منوعات

ابن «السِفاح» الذى ألهم مكيافيلى أشهر نظرية سياسية فى التاريخ؟

هناك دائمًا فجوة بين تصوراتنا عن كيف يجب أن تكون الحياة، وماهية الحياة على أرض الواقع. أبسط مثال على ذلك أنك إذا سألت أحدهم عن انتشار وشهرة أصحاب المحتوى الركيك في جميع المجالات اليوم، سيحدثك عن الأخلاق التي فقدناها وينتقدهم بلا تردد، مؤكدًا أن لا قيمة لهم، أما واقعيًا فستجد أن لهم ملايين المتابعين كما يحصد المحتوى الذي يقدمونه ملايين المشاهدات.

كان الوضع العام في أوروبا وتحديدًا في القرن الخامس عشر مشابها لبعض ما نراه اليوم، حيث كانت الكنيسة مسيطرة على الحكم وقتها، وكانت ترفع شعارات عن الحاكم الصالح، وكيف يجب أن تدار الدولة بأخلاقيات السيد المسيح الذي ضحى بنفسه كي يعيش الآخرون. أما واقعيًا فكانت الدول الأوروبية ممزقة نتيجة لأزمات عنيفة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والفكري، مما دفع السياسي والمؤرخ والفيلسوف «نيكولا مكيافيلي» إلى تسجيل خلاصة خبرته السياسية والدبلوماسية التي امتدت 14 عامًا داخل البلاط الملكي بفلورنسا الإيطالية في كتابه الشهير «الأمير» الذي تأسست من خلاله مدرسة الواقعية السياسية، وحاز «مكيافيلي» بسببه على لقب »أبو النظرية السياسية الحديثة» بعد وفاته.

قواعد اللعبة السياسية


لم يكن «مكيافيلي» معنيًا بالجانب الأخلاقي والتصورات المثالية للدولة في كتابه كما جرت العادة، وإنما ركز على الرؤية الموضوعية للسلطة، سواء من خلال عرض طرق الوصول إليها أو الإبقاء عليها، فعلى الرغم من أن التحلي بالأخلاق هو أمر محمود بشكل عام، إلا أن السياسي الخلوق – وفقًا لمكيافيلي – لن يصمد أبدًا أمام من حوله من عديمي الأخلاق الذين سيسحقونه سحقًا لكونهم أغلبية، لذا على القائد أن يتعلم الأساليب الملتوية وفنون التلاعب بشعبه إذا أراد أن يستمر.

ولأن عامة الشعب غالبًا ما يتأثرون بالوعود البراقة، حتى وإن لم يكن لها أساس، فإن «مكيافيلي» كان يرى أنه إذا كان هناك مرشحان لحكم دولة ما، وعبّر أحدهما  بكل صدق عن خطط تنموية وأوضح أنها تحتاج جهدًا ووقتًا حتى تؤتي ثمارها على المدى البعيد تدريجيًا، بينما وعد الآخر بانتعاش الاقتصاد وعمل المشروعات الضخمة وتحويل البلد لجنة خلال فترة قصيرة، فإن الناس سينتخبون المرشح الثاني دون أي شك، مهما كانت خططه غير منطقية أوغير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.

 الإبقاء على الكرسي

أما الحفاظ على السلطة فيتطلب – وفقا لمكيافيلي -عدة شروط، أولها أن يسحق الحاكم أعداءه بلا رحمة، ليضمن استقرار السلطة في يده مستقبلًا، لذا فإن ارتكاب الحاكم لأي جرائم أو فظائع لتثبيت أقدامه في الحكم، هو من أكثر الوسائل فعالية حتى وإن تم ذلك بشكل غاشم، فمثلًا يهاجم دولة مجاورة، أو يقهر أقلية دينية، أو أي أعمال إجرامية لإخلاء الساحة السياسية له.
لكن من أهم التكتيكات أن يتم كل ما سبق مع حفاظ القائد على صورته باعتباره حاكمًا عادلًا وإنسانا على خلق، حيث يمكن خداع عامة الشعب بكل سهولة من خلال إدعاء صفات الصدق والكرم والشجاعة، مع القابلية للتحول إلى النقيض تمامًا إذا تعارضت تلك الصفات مع مصالحه، ففي النهاية «أن يهابك الناس خير من أن يحبوك» كما قال «مكيافيلي».

كبش الفداء

ولكي يضمن الحاكم ولاء شعبه له يجب أن يوكل أحدهم للقيام بالمهام (القذرة) التي يمكن أن تدينه لاحقًا، في حين يتولى هو تلك المهام التي تزيد من شعبيته، وكان «مكيافيلي» يشير هنا إلى «تشيزري بورجا» ابن البابا إسكندر السادس غير الشرعي، والذي كان لديه طموح دنيوي باستعادة الدويلات البابوية، وكان ملهمًا لـ«مكيافيلي» بمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»، كما كان في نظره الحاكم المثالي نظرًا لقوته وتمكنه من أدوات الحكم والسيطرة.

وقد استعان «بورجا» أثناء غزوه لمدينة تشيزنا الإيطالية بأحد مرتزقته ويدعى «راميرو دا أوكو» للسيطرة على المنطقة، حيث كان هذا الشخص يقوم بكل العمليات الإجرامية من إعدام وتعذيب وتشويه للمعارضين، وبعد سلسلة من الأعمال الوحشية خلال تلك الفترة تمت السيطرة على الوضع بالفعل. ولكن ولكي يمتص «بورجا» غضب الناس بعد كل هذا العنف، أمر بإعدام «دا أوكو» الذي أنجز له كل العمليات القذرة من خلال شق جسمه إلى نصفين وإلقاء جثته في ميدان عام، ثم تحول «بورجا» إلى إقامة احتفالات شعبية، وقررخفض الضرائب واستيراد الطعام، حتى أنه بنى مسرحًا للترفيه عن الناس، لتنجح بالفعل خطته ويهتف المواطنون باسمه.

تشيزري بورجا

بين الاستبداد والتحرير

على مر العصور كان كتاب «الأمير» محل جدل، حيث أحبه الناس وكرهوه بالقدر ذاته. فبينما حظرته الكنيسة لمدة مائتي عام لاعتبارها أنه يمثل تحريضًا واضحًا على الانقلاب عليها بفصل الدين عن الدولة والترويج للاستبداد، رآه الفيلسوف الهولندي العظيم «سبينوزا» كتابًا مهلمًا لتحذير المواطنين من الأساليب التي يتلاعب بهم حكامهم من خلالها، حيث كتب في رسالة لصديقه قبل وفاته بفترة قصيرة أنه يتمنى أن يعرف الناس الطريق إلى الجحيم كي يتمكنوا من الفرار.

سبينوزا

 وفي جميع الأحوال لا يمكن لأحد أن ينكر أن صراحة «مكيافيلي» في التعبير عن أفكاره الواقعية بشكل صادم، أدت إلى ثورة في الفلسفة السياسية، ومهدت الطريق للمفكرين من بعده لمعالجة القضايا الإنسانية بناءً على الواقع الحقيقي وليس تصوراتنا عن الواقع المثالي، فحتى في الحياة العادية نجد أنفسنا أحيانًا في صراع بين مبادئنا المثالية ومواقف الحياة الصعبة التي يمكن أن تفرض علينا سيناريوهات ربما لم نكن نرغب فيها. أما في السياسة فإن تحقيق هذا التوازن بين الحفاظ على المبادىء الأخلاقية والمناصب السياسية في آن واحد هو المعادلة الأصعب على الإطلاق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock