ما الذي يجمع بين جلال المنحوتات الأثرية ومواد تغليف المنتجات الغذائية والحلويات وعلب الأغذية الفارغة، أو بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والمغني جون لينون وبين تاريخ فرقة البيتلز البريطانية وتاريخ حلم الوحدة العربية أو الصراع العربي الإسرائيلي، أو بين زخارف المباني بطراز الأرت ديكو ومذبحة الأرمن في 1915، أو بين سكان أستراليا الأصليين والأممية الثالثة؟
إن الجامع الوحيد بين كل تلك المتناقضات هو خيال الفنان الأمريكي العراقي الأصل مايكل راكوفيتز الجامح، ونزوعه لخلق نوع من الصدمة لمشاهد أعماله تنقله من حالة التلقي السلبي إلى المشاركة الفاعلة في قلب التجربة الفنية التي تقدمها أعماله. وهي ليست صدمة شكلية فحسب، بل صدمة وعي تهدف إلى إيقاظ وعي المشاهد وإثارة الأسئلة لديه، وهذا ما يفسر كثافة الأفكار والشروحات والتعليقات التي ترافق أعماله الفنية.
يقوم فن راكوفيتز على تحدي عوامل الغياب والتدمير والاندثار وإعادة إحياء ما تدمره وبعثه أو تجسيده بمواد مختلفة عبر وسائل فنية تستثمر المهمل من الأشياء والشائع والمعاد تدويره. فتراه يعيد بناء الآثار العراقية المدمرة والمسروقة باستخدام علب دبس فارغة أو أوراق تغليف حلويات ومنتجات غذائية، أو يقوم بعكس ذلك بإعادة إنتاج كتب مقدسة احترقت على أيدي النازيين أو في قصف جوي خلال الحرب العالمية الثانية ببقايا أحجار من تمثالي بوذا الأثريين اللذين فجرهما مقاتلو طالبان في باميان بأفغانستان، أو يعيد تشكيل زخارف “الأرت ديكو” في مباني اسطنبول من عظام في إحالة إلى مذبحة الأرمن.
جذور عراقية
لا تتوقف أعمال راكوفيتز عند حقل فني أو إبداعي تشكيلي محدد، بل تتحدى تلك الحواجز بين الفنون والحقول المعرفية لتجمع بين حقول مختلفة كالجماليات (الاستطيقا) والسياسة والثقافة الشعبية.
وتجد تلك التعددية جذورها في الأصول المتعددة لعائلة راكوفيتز، فهو فنان أمريكي ولد في نيويورك من أسرة يهودية مهاجرة من العراق في أربعينيات القرن الماضي، يرجع نصفها إلى أصول يهودية عراقية والنصف الآخر إلى أوروبا الشرقية. وقد ولدت أمه في مومباي في الهند حيث كانت عائلته تعمل في التجارة ما بين الهند والعراق.
وعلى الرغم من أنه لم يزر العراق أبدا، إلا أن موروث طفولته وما كان يستمع إليه من أحاديث بالعربية داخل عائلته المهاجرة، وما يسمعه من موسيقى أو ما يتذوقه من أطعمة عراقية، عادت لتنبعث لديه وتشكل ثيمات أساسية في فنه لاحقا.
وقد وجد هذا الموروث طريقه إلى إبداع راكوفيتز الذي ظلت موضوعات مثل الهجرة والنزوح والاقتلاع من الجذور وغياب المكان أو تدميره، قضايا ضاغطة على ذاكرته ويحرص على أن يجعل من فنه وسيلة لمقاومتها، أو كما أوضح في مقابلة سابقة مع بي بي سي بقوله: «أحاول أن أجعل … مشاهد التدمير تجري بطريقة ما بشكل معاكس، ولكن من دون إنكارها».
وقد حرص المعرض الذي استضافه غاليري وايت تشابل، وهو أكبر معرض يقام لراكوفيتز في العاصمة البريطانية، على تقديم صورة شاملة لأبرز مشاريعه وأعماله الفنية في مراحل حياته المهنية المختلفة. وتوزع على طابقين في الغاليري، وقسم إلى عدد من القاعات المنفصلة التي ضمت مشاريعه الفنية المختلفة، التي تبدو وكأنها معارض متعددة داخل معرض واحد.
أشباح نمرود والثور المجنح
يحتل مشروع «العدو الخفي يجب ألا يوجد» مساحة واسعة من معرض راكوفيتز، وهو مشروع ضخم بدأ العمل به منذ عام 2007 ويهدف إلى إعادة تجسيد أو إحياء آلاف القطع من الآثار العراقية التي دُمرت أو فُقدت في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، ولاحقا في عمليات التدمير المنظمة على أيدي مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية.
ويلجأ راكوفيتز إلى إعادة بناء تلك القطع الأثرية من مخلفات مواد استهلاكية، كعلب المواد الغذائية الفارغة وورق تغليف الحلويات وورق الصحف وما شابه، ويلعب على مفارقة إعادة بناء هذا العالم القديم الذي تقوضه حضارة الاستهلاك المعاصرة التي نعيش في خضمها من مخلفاتها نفسها.
وتمتد هذه المفارقة إلى استعارة العنوان :«العدو الخفي الذي يجب ألا يوجد»، الذي استعاره من عنوان أحد أجزاء شارع الموكب الممتد في بوابة عشتار في مدينة بابل الأثرية في بلاد ما بين النهرين، والتي يترجمها من الأكادية «Aj-Ipur-Shapu»ويمكن ترجمتها أيضا «لن يمر عدو».
وفي قلب هذا المشروع تقع إعادة بناء الثور المجنح «لاماسو» الذي كان أمام بوابة نرغال في عاصمة الدولة الآشورية القديمة نينوى، والذي دمره مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2015.
وقد استخدم راكوفيتز أكثر من 10 آلاف من علب الدبس الفارغة، والدبس هو المنتج الصناعي الأبرز في العراق الذي يشتهر بإنتاجه من أجود أنواع التمر الذي تُثمره أشجار النخيل فيه، ونصب الثور المجنح في عام 2018 على القاعدة الرابعة في ساحة الطرف الأغر (ترافلغر سكوير) في قلب العاصمة البريطانية لندن.
وفي تموز/يوليو الماضي، نشر راكوفيتز كتابا عن الطبخ والأكلات التي تعتمد على الدبس العراقي، مستعيرا عنوانه من الحديث النبوي «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر». وسبق له أن استثمر فكرة الطبخ والطعام في مشروعه «مطبخ العدو» الذي اعتمد على وصفات لأطعمة بغدادية بمساعدة أمه، وقام بعمل مطبخ لإعدادها في شاحنة صغيرة تدور في المدن الأمريكية لتقدم الأطعمة العراقية بالتزامن مع الحرب على العراق في عام 2003، وقد استعان لاحقا بمحاربين قدامي خدموا في الجيش الأمريكي في العراق لتقديم هذه الأطعمة.
كما ظل لسنوات يقيم ورش عمل لتعليم الطبخ العراقي للأمريكيين، وللأطفال على وجه الخصوص. مستثمرا أن يصبح فضاء تقديم الطعام مناسبة للمناقشات عن العراق والحرب لتبديد كثير من الصور النمطية والمفاهيم المضللة والخاطئة التي تكتنف رؤية الآخر في الغالب في الثقافة الشعبية.
وفي السياق ذاته قام بشراء طقم صحون صينية مسروق من أحد قصور الرئيس العراقي السابق صدام حسين من موقع إي باي، واستخدمها لتقديم الدبس والراشي (الطحينة) في مطعم في نيويورك.
وفي هذا المشروع يلعب راكوفيتز على التشابه بين كلمة عدوانية «hostility» وضيافة «hospitality» في اللفظ الإنجليزي، حيث تقلب إضافة حرف واحد العدوان إلى ضيافة وترحيب.
بعد اجتماعي
ويظل هذا البعد الاجتماعي حاضرا في معظم مشاريع راكوفيتز، ففي مشروعه باراسايت «ParaSITE» الذي بدأه في عام 1997، يلعب في كتابة الكلمة التي تعني طفيلي ليحولها إلى مقطعين لتعني المكان المجاور أو الملتصق بمكان آخر.
ويستخدم راكوفيتز مواد معاد تدويرها كالأكياس البلاستيكية لصنع تكوينات بلاستيكية يمكن نفخها عند وضعها على شبابيك المباني أو أي مصدر تهوية آخر لاستخدامها كأماكن لسكن المشردين، مستفيدين من تدفئة البنايات التي توضع قربها.
وفي معرضه الأخير، يستخدم الأسلوب ذاته لنرى مجسما بلاستيكيا لمبنى مُجمع مشروع إسكان شعبي في سانت لويس بولاية ميسوري، صممه المعماري الشهير مينورو ياماساكي عام 1956، (وهو مصمم مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك)، لإسكان نحو 10 آلاف شخص، في ما يشبه اليوتوبيا الحداثوية يحرص فيها على خلق فضاءات مفتوحة ومساحات خضراء وسط المباني، بيد أن مشكلات في التنفيذ أدت إلى حذف هذه المساحات، كما استحال المشروع لاحقا إلى مكان للعزل العرقي والاجتماعي للسود والطبقات الفقيرة، وقد فجرت المباني لاحقا في عام 1970 واستخدم ركامها لخلق تلال عالية استخدمت كأماكن لفيلات راقية للأغنياء فوقها.
وفي هذا العمل يرثي راكوفيتز هذا الحلم الأمريكي الذي نراه ينتفخ أمامنا في هذا الشكل البلاستيكي ثم ينهار من جديد خلال دقائق.
وفي مشروعه «الرجل الأبيض لا يحلم» عمل راكوفيتز مع السكان الأصليين لأستراليا، وأعاد معهم بناء نموذج نصب الأممية الثالثة للفنان الروسي فلاديمير تاتلين، والذي كان من المقرر أن ينصب وسط مدينة بطرسبورغ بارتفاع أعلى من برج إيفل لكنه لم ينفذ. وقد أعاد راكوفيتز بناء نموذج البرج من أخشاب وأسلاك وأنابيب وآجر من مشروع آخر لمجمع لإسكان السكان الأصليين في أستراليا في مدينة سيدني تُرك ليتدهور ثم هدم لاحقا.
وقد خصصت إحدى قاعات المعرض لوضع نموذج البرج مع عدد كبير من الشروحات والتخطيطات عن أبعاد المشروع ومصادره. وقد استخدم البرج أيضا كبرج بث لمحطة إذاعية خاصة بالسكان الأصليين.
عبد الناصر والبيتلز
في مشروع جرئ آخر تحت عنوان «الافتراق» يخلق راكوفيتز مسارا متوازيا بين ظهور جون لينون وفرقة البيتلز البريطانية وتفرق رموزها وانحلالها لاحقا وظهور جمال عبد الناصر وحلم الوحدة العربية وتطور الصراع العربي الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط.
وقد حرص على استخدام «كولاجات» من صور ومطبوعات واسطوانات صوتية ورموز وتذكارات وبطاقات تهنئة وتفاصيل أخرى من مرحلة الستينيات تتعلق بتاريخ البيتلز أو مرحلة حكم عبد الناصر في مصر من المنطقة العربية عموما.
وفي قلب المعرض يُعرض إلى جانب هذه الكولاجات فيلم فيديو لعرض تؤديه فرقة غنائية فلسطينية تحمل اسم «صابرين» جعلها راكوفيتز تعيد، فوق سطح أحد المباني في مدينة القدس، تقديم الحفل الغنائي الذي قدمته فرقة البيتلز فوق سطح أحد المباني في بريطانيا، فضلا عن مقاطع مصورة من جنازة عبد الناصر.
ويعمد راكوفيتز إلى كتابة شروحات وتعليقات ومقارنات للتفاصيل والتواريخ بخط يده إلى جانب الكولاجات الصورية التي وضعها، كما هي الحال في مقارنته بين وفاة عبد الناصر ومقتل نجم البيتلز جون لينون في شهر ديسمبر بفارق عشر سنوات بينهما. ويضع في أحد الكولاجات خبر مقتل لينون وبدء انتفاضة الحجارة الفلسطينية الأولى في التاريخ نفسه في الثامن من شهر ديسمبر/كانون الأول.
ويمتلئ المعرض بالكثير من الصور والتذكارات من مسيرة فرقة البيتلز أو من منطقة الشرق الأوسط في الستينيات أو ما يجمع بينهما على سبيل المثال: مقترح تقديم البيتلز لحفلة في ليبيا أو قرب الأهرامات في مصر، أو يقدم صورة لياسر عرفات على غلاف مجلة التايمز تشبه حركته فيها حركة نجم البيتلز جورج هاريسون على غلاف مجلة رولينغ ستون واضعا تحتهما تعليقا متشابها هو «أبطال العودة» بالعربية والإنجليزية.
كما يضع عددا من الاسطوانات التي سجلتها شركة كولومبيا لعبد الناصر أو بن غوريون مع اسطوانات البيتلز وتبدو متشابهة في أغلفتها، أو يعيد تصميم غلاف اسطوانة شهيرة للفرقة نفسها واضعا كولاج من صور القادة والزعماء العرب معهم.
«لكم اللحم ولنا العظم»
تحت هذا العنوان يكرس راكوفيتز إحدى صالات المعرض لاستذكار مذبحة الأرمن في عام 1915 مستعيدا زخارف نفذها حرفيون أرمنيون بأسلوب الآرت ديكو لتزيين مبانٍ في مدينة اسطنبول التركية. حيث يملأ القاعة بتخطيطات ونماذج جبسية لمثل هذه الزخارف، فضلا عن إعادة تشكيلها باستخدام عظام بشرية أو حيوانية.
وفي قاعة ثانية يضع راكوفيتز مجموعة من الكتب المنحوتة من الحجر لكتب قد احترقت مزاوجا بين الكتب اليهودية المقدسة التي أحرقها النازيون وتلك الكتب التي احترقت في قصف عرضي لطائرات القوة الجوية الملكية البريطانية لمكتبة فريدريكيانوم في مدينة كاسل الألمانية عام 1941، وتفجير تمثالي بوذا الضخمين في أفغانستان. وقد نحتت هذه الكتب بمساعدة نحاتين وحرفيين من أفغانستان وإيطاليا، من أحجار نقلت من منطقة باميان، حيث فجر مسلحو طالبان التمثالين الضخمين المنحوتين من القرن السادس لبوذا.
وحوط راكوفيتز هذه المنحوتات بخزانات ضمت عددا من الكتب المقدسة القديمة أو لُقى أثرية أو أحجار وشظايا التقطت من موقع تفجير تمثالي بوذا أو حطام برج التجارة في نيويورك وموقع انفجار المكتبة الألمانية أو موقع تجربة تفجير نووي في المكسيك.
ثنائية هدم وبناء يقدمها راكوفيتز في أعماله وبأدوات مختلفة في كل مرة، ويقع في جوهرها نقده لحضارة الاستهلاك المفرط الرأسمالية التي نعيشها، والتي يستخدم في كثير من الأحيان، ضمن مفارقة ساخرة، منتجاتها بل ما تنتجه ثقافتها الشعبية من نتاج «كيتش» (مصطلح فني ترجع أصوله إلى كلمة ألمانية استخدمت في القرن التاسع عشر لوصف الإنتاج الفني الرخيص والأشياء التي لا قيمة لها، واتسع استخدامه لاحقا للتعبير عن مجمل نتاج ثقافة الاستهلاك) لإعادة بناء ما تهدم.
نقلا عن: بي بي سي عربي