«إن هذا الكتاب سيعيش أطول مما عشت… وسيقول أكثر مما قلت… وسيثير عني جدلا بعد رحيلي أكثر من الجدل الذي أثرته وأنا على قيد الحياة»… بهذه الكلمات يٌمهر الرئيس الراحل محمد نجيب مقدمة كتابه بعنوان «كنت رئيسا لمصر»، الذي عُد في نظر البعض أول محاكمة حقيقية لثورة 23 يوليو 1952 تصدر من أحد أهم قادتها العسكريين بعد سنوات طوال قضاها خلف أسوار الإقامة الجبرية، وهو الأمر الذي فتح الباب لنقاش وجدل عريضين- لم يتوقفا حتى اليوم- على الساحتين الثقافية والسياسية.
فبمجرد ظهور الكتاب في طبعته الصادرة عن دار المكتب المصري الحديث عام 1984، حتى صارت مذكرات محمد نجيب بمثابة المرجع الرئيس لجميع القوى والتيارات السياسية والثقافية المعادية لثورة يوليو وللحقبة الناصرية بشكل عام.
محاولة لإستراداد الذات
تبدو مذكرات نجيب – التي لا تخلو من حس أدبي، وبراعة فى السرد- محاولة لقراءة تاريخ وادي النيل منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى ثمانينات القرن الماضي من زاويته الخاصة، بحيث يضمحل التاريخ العام أمام (الأنا المتعالية) للرئيس الذي حلم بقيادة التغيير ذات حين، فإذا به يقع رهن الإقامة الجبرية، ويُترك طي النسيان لسنوات طوال إلى حد سماعه نبأ وفاته في المذياع أكثر من مرة- كما يروي في سيرته.
لم تكتب السيرة الذاتية لنجيب على نحو ما جرت عادة من يطلقون تغريدتهم الأخيرة فيطلقون ذكرياتهم ورحلات كفاحهم على طبيعتها دون تكلف، وإنما كانت بمثابة خوض لمعركة، و محاولة لاسترداد الذات التي أفناها التخفي خلف أسوار الاعتقال، والتبرؤ من الكثير من الأخطاء والمسؤليات التي ألصقت بشخصه، والتشفي والانتقام من أولئك الذين أنهوا طموحه بتحديد إقامته.
في مذكراته استطاع نجيب نفسيا استرداد حريته وقوته وسيطرته وتفرده – ليكون أول دفعته في المدرسة الحربية، وأول من اعترض من بين اقرانه بكلية غوردون على المعاملة السيئة لأبناء وادي النيل من الضباط الانجليز، وأول من قدم استقالته من الحرس الملكي اعتراضا على التجاوز في حق الملك فاروق من قبل الانجليز في اعقاب أحداث فبراير 1942، بالإضافة لإنجازاته العسكرية في حرب 1948، وتضحياته وإصاباته التي بلغت نحو 12 اصابة لم يسجل منها سوى ثلاثة فقط، وقيادته لحركة الضباط الأحرار الذي كان صاحب الفضل في تسميتها. نفسيا تحول الرئيس السجين إذن إلى بطل خارق منذ الطفولة، استعاد مجده ومكانته وأهميته المعنوية.
الملك فاروق
لم يتوقف نجيب في مذكراته عند هذا الحد، وإنما تبرأ من الكثير من القرارات والقوانين التي اتخذتها ثورة يوليو في مسارها الإصلاحي- وإن تعرضت للانتقاد فيما بعد، حتى تلك التي مٌهرت بتوقيعه كقانون حل الاحزاب، أو كانت في عهد وزارته العسكرية كقانون الإصلاح الزراعي. فبحسب نجيب –كانت الاغلبية في مجلس قيادة الثورة – تدعم القرارين وقد اضطر لاتخاذ هذه القرارات نزولا على رأي الاغلبية، على الرغم من أنه يسوق في مذكراته مبرراته الشخصية لاتخاذ هذه الخطوات.
كان نجيب يلقي بشهادته للتاريخ، وهو معلق ما بين الأرض والسماء – على حد تعبيره – وقد أراد من وراءها – كما يقول – كشف عدد من الملفات الهامة في تاريخنا المصري الحديث التي ظلت حقائقها مطموسة بفعل توالي جيل الثورة على أجهزة الدولة تارة، والتأثير القوي للتيارت السياسية التي تبنت وجهة النظر الرسمية في ظل غيابه خلف أسوار الإقامة الجبرية تارة أخرى. وأيا ما يكون الأمر فقد استطاع نجيب من وراء كتابه إثارة الإشكالات، وفتح باب الجدل حول العديد من الملفات الهامة.
نسخ ثلاث.. وروايات متناقضة
إلا أن ثمة إشكالات وأسئلة دارت حول الكتاب في ذاته، بعضها يتعلق بمصداقيته، فكتاب «كنت رئيساً لمصر» ليس أول كتاب يحتوى على مذكرات الرئيس محمد نجيب، بل هو الكتاب الذى يحتوى على النسخة الثالثة من مذكرات نجيب، فقد صدرت النسخة الأولى من مذكرات نجيب عام 1955 بعنوان «مصير مصر» في بريطانيا والولايات المتحدة، وجرت ترجمتها وأعيد نشرها فى مصر فى ثمانينيات القرن الماضي.
