وهج الحضور والظل الوارف للشخصية، هو مركب من خصالها وتجاربها ورأسمالها الفكرى ومدى قدراتها على توزيع المحبة، والمعرفة، وخفة الظل، أو قوة الشخصية وصلابتها إزاء محن الحياة فى مجتمعات صعبة تنوء تحت ركام من المشاكل والأزمات والتشوش.
قدرة الشخصية الإنسانية تتمثل فى قوة الصمود، والمواجهة، وإرادة إحداث التغيير، وزرع الأمل والإدارة الخلاقة، وكسر اليأس، وفتح مسارات فى إطار الواقع المأزوم، والطرق المسدودة، وانتصار إرادة التفاؤل من خلال العمل، وإبداع الابتسامات والضحكات والسخرية الودودة أو المؤلمة التى تحطم بعض اليأس من الواقع المليء بالأشواك والعقبات، والشرور المجانية التى يوزعها بعضهم فى الحياة بولع وشغف ينطوى على سوء الطوية، والعجز عن الإنجاز، وفقدان الموهبة، ونقص الفرص فى مجتمعات سلطوية.
بعض من عرفت من نتاج هذا النموذج الإنسانى المتفرد، هم الجزء الأكثر موهبة وقدرة وفهما لتعقيدات مجتمعاتهم المتخلفة، واستطاعوا الإبحار ببراعة وصعوبة فى دخائل هذا الواقع المركب والمعقد فى تخلفه التاريخى، وحاولوا بجد واجتهاد واقتدار أن يتحرروا من عوالم العقد النفسية، والتشوش الفكرى، وذلك من خلال الفعل الخلاق، لاسيما فى عالم المثقفين والباحثين، فى مجتمعات لا تأبه كثيرا بالمعرفة والبحث والإبداع.
من هنا يتعاظم ويتكثف الألم عند الرحيل، ومن هنا نلجأ إلى المقدس تعالى وتنَّزه بحثًا عن سكينة ما، ونلجأ إلى بعض من موروثنا العميق، علنا نخفف بعضا من ثقل الفراق، لهذا نستدعى وصف الرحلة بأنها سفر طويل فى الغروب، نستظل بالمجاز من اللاهوت الفرعونى لإخفاء ظاهرى لوحشة الفراق.
تداعى إلى الذهن والروح هذا المجاز، ومعه المقدس الدينى، عندما صدمنى سفر الصديق الحبيب مصطفى اللباد فى الغروب حاملا سلامة روحه الجميلة، منتصرًا على آلام المرض والحياة.
تداعت إلى الذاكرة المثقلة بالوهن وثقل الزمن، اللقاءات الأولى مع الصديق الغالى مصطفى، بعيدًا عن والده المثقف والفنان والرسام الكبير البارز محى الدين اللباد الذى تعلمنا من كتبه، ومن كتاباته ورسومه، وتصميماته لأغلفة الكتب، ما ساعدنا على الخروج من دائرة أمية العيون.
اقرأ أيضا:
باحث من طراز خاص… وداعا مصطفى اللباد via @aswatonline https://t.co/A6FemJTb2P
— أصوات Aswat (@aswatonline) September 1, 2019
عرفت مصطفى عن طريق الصديق الكاتب سيد خميس، الرجل الذى كان ضعيفًا إزاء الموهوبين، والكاره للأدعياء، ومحدودى الموهبة والكفاءة.
جاء سيد خميس المقدر لموهبة مصطفى الذى درس فى ألمانيا وحصل على درجة الدكتوراه، شاب نابه موهوب، ويحمل طاقة خلاقة للعمل، ويعرف ماذا يريد فى مجال البحث والتخصص، وعقل مفتوح، وتكوين مثقف وهو أمر نادر فى جيله والأجيال السابقة له، والتى تليه، إذ غالبًا ما يدور الباحث فى مجال تخصصه، ولا يكاد يعرف إلا النذر اليسير من التخصصات الأخرى، أو التكوين الثقافى المطلوب، الذى يؤدى إلى عمق التفكير ورهافة الأسلوب، وتكامل المقاربة المنهجية لبحثه والتفكير العلمى والمنهجى المنظم.
توافرت المعرفة الجادة والتكوين العميق والثقافة والعقل المنظم لمصطفى اللباد، والأهم اختياراته لمجال تخصصه الذى بدا شاغرًا، ومحدود الإنتاج، ومضطرب الروئ لدى بعض ممن يعملون فى إطاره.
وهو دول الجوار الجغرافى العربى، وتصاعد نفوذ هذه الدول وتأثيراتها فى الإقليم العربى، وهى إيران وتركيا.
من هنا كان المتخصص الأبرز علمًا، والأعمق تكوينًا وتحليلا للشئون الإيرانية والتركية.
تشكلت صداقتنا عبر اللقاءات والحوارات المتعددة فى زياراته إلى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، وفى أماكن اللقاء المتعددة فى وسط المدينة، أو فى زيارات لمنزل الفنان الكبير محى الدين اللباد، أو لدى صديقنا الجزائرى الجميل الخصال والروح جمال سى العربى، فى منزله بالدقى، ثم فى المقطم.
العزيز مصطفى اللباد، وأخوه الصديق أحمد اللباد المثقف البارز والفنان المرهف، واللامع فى عمله الفنى، كلاهما من أبناء مدرسة الكبير محى الدين اللباد، أسرة مثقفة ومتميزة ولامعة، أحترمها كثيرًا.
شخصية مصطفى اللباد صديقى الغالى، تتسم بالقوة والصلابة، والحضور المتوهج، والتألق وروح الدعابة والسخرية الودودة، على الرغم من الجدية والصرامة التى يبدو عليها كان قادرًا على التقاط المفارقات والتناقضات التى تولد الابتسامات والضحكات البريئة والذكية فى سخريتها، على الرغم من جدية موضوعات النقاش، أو تناول بعض تصرفات محدودى الموهبة والكفاءة فى جماعة الباحثين فى العلوم السياسية والاجتماعية الذين جاؤوا إلى هذه التخصصات الصعبة من أبواب خلفية وبالوساطة لبعضهم، ولم يقدموا عملا يدل على الكفاءة وعمق البحث والتحليل والتفسير، أو ليست لديهم موهبة متميزة هنا كانت تنفجر السخرية الذكية فى التقاط بعض الأعمال السطحية والكتابات النمطية والوصفية المحدودة والسطحية التى تعتمد على مقتبسات بعض الجرائد العربية ويعاد إنتاجها.
سياقات مولدة لسخرية وضحكات مصطفى اللامع المتألق، والذكى الذى يطالع بعمق ما يجرى فى تخصصه من كتابات وبحوث وكتب جديدة، من خلال اللغة الألمانية والإنجليزية والعربية، واجه بعض عقبات فى أن ينتسب إلى بعض مراكز البحوث المرموقة من بعض من تصوروا أنه يشكل خطرًا عليهم بعلمه ومعرفته وثقافته، إلا أن مصطفى اللباد، واجه ذلك بقوة الإرادة وتفاؤلها، وجدية العمل فى تخصصه، وقام بإصدار مجلة شرق نامة، وأصدر كتاب حدائق الأحزان.. إيران وولاية الفقيه وصدَّر الكتاب بكلمة موحية إلى “الأحلام التى استعصت، والمعانى التى استغلقت، إلى الجغرافيا فى مقام الرست، والتاريخ فى مقام نهاوند”، وهو كتاب من الكتب المهمة التى أثارت نقاشا مهما فى لبنان ومصر؛ نظرًا لعمق المقاربة والتحليل والمعلومات الدقيقة، وشغل موقع مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية بالقاهرة، ثم أصدر ورأس تحرير مجلة “شرق نامة” المتخصصة فى الشئون الإيرانية والتركية وآسيا الوسطى.
اتسم الصديق الغالى مصطفى اللباد بالدأب فى العمل، وفى المتابعة العلمية وعدم التشتت، وبرز حضوره التلفازى المتألق من خلال مساهماته فى التعليق على الشئون السياسية الداخلية، وفى مجال السياسة الخارجية لإيران وتركيا ومنطقة آسيا الوسطى، وذلك من خلال دقة وعمق التحليلات التى كان يقدمها لإنارة جماعات المشاهدين للقنوات الفضائية العربية والأجنبية.
كان مصطفى اللباد منحازًا للأغلبيات الشعبية المعسورة، وذلك لحسه السياسى العدالى، وانتمائه الفكرى لليسار بالمعنى العام للكلمة، ومن ثم اتسمت روحه الوثابة بالنزعة الإنسانية الرحبة.
سافر الحبيب الغالى مصطفى فى الغروب، سفرا طويلا، وروحه الجميلة مقيمة فى حياتنا، وذكرياتنا معه حية ويقظة، وحضوره لا يزال وسيستمر متوهجًا، وابتساماته وضحكاته وسخريته الودودة تضيء العتمة فى اللحظات الصعبة للحياة. لروحك السلام يا صديقى.
نقلا عن: التحرير