ثقافة

المرأة في حياة نجيب محفوظ

نشأ نجيب محفوظ في أسرةٍ النساءُ فيها أغلبية، أمه وأربع أخوات، عاش طفولته بين أم وأب في بيت خلا من أشقاء كانوا قد كبروا وانفردوا بمعيشتهم، سواء بالزواج أو العمل، فنشأ كأنه الطفل الوحيد في أسرته، ثم لمّا تزوج كان هو الرجل الوحيد في البيت مع زوجته وابنتيه.

تربى محفوظ في أجواء لم تكن البنات فيها ممنوعة من الاختلاط مع الأولاد، كان يلعب معهن في البيت وفي الشارع، وله قصص حب مبكرة جداً في حياته، وعاش فترة شبابه بالطول والعرض، وكان يجد نفسه منجذباً إلى المرأة الجميلة تشده إليها مقاييس خاصة في الجمال: البشرة البيضاء والعينان السوداوان والشعر الذهبي، كانت تلك المواصفات كفيلة بأن تُوقع الفتى اليافع في قصة حب، وكانت له جولات فاشلة في معارك الحب، كما كانت له صولات من الشقاوة يعوض فيها خسارته.

نجيب محفوظ وزوجته السيدة عطية الله إبراهيم

عاشق العيون الكحيلة

«كان يعز الستات قوي»، على حسب ما قالت الفنانة معالي زايد التي تعرفت إلى نجيب محفوظ عن طريق الكاتب يوسف القعيد، ثم قدمت أهم ثلاثة أدوار من أعماله في حياتها هي «زنوبة» في مسلسل «الثلاثية»، و«حميدة» في مسلسل «زقاق المدق»، و«ياسمين» في «دنيا الله»، تقول: «اجتمعت بنجيب محفوظ لأول مرة عندما كنت أقدم شخصية «حميدة» في مسرحية عن رواية «زقاق المدق»، فوجدته خفيف الدم، سريع البديهة». يقاطعها يوسف القعيد ليقول لها: «وكان يعز الستات»، فردت معالي: «قوي، قوي، جداً».

نجيب محفوظ ومعالي زايد

وهو له في ذلك فلسفة خاصة ترى أن الأديب يبدع أفضل ما عنده وهو يحب، وكان يقول: «كتبت الكثير من رواياتي تحت تأثير حالة حب، ليس من الضروري وأنا أعيش التجربة لكن بعد مرورها، وسرقني الزمن وفاتني سن الزواج، ولم تتوقف محاولاتي للحب، وتعرفت على أكثر من فتاة، يقودني الجمال إلى حب المرأة، كل من أحببتهن بيضاوات شعرهن بين الذهبي والعسلي، عيونهن سوداء، أحلى العيون في نظري هي السوداء الكحيلة، ودخلت قصص حب فاشلة، وحينها كنت أهرب من القاهرة كلها، أسافر بعيداً أغير الجو كله، وكانت الإسكندرية هي المكان الذي تهدأ فيه أعصابي، هربت إليها في كل مرة اصطدم حبي بصخرة الواقع، ولم يكن يشفيني من قصص الحب الفاشل غير قصائد غزل طويلة كنت أكتبها فيها.

قصص حب كثيرة

أحب محفوظ وهو صغير أكثر من مرة، وبدأت قصصه مع الحب مبكراً، يقول: «في أيام طفولتي بالجمالية كان الأولاد والبنات يلعبون معاً، وكانت الصداقة الطفولية تستمر بينهم إلى أن تصل البنت إلى بداية مرحلة المراهقة فتجلس في البيت ولا تلعب مع الأولاد. في ذلك الجو المفعم بالبراءة والطهارة عشت قصة حب ساذجة وبريئة انتهت بانتقالنا إلى حي العباسية، ولما دخلت مرحلة البلوغ استرعت انتباهي بنت الجيران التي بهرتني بجمالها بعدما رأيتها تلعب مع البنات في الشارع، وكنت ألعب مع الأولاد، ورغم هذا الإعجاب فلم أستطع التحدث إليها مباشرة. وبمرور الأيام بدأت محبوبتي تبادلني النظرات، وتطورت العلاقة من النظرة إلى الإشارة فكنا نتبادل الإشارات من شبابيك غرفنا المتقابلة».

اقرأ أيضا:

الجميل أن نجيب محفوظ يحكي القصة بعد مرور نصف قرن، ولكنه يتذكر تفصيلات وحركات المحبين في تلك السن، فيقول: «كانت تتابع تحركاتي وكنت أتابع تحركاتها وفكرنا في وسيلة للاتصال فلم نجد غير الخدم يطمئنون كلا منا على صحة وأحوال الآخر. كنت أذهب إلى الموسكي لأشتري زجاجة عطر ومنديلا وأعطيهما لخادمتها فتصلني عبارات الشكر والحب. وحدث أن أخاها الذي يكبرني بأعوام قليلة بدأ يشك وفي ويوم استوقفني ليهددني بأنني إذا لم أكف عن هذه الحركات الصبيانية التي تحدث من الشباك ستكون عاقبتي غير حميدة، وفرض قيوداً صارمة على أخته فمنعها من الخروج والوقوف في الشباك أو «البلكونة»، ثم انتقلت أسرتها للسكن في حي آخر، ودخلت الجامعة، ونسيت القصة».

ولكن القصة لم تنته، يقول: «وذات مرة، دخلت بيتنا فوجدتها جالسة مع أمي ولكنها كانت قد تزوجت، ويبدو أن حنينها إلى الأيام الأولى جعلها تأتي لتلقي التحية على أمي جارتها القديمة في السنين الماضية. والحقيقة أنني لما رأيتها هذه المرة لم تحرك ساكناً في قلبي وكأنها سيدة عادية كاللاتي ألقاهن في الشارع أو في السوق مثلاً. بعدما انتهت من كلامها مع أمي دخلت غرفتي وجلسنا نسترجع شريط شقاوة زمان، ويومها أقسمت بكل عزيز لديها أنها تمنت لو تزوجتني وكانت صريحة جداً تضحك من قلبها، وهي تتذكر «طناشها» لي عندما كنت أشير لها من «البلكونة».

قصة الحب الثانية في حياة نجيب محفوظ تكاد تكون هي قصة الحب التي وقع فيها كمال عبد الجواد في رواية «قصر الشوق». كانت أخت صديق له، وكانت تكبره بخمس سنوات، من أسرة تتخذ الطابع الأوروبي في التعامل، وترفض التقاليد المصرية التي كانت سائدة آنذاك. كانت تخرج على أصدقاء أخيها لتحييهم عندما يزورونه في البيت، فوجد نفسه يفكر فيها ويسرح بخيالاته في جمالها ورقتها، وصوتها العذب، كما يقول، وظلت مسيطرة على عواطفه سنوات طويلة، يقول: «كنت أكتفي بالنظر إليها والسرحان في دنيا الأحلام»، وكأننا أمام كمال عبد الجواد في الثلاثية، حب من طرف واحد لمدة طويلة». يحكي «أنه كان يعرف أن حبها بالنسبة إليه مستحيل، فهي تبلغ 20 سنة وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وظل حبه لها صامتاً. حين كان ينتهي من لعب الكرة قبيل المغرب كان يسارع إلى الجلوس في مقابل الشرفة حيث تقف، وينظر إلى وجهها الجميل من بعيد، ومضى عام علم بعده أنها ستتزوج وعندها: «عصر الحزن قلبي وكانت صدمة قاسية بالنسبة إلي»، انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام وبدأ حبها يخفت وتنطفئ نيرانه، خصوصاً بعدما تخرجت في الجامعة وانشغلت بالوظيفة وبحياتي الأدبية ثم زواجي بعد ذلك. إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي».

مرحلة العربدة

على أعتاب مرحلة المراهقة، وقبل أن يدخل في تجربة حبه «الأفلاطوني» يعترف نجيب محفوظ بأن علاقته بالبنات لم تكن تزيد على مداعبات تتجاوز الحد أحياناً، وكانت هذه التجاوزات البريئة تصطدم بالإحساس الديني عنده، وهو كان على أشده في تلك الفترة، يقول: «لدرجة أنني كنت أتوجه بالتوبة إلى الله يومياً».

الفترة التي سبقت زواجه عاش بنص كلامه: «حياة عربدة كاملة»، يقول: «كنت من رواد دور البغاء الرسمي والسري، ومن رواد الصالات والكباريهات، ومن يراني في ذلك الوقت يتصور أن شخصاً يعيش مثل هذه الحياة المضطربة، وتستطيع أن تصفه بأنه حيوان جنسي لا يمكن أن يعرف الحب والزواج. كانت نظرتي إلى المرأة في ذلك الحين جنسية بحتة، ليس فيها أي دور للعواطف أو المشاعر، وإن كان يشوبها أحياناً شيء من الاحترام، ثم تطورت هذه النظرة وأخذت في الاعتدال بعدما فكرت في الزواج والاستقرار».

ويضيف: «تأخر زواجي أولاً بسبب موت والدي، فقد ترك أمي وأختاً لي أرملة، وهي أم لصغيرين في حاجة إلى تربية وكانت «ماليتي» يا دوب، وكنت رجلهم الوحيد، بعد أن تزوج أخواي وانشغلا بأسرتيهما، وكنت خاطباً قبل موت أبي فذهبت إليها وأفهمتها الظروف وافترقنا».

السبب الثاني لتأخر زواج نجيب محفوظ أنه كان يجد دائماً من يخدمه، يقول: «كانت والدتي تقوم بكل مطالبي من طعام وغسيل وكي، فكانت حياتي في المنزل منظمة، أعود لأجد كل شيء كما أريده». والسبب الثالث يذكره نجيب محفوظ عرضاً وهو يحكي عن تجربته: «كثير من زملائي الذين تزوجوا على أساس الحب الرومانسي فشلوا»، ومع تكرار قصص حبه التي تنتهي من دون زواج، كان محفوظ يبتعد أكثر فأكثر عن فكرة الدخول في مغامرة الزواج.

أما السبب الأهم فهو تخوف نجيب محفوظ المزمن من أن يؤثر زواجه في مشروعه الأدبي، وقد ذكر ذلك بأكثر من صيغة وفي أكثر من حوار، يقول مثلاً: «كنت في تلك الفترة أناقش نفسي في يومياتي التي كنت أواظب على كتابتها: هل أتزوج أم لا؟ وكنت أعتقد أن الزواج سيحطم حياتي الأدبية، وللأسف كان كلامي غير صحيح، فالحقيقة أن حياتي الزوجية ساعدتني، وليس العكس، واكتشفت أن الأديب «عايز حد جنبه، وقلبه عليه».

اقرأ أيضا:

سبب آخر يذكره محفوظ كان يجعله يحجم عن الزواج، فهو كلما كبر في السن، كان يشعر بأنه فقد قدرته على «المرونة» المطلوبة في الزواج الذي يتطلب توافقاً وشراكة تستوجب اللقاء عند نقطة توازن، يتنازل عن أمور ويتنازل الطرف الآخر عن أمور أخرى، وكان يرى أنه كبر على صناعة ذلك التوازن، وكان قد اعتاد على حياة «العزوبية»، و«يرفض أن يغير شيئاً من عاداته وطباعه، وفي الوقت نفسه يرفض أن يعذب من ترتبط به بإرغامها على نظام حياته من دون أن تكون لها كلمة واحدة أو رأي واحد».

في قفص الزوجية

تقدم العمر بوالدته وضعف صحتها، كان هو السبب المباشر في دفع محفوظ  إلى دخول قفص الزوجية. فلم تعد أمه قادرة على الأعباء الكثيرة المطلوبة منها، ما جعلها تلح عليه بشكل يومي لا ينقطع ليبحث له عن زوجة. وفي كل مرة كان يرفض ويتذرع بحجج واهية، يقول: «اختارت لي فعلاً فتاة من أقاربي وتحدثت إلي أمها في الموضوع، والدة تلك الفتاة رحبت بي، ولكن ابنتها كانت ثرية ومطمعاً للرجال، وعندما فكرت وجدت أن هذه الزيجة ستكون ماسة بكرامتي بسبب أوضاع الفتاة المالية، وعدم التكافؤ بيننا من الناحية المادية، ولم يكن ثمة ما يجبرها على الزواج من أديب له مزاج خاص وطريقة حياة مختلفة ولا يمكن السيطرة عليه. رفضت عرض أمي، خصوصاً بعدما علمت أن أهل الفتاة سيتكفلون بكل تكاليف الزواج من مهر وشبكة وأثاث المنزل».

إلحاح والدته وعروضها المتعددة للزيجات ثم توقف نجيب محفوظ عن الكتابة بعد قيام ثورة يوليو سنة 1952، وهي الفترة التي يسميها بفترة «اليأس الأدبي» ثم لقاؤه مع «عطية الله»، كل هذه الأسباب جعلته يعدل عن قراره، بل ويسارع لإتمام الزواج، فيقول: «كان أحد أصدقائي متزوجاً، ولزوجته أخت هادئة الطباع رقيقة المشاعر، فوجدت فيها ما أبحث عنه، إذ كانت متفهمة لطبيعة تكويني الشخصية واحتياجاتي ككاتب، فكانت الزوجة المناسبة لي من مختلف الوجوه، فوجدتني منجذباً إليها وكنت مشدوداً بهاجس يقول لي أنت لو لم تتزوج هذه المرة لن تتزوج أبداً».