وفى عام 1975 أصدرنجيب النسخة الثانية من مذكراته بعنوان «كلمتى للتاريخ»، وفى عام 1984 صدر كتاب «كنت رئيساً لمصر»، الذى احتوى على أخر تنقيح لمذكرات الرجل.
من يطالع النسخ الثلاث من مذكرات الرئيس نجيب ، سيفاجئ باختلافات وتناقضات واضحة فى روايات وآراء نجيب، خاصة بين النسخة الأولى «مصير مصر»، والنسخة الأخيرة «كنت رئيساً لمصر». وقد يكون من الضروري أن نعرض بعض الأمثلة أو الوقائع على اختلاف الطبعات.
الواقعة الأولى تتعلق برأى نجيب فى جمال عبد الناصر، ففي الإصدار الأول من مذكراته (مصير مصر) ص 21 يقول محمد نجيب عن عبدالناصر: «ذات يوم أحضر عامر أحد أصدقائه معه صاغاً شاباً تذكرت أنى قابلته فى الفالوجا فى فلسطين وأعجبت بشجاعته فى القتال، واسمه جمال عبد الناصر، كان قد أصيب خلال المعارك، وكاد يموت وبمجرد تعافيه رفض أن يعود للقاهرة، وصمم على العودة لميدان القتال».
جمال عبد الناصر
لكنه في إصداره الأخير «كنت رئيسا لمصر» ينفث عن غضبه وكراهيته لعبدالناصر إلى حد تزييف وقائع التاريخ حيث يقول في ص81 : «خلال شهور الحرب لم يلفت جمال عبد الناصر انتباهى، لكنى أتذكر أنه كان يحب الظهور، ويحب أن يضع نفسه فى الصفوف الأولى والدليل على ذلك ما حدث فى الفالوجا، كنا نلتقط صورة تذكارية ففوجئت بضابط صغير يحاول أن يقف فى الصف الأول مع القواد، وكان هذا الضابط جمال عبد الناصر، ولكنى نهرته وطلبت منه العودة لمكانه الطبيعى فى الخلف، وعرفت عنه بعد ذلك أنه لم يحارب فى عراق المنشية كما أدعى ولكنه ظل طوال المعركة فى خندقه لا يتحرك».
نجيب، وموقفان الإصلاح الزراعي
أما الواقعة الثانية التي تبين حجم التفاوت والتناقض في المواقف إلى حد التزييف،فلا تخص غريمه عبدالناصر، وإنما خاصة برأى محمد نجيب فى قانون الإصلاح الزراعى. إذ نراه في النسخة الأولى من مذكراته يبرر إصدار قانون الإصلاح الزراعي، مؤكدا أهميته في تغيير حياة الفلاح المصري، و دوره في إصدار القانون الوطني حيث يقول نجيب في كتابه (مصير مصر) ص97: «وهل هناك من وسيلة أفضل لرفع معنويات الفلاح وبالتالى ملكاته من تمكينه من حيازة قطعة أرض، إن الفلاح الذى لا يملك أرضا لا يعدو أن يكون انسانا محطما، أما الفلاح مالك الأرض فهو رجل حي لا يتردد فى الدفاع عن أرضه ولو جاد بالحياة.. والفرق بين الفلاح مالك الأرض والفلاح المعدم هو الفرق بين الإنسان والحيوان الذى يمشي على قدمين. ولا بد لنهضة مصر من رجال. لذا كان قانون الاصلاح الزراعى وسيلتنا لتحويل الفلاح المصري لرجل قادر على بناء وتنمية وطنه. لذا تخلصت من وزارة على ماهر لأصدر القانون الذى غيّر مسار حياة الفلاح المصري للأفضل».
علي ماهر
أما في كتاب «كنت رئيساً لمصر» ص 159، فنجد له رواية أخرى حيث يقول: «صدر قانون الاصلاح الزراعى رغم معارضتى، ونزولا على رأى الأغلبية. فقد كنت مع الضرائب التصاعدية. وكنت أرى أننا سنعلّم الفلاح الذى حصل على الأرض بلا مجهود أو تعب، الكسل والنوم فى العسل.. وكنت أرى أن تطبيق القانون سيفرض علينا إنشاء وزارة جديدة لمباشرة تنفيذه «وزارة الاصلاح الزراعى» وهذا سيكلفنا أعباء مالية وإدارية لا مبرر لتحملها. وكان من رأيي أن وجود الملاك الجدد بجانب الملاك الأصليين سيثير الكثير من المتاعب والصراعات الطبقية».
هذه الاختلافات البينة في مواقف نجيب رصدها الكاتب والمؤرخ الراحل الأستاذ «صلاح عيسى» فى كتابه «مثقفون وعسكر» فى فصل «حرب المذكرات السياسية فى الفكر العربى»، حيث إشار إلى وجود اختلافات فى الطبعة المصرية لمذكرات نجيب التى صدرت بعنوان «كلمتى للتاريخ» عن الطبعة اللبنانية لنفس الكتاب، شملت فقرات محذوفة، وأخرى أعيد صياغتها، وهو ما جعله يصف كتاب «كلمتى للتاريخ» بأنه جعل من الخونة أبطالاً ومن الأبطال خونة.