريخ المسجل، والأعظم منذ أن طرد الله آدم وحواء من جنة عدن!
تلك العظمة العسكرية والقدرة الحربية المطلقة، التي أُجبرنا على تصديقها، هي المظهر النهائي للعظمة الوطنية الأمريكية، حتى أصبح الامر وكأنه. عقيدة مسلم بها.
الركيزةالثالثة: الاعتقاد بأن الحاضر يحدد المستقبل. كأن التاريخ الذي سيكون في أعقاب ما سماه فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» من المؤكد أن يتبع مسارًا ثابتًا. بناء على ذلك،. يمتلك القليل من أعضاء النخبة في السياسة الخارجية الخيال للنظر في إمكانية انحراف التاريخ في اتجاه مختلف تمامًا قد يقوض التفوق الأمريكي.
بناءً على هذه الركائز المشكوك فيها خلال ربع القرن التالي للحرب الباردة، نتج عن الحروب، أنهار من الدم، والعجز التجاري الشنيع، وعدم المساواة الاقتصادية الهائلة، والمزيد من الحروب، مما خلق الظروف التي جاءت بدونالد ترامب إلى الرئاسة.
عملاق يرثى له
منذ نصف قرن من الزمان، كان ريتشارد نيكسون قلقًا من أن تصبح الولايات المتحدة «عملاقًا يرثى له، بلا حول ولا قوة». اليوم ، قد لا تكون الولايات المتحدة يرثى لها ، لكنها مرتبكة بوضوح ومنقسمة بعمق، علاوة على شعور الكثير من المواطنين بالحيرة حيال سؤال مشروع: أين ذهب التفوق الأمريكي الذي يُروَّج له منذ انتهت الحرب الباردة ولماذا تنزلق أمريكا بعيدا الآن؟.
ريتشارد نيكسون
في عام 2016، صَوَّت الحيارى لصالح ترامب. و في عام 2020، قد يفعلون ذلك مرة أخرى.تقدم الحملة الرئاسية التي تجري الآن فرصة لمواجهة نمط الفشل وخيبة الأمل نتيجة السياسات الفاشلة منذ انتهاء الحرب الباردة. في حين أن السياسة الخارجية وحدها لن تحدد من يفوز بترشيح الديمقراطيين للبيت الأبيض لمواجهة ترامب، فإن أي مرشح يقدم بديلاً مقبولاً لليبرالية الجديدة، والنزعة العسكرية الجديدة، والإمبريالية الجديدة، ربما يجتذب الكثير من التأييد. بالطبع لن يكون التبني الصريح لمثل هذا النهج البديل سهلاً، حيث سوف تقاوم مؤسسة السياسة الخارجية بشدة أي جهد للحد من نفوذها. لكن التغيير أمر حتمي.في النهاية و بشكل لارجعة فيه، لقد انتهت اللحظة الأحادية القطبية، إن كانت قد، وجدت من الأساس.
سيكون النظام الناشئ في القرن الحادي والعشرين سائلاً ومعقدًا وفوضويًا. على الرغم من أنه قد يكون من السابق لأوانه تحديد الترتيب الدقيق للمكانة والنفوذ، فمن المؤكد أنه لن تتمكن أي دولة من استعراض عضلاتها العسكرية. إن الهيمنة العالمية أحادية القطب أضحت مجرد سراب. وبالمثل، ربما تكون السيطرة العسكرية الأحادية غير قابلة للتحقيق ومن المؤكد أنها لا يمكن تحمل نفقاتها. إن تركيز البنتاجون على «إسقاط القوى» المنافسة منذ نهاية الحرب الباردة قد كلّف الولايات المتحدة كثيرا من الدماء و الثروات بينما حقق القليل من النتائج الإيجابية. أسفرت مجهودات القوات الأمريكية ومآسيها في أماكن مثل العراق وأفغانستان عن هذا الدرس الشامل: القوة المسلحة أكثر فاعلية عند استخدامها للردع والدفاع.. عنها لو تم استخدامها في السعي لتغيير النظام أو بناء الدولة.
https://youtu.be/YXdqTqiPhVc
التعاون بدلاً من الهيمنة
أخيراً، فإن الجغرافيا السياسية، التي تركز على التنافس بين الأمم، مقدر لها أن تتراجع، وأن يحل محلها تلك التي تركز على التعاون لمواجهة التهديدات المشتركة. و يجب أن تتكيف مبادئ القيادة الأمريكية مع الحقائق الجديدة «فبدلاً من تصدير أسلوب حياتنا و شهيتنا التي لا تشبع للإستهلاك والميل إلى تكويم النفايات، سيجد الأمريكيون أنفسهم ملزمين بتعديل طريقة الحياة هذه، والتركيز على الاستدامة ثم إقناع الآخرين بالقيام بالمثل».
إن تبعات سياسة الولايات المتحدة على هذه المواضيع البديلة هائلة. من بين أمور أخرى، لن يتم تطبيق الدروس الأساسية للحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وقبل كل شيء الميل إلى مقاربات الحلول الوسط و ما يسمى بالتهدئة. يجب أن يصبح الإلتزام بالحوار لأقصى درجة ملمحاً أساسياً في إدارة الحكم الأمريكي. يجب أن تتوقف التهديدات الدموية والتلويح بالعنف، وما تحمله عبارة «جميع الخيارات» التي تبدو دائمًا «مطروحة على الطاولة». على المدى القريب، ما الذي قد ينطوي عليه تطبيق هذا النهج البديل في الشرق الأوسط؟، حيث أدى سوء استخدام القوة الأمريكية بشكل جلي إلى عدم الاستقرار على نطاق واسع، يتعين على الولايات المتحدة أن تخفض من وجودها العسكري.
الوسيط الأمين
يجب أن يكون دور أمريكا الصحيح في النزاعات الإقليمية هناك، على سبيل المثال بين المملكة العربية السعودية وإيران، دور الوسيط الأمين، وليس المشارك.
وفي شرق آسيا، حيث إن السماح للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين بالتحول إلى حرب باردة جديدة سيعيد إحياء خطر الحرب على نطاق مروع، يجب أن تركز السياسة الأمريكية على تأكيد المصالح المشتركة، ومكافحة تغير المناخ، وغيرها من الملفات التي تتطلب تعاونا مشتركا.
إن الدبلوماسية صعبة وتتطلب الثبات والمرونة جنبا إلى جنب مع وضوح الهدف. ولكن في هذه المرحلة، هل يمكن لأي شخص، ربما باستثناء مستشار الأمن القومي الحالي وبقايا المحافظين الجدد، أن يتخيل أن الحرب سهلة؟
https://youtu.be/-lFR_5ORRnE
الجرى وراء الانقراض
في خطابه الشهير بمناسبة يوم الاستقلال في عام 1821، حذر وزير الخارجية جون كوينسي آدامز الأمريكيين من الذهاب إلى الخارج «بحثاً عن الوحوش لتدميرها». وقال إن القيام بذلك سيغرى ويغرق الولايات المتحدة «بالجري وراء الانقراض». منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، توقع آدمز الوضع الذي تجد فيه الولايات المتحدة نفسها اليوم. و بذلك، فإن الإنقراض أمر ممكن ،لكن السياسات القائمة على الحكمة والواقعية وضبط النفس ستسمح -إن نُفّذت- للولايات المتحدة بإشراك العالم بشروط من اختيارها، مع الحفاظ مرة أخرى على المعيار الحقيقي للحرية.
جون كوينسي آدامز
*تعريف بالكاتب: أندرو باسيفيتش: مؤرخ أمريكي متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والسياسة الخارجية الأمريكية والتاريخ الدبلوماسي والعسكري الأمريكي. وهو أستاذ فخري للعلاقات الدولية والتاريخ في كلية فريدريك إس باردي للدراسات الدولية بجامعة بوسطن
أندرو باسيفيتش