كان دخل نجيب محفوظ قد ازداد من عمله في كتابة سيناريوهات الأفلام، وأصبح لديه من المال ما يكفي لتأسيس عائلة، فتزوج من السيدة عطية الله إبراهيم، كان زواجاً عقلانياً يقول: «اخترت الزوجة المناسبة لظروفي، ولم تنشأ بيننا قصة حب سابقة على الزواج. كنت في حاجة إلى زوجة توفر لي ظروفاً مريحة تساعدني في الكتابة ولا تنغص حياتي، زوجة تفهم أنني لست كائناً اجتماعياً، ولا أحب أن أزور أحداً أو يزورني أحد، وأنني وهبت حياتي كلها للأدب»، فوجد فيها الصفات التي بحث عنها كأديب، وتزوج في السر، يقول: «أخفيت أمر زواجي عن أمي، ودخلت بزوجتي في شقة شقيقي «محمد» حتى أتجنب ثورة أمي، لأنها كانت رتبت أمر زواجي من قريبتها الثرية، وأنا خذلتها أمام الجميع، فلم أستطع أن أفاجئها بزواجي من امرأة أخرى».

نجيب محفوظ وزوجته وبناته

زواج ناجح

ظل نجيب محفوظ متمسكا بقراره الأول برفض الزواج، حتى اقترب من الخامسة والأربعين من عمره، ثم وجد نفسه أخيراً في قفص الزوجية، مع زوجة اختارها بعقله قبل قلبه، فكانت كأنما خُلقت له، على مواصفاته، وطبقاً لمقاييسه، أنجبت له ابنتيه: أم كلثوم وفاطمة، وعاش معهن حياة أسرية سعيدة ومنضبطة كما كان يتمنى وأكثر.

مع زواجه، تحققت له أمنية كان يتوق إلى تحقيقها، يقول: «حين تزوجت في عام 1954 أحضرت زوجتي من الإسكندرية،  وسكنا «عوامة» على النيل في العجوزة، وأمضيت فيها أسعد أيام حياتي. لا أستنشق أنفاس الجيران ولا عادم السيارات، فقط رائحة المياه الطازجة المليئة بالطمي وكانت أمامنا على الجانب الآخر أشجار «الكازورينا» الباسقة وعوامات الجيران الذين كان من بينهم علي ماهر باشا، رئيس الوزراء الأسبق، والمطربة المعروفة منيرة المهدية».

ولكن كانت للقدر كلمة أخرى، يقول: «تمنيت أن أمضي حياتي كلها في تلك العوامة لكني عدت في يوم لأجد زوجتي تمسك بابنتنا الصغيرة أم كلثوم وتقول: لن أمضي يوماً آخر في هذه العوامة، واتضح أن أحد جيراننا كانت له ابنة في سن ابنتنا وفي ذلك اليوم سقطت في النيل وهي تخطو من الشاطئ إلى العوامة ولقيت حتفها. وهكذا تركنا العوامة، وانتقلنا إلى شقة في إحدى العمارات الجديدة المواجهة للنيل في الشارع نفسه.

نجيب محفوظ وبناته

زوجة مثالية

لن تجد عن «عطية الله إبراهيم» أية معلومات غير تلك التي ذكرها زوجها نجيب محفوظ، ظلت طول الوقت في الظل، ولم تظهر على العلن إلا بعد حصوله على جائزة نوبل. حتى رواياته التي تناول فيها أنماطاً نسائية عدة لم تجد الزوجة نفسها في أي منها، كانت هي سر حياته، وواحدة من أسرار نجاحه.

كان دور «عطية الله» في حياته عظيماً فوق ما توقع وأفضل ربما مما تصور، يقول: «وجدت فيها هذا التفهم وتلك الصفات المناسبة لي، واستطاعت هذه الزوجة أن توفر لي جواً مناسباً جعلني أتفرغ للكتابة والقراءة. حتى أن إخوتي عندما كانوا يقومون بزيارتهم المعتادة لنا، كانت زوجتي تستقبلهم وتجلس معهم لتتركني وشأني، حتى لا أضيع وقتي في مثل هذه الواجبات الاجتماعية». وها هو يعترف بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب فيقول: «لا يمكنني أن أنكر أن زوجتي «عطية الله» تحملتني كثيراً وساعدتني في تطبيق النظام الصارم الذي فرضته على حياتي، ووفرت لي جواً مكنني من التفرغ للكتابة، وحاولت بقدر طاقتها أن تبعدني عن كل ما يعطلني ويشغل تفكيري، وإذا كان لأحد فضل في المكانة التي وصلت إليها، فزوجتي في المقدمة، جزاها الله كل خير».

صرفت كل جهدها على بيتها وراحة زوجها وتهيئة الجو المناسب لعمله، كانت تعرف متى يكون منشغلاً بالفكرة، ومتى تبدأ الكتابة تطاوعه، تقول: «عندما كان نجيب يبدأ في التفكير في رواية جديدة كان يصبح شديد العصبية، يطلب الهدوء التام، ويثور إذا قطع عليه أحد حبل أفكاره. عندما كنت ألمس في تصرفاته قليلًا من التوتر، وميلاً إلى المشي في صالة منزلنا أو أمام الشقة، أدرك على الفور أن لحظات المخاض قد قربت. كنا نلتزم جميعاً الهدوء لتهيئة الجو المناسب له بقدر الإمكان، كما أسرع بإعداد أكواب الينسون أو الكراوية الساخنة له إذا كان الجو شتاءً. أما إذا نزل الإلهام عليه صيفاً فلا أقدم له إلا أكواب المياه المثلجة جداً إلى أن يهدأ ويمسك القلم ليعبر البداية، وهي أصعب مرحلة له في كتابة الرواية».

ولم تكن عطية الله في حياتها مع نجيب محفوظ «أمينة» ولا كان هو سي السيد، وإن كانت تعترف بأن «فيه بعض من صفات السيد عبد الجواد قليلاً، لكن أقرب شخصية من شخصيات رواياته إليه هي «كمال عبد الجواد» فقد وضع فيها الكثير من حياته». ورغم اهتمامها بما يكتبه زوجها، فإن زوجته لم تطلع على أعماله وهي مخطوطة غير مرة لم تتكرر، وكان ذلك مع رواية «بداية ونهاية»، تقول: «أعجبت بها»، لكن كانت لها بعض التحفظات الأخلاقية على شخصية «حسنين» الذي تمرد على الحياة التي يعيشها، وقالت له: «إنه لا يمثل حياتنا»، فكانت المرة الأولى والأخيرة التي يطلعني فيها على ما يكتب، وأصبحت أقرأ إبداعه بعد النشر».

اقرأ أيضا:

 وحدها في البيت كانت تؤمن بيقين أنه سيحصل على «نوبل»، إلا أنه كان يقابل تلك البشرى ساخراً هو وابنتاه منها، تقول: «كنت متأكدة أنه سيفوز بها وكنت أنتظرها منذ سنوات. كنت أردد أمامه وأمام ابنتينا أنه سيحصل عليها، فكان يضحك بسخرية شديدة، ويقول لي: «إنها مجرد أحلام تداعب أفكارك فلا يمكن لأديب في العالم العربي الحصول عليها»، ودائماً ما كان ينصحني بعدم ترديد هذا الكلام أمام الفتاتين، لكن الحمد لله لم يخيب الله سبحانه وتعالى ظني».

عندما دق جرس الهاتف كان المتحدث من «الأهرام»، قال: «مبروك نجيب محفوظ حصل على جائزة نوبل». لم تتمالك «عطية الله» نفسها، تقول: «ركضت إلى نجيب وكان نائماً، أيقظته، وقلت له: مبروك أنت أخذت نوبل، فقال لي: إحنا في شهر أكتوبر خليها لكذبة أبريل، وأعطيته الهاتف ليتأكد بنفسه، وكان أول كلام قاله لي بعد ذلك: «تصرفي في قيمة الجائزة على كيفك».

وقبل أن ينتهي عام 2014، وبعد وفاة نجيب محفوظ بثماني سنوات، رحلت عطية الله في هدوء، كأنها أصرّت على أن تحافظ على تراث زوجها وتحفظ سلوكه، فتموت من دون ضجيج ومن دون أن يشعر بها أحد، تماماً كما كانت في حياتها، هي التي قال عنها زوجها الأديب الكبير في آخر حوار له: «إن كان لأحدٍ فضل في المكانة التي وصلت إليها بعد الله سبحانه وتعالى، فهي زوجتي عطية الله التي كانت بالفعل عطية من الله إليَّ».

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock