«كانت حقا من أعظم وأهم المشاريع الثقافية في مضمار التنوير العربي، وكانت مجلة من المستوى الراقي الرفيع لا تقل شأنا عن أفضل الدوريات الأوربية»..هكذا وصف الكاتب والمستشرق الأوكراني أجاتنجل كريمسكي، الذي أقام في الشام لسنوات نهايات القرن التاسع عشر، مجلة «المقتطف».
المستشرف الأوكراني كريمسكي
فمنذ أن حصل يعقوب صّروف وفارس نمر على ترخيص إصدارها في بيروت عام 1876 صارت «المقتطف» منارة أضاءت بما تنشره من علوم وأفكار المشرق العربي لما يقرب من ثمانية عقود، روجت خلالها للنظريات والأفكار العلمية التقدمية، وحاربت الفكر الرجعي وحراسه ممن حاولوا عرقلة التقدم، وأصبحت عن حق مركزا لجذب واستقطاب رموز التنوير في العالم العربي.
دائرة معارف
مؤرخ الصحافة العربية الأبرز فيليب دي طرازي، قال عن مجلة «المقتطف» أن مباحثها تناولت كل فن ومطلب، بحيث لو جمعت موادها العديدة على ترتيب حروف الهجاء لتألفت منها دائرة معارف أو قاموس كبير يرجع إليه الباحثون في فروع العلوم المختلفة، فإذا أرادوا معرفة ما قيل عن عمر الأرض مثلا، قالوا هلم إلى مجموعة «المقتطف» لنرى فيها ما كتب عن هذا الموضوع، وهكذا قل عن سائر المواضيع العلمية والأدبية والصناعية والتاريخية والتجارية والزراعية والفنية والآثار القديمة والاكتشافات الحديثة والاختراعات العصرية وتراجم المشاهير.
فيليب دي طرازي
أما المفكر القومي قسطنطين رزيق فوصفها بأنها كانت خير سجل لتطور الفكر والعلم والاجتماع لدى العرب طوال ثلثي قرن ونيف، واعتبرها أمير البيان المفكر والأديب شكيب أرسلان «الأنسكلوبيديا الشرقية الكبرى والمعلمة العربية الطولى التي يستضئ بها القارئ العربي في حنادس المشكلات العقلية والغوامض الفكرية».
في دراسة بعنوان «المقتطف.. السيرة والدور العلمي»، شرح الدكتور عبد الله حسين بدران الدور الرائد الذي أدته المقتطف في مسيرة الصحافة العلمية العربية، من خلال طرح الموضوعات العلمية، والتركيز على دور العلم في النهضة الشاملة ونشر المصطلحات العلمية وإعادة الإعتبار للغة العربية لكونها قادرة على مواكبة التطورات العلمية وعلى أن تكون لغة العلم والحضارة.
ويضيف بدران في دراسته: «يجمع كل من أرّخ للصحافة العلمية العربية أن أفضل نموذج للدوريات العلمية العربية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين هو مجلة المقتطف التي تعد أم الدوريات العلمية العربية».
أسس يعقوب صروف وفارس نمر «المقتطف» لتكون دورية عربية علمية، وطبعت في مطبعة المرسلين الأمريكية في بيروت، إلى أن طُرد صاحباها اللذان تخرجا في الجامعة الأمريكية ببيروت وقاما بالتدريس فيها بعد أحداث 1882 باعتبارهما من المؤمنين بالفكر الدارويني.
حضن القاهرة الفسيح
ثم انتقلت «المقتطف» إلى مصر منارة العلم وساحة الحرية الفكرية في ذلك الوقت، حيث كانت القاهرة بإجماع أهل الفكر مركزا جاذبا لكل صاحب رأي حتى وإن كان شاذا، احتضنت مفكرين وأدباء وصحفيين وعلماء ضاقت بهم بلادهم فحضروا إليها وأقاموا فيها ونشروا أفكارهم وإبداعهم. رحبت السلطة في مصر بهؤلاء أحيانا وضاق صدرها بهم أحيانا أخرى، لكن القاهرة ظلت جامعة للأفكار وقبلة للمفكرين، حج إليها الأفغاني وأديب إسحق وشبلي شميل ورشيد رضا ثم الكواكبي وغيرهم الكثير، وهو ما حدث مع صروف ونمر صاحبي «المقتطف» اللذين ضاقت بهما بيروت بما رحبت وتربص بهما رجال الدين وإدارة الجامعة الأمريكية، فطرقا أبواب القاهرة وأعادا إصدار «المقتطف» لتستمر لما يقرب من 8 عقود.
يشرح الدكتور إبراهيم عبده كيف استقبلت القاهرة صاحبى «المقتطف» فيقول في كتابه «أعلام الصحافة العربية»،إن رياض باشا رئيس وزراء مصر عندما علم أن صّروف ونمر عقدا العزم على نقل جريدتهما إلى القاهرة كتب إليهما قائلا: أُخبرت أنكم عزمتم على نقل جريدتكم إلى القاهرة فسرني ذلك لما تحويه من الفوائد الجليلة والنفع الدائم لكل بلاد رفعت راية علومكم فيها، وقد اغتنمت الفرصة لأبدي نصيحتي لأبناء هذا القطر لمطالعتها واجتناء فوائدها التي لا تثمن وتعمل على تهذيب العقول وجلاء الأذهان وتفكيه القراء».
د. إبراهيم عبده
أما غريمه شريف باشا، الذي تبادل معه رئاسة الوزراء في بدايات العقد التاسع من القرن التاسع عشر، فأرسل إلى صاحبي المقتطف يقول: «إن الذين خبروا حال العالم واستقصوا سنن الهيئة الاجتماعية واستقرأوا أسباب ترقية البلدان واتساع نطاق الحضارة في كل مكان، أجمعوا على أن العلم أعم ركن في بناء التمدن والمعارف، ولما كانت «المقتطف» خير ذريعة لنشر المعارف بين المتكلمين بالعربية فلا عجب إذ نال ما نال رفعة المقام في اعتبار الخاصة والعامة معا».
شريف باشا
وأضاف صاحب الدولة المصرية في ذلك الحين: قد بلغني خبر نقل المقتطف إلى القطر المصري فاستحسنت أن أبدي مسرتي بذلك لما فيه من الفوائد التي لا تستغنى عنها البلاد، ولا ريب عندي أن عقلاء مصر لا يغفلون عن تعميم فوائده ولا يتقاعدون عن السعي لنشر علومه بينهم، لاسيما وقد علموا أن إنارة الأذهان وتثقيف العقول أقوى واسطة لتحفيز الأمة وشد عرى اتحادها.
ويشير إبراهيم عبده إلى أن الغريمين اتفقا على أن «المقتطف» جديرة بالتقدير، فانتقلت الدورية إلى مصر، وصدرت نسختها القاهرية ولاقت ترحيبا كبيرا في أوساط المثقفين والمتعلمين.
انتظم صدور «المقتطف» في القاهرة منذ عام 1888 وحتى عام 1952 وكانت تصدر غلافها بعبارة «مجلة علمية صناعية زراعية» لمنشئيْها الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر»، واختار صروف أن يضع المجلة في منأى عن السياسة لتنال قدرا كبير من الذيوع والتأثير في الثقافة المصرية والعربية عموما.
فارس نمر
كان يعقوب صروف (1852- 1927) مطبوعا على حب البحث والتدقيق شأن العلماء، يقضي الساعات الطويلة في المكتبات لدراسة المسائل العلمية والفلسفية والتاريخية، وكان واسع الاطلاع على المذاهب العلمية والنزعات الفلسفية وأحداث التاريخ ورجاله، متقنا لأهم اللغات القديمة والمعاصرة، وقد وجد أم المدارس والمعاهد وما في المجتمع من مؤسسات علمية لا تكفي لإحداث نقلة نوعية في تفكير المجتمع نحو العلم، بل لابد من وسيلة إعلامية علمية تقوم بنشر العلم بين الناس وحثهم على الاهتمام به من خلال عرض حقائقه وأخباره ببساطة وتوضيح كيفية الاستفادة منها، بحسب دراسة «المقتطف.. السيرة والدور العلمي» للدكتور عبد الله حسين بدران.
يعقوب صروف
قصة التأسيس والإنتقال لمصر
ويروي الباحث والصحفي وديع فلسطين الذي عمل بـ«المقتطف» قبل إغلاقها بفترة وجيزة قصة تأسيس المجلة كما سمعها من فارس نمر فيقول: إنه في عام 1874 التقى نمر الذي كان يعمل مدرسا للرياضيات ومساعدا لأستاذ علم الفلك في الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأمريكية ببيروت) بيعقوب صروف الذي كان يعمل مدرسا للطبيعيات والكيمياء بذات الكلية، وبدأت بينهما صداقة ازدادت مع الأيام وثوقا بسبب تقارب مشاربهما العلمية وتلاقي طموحهما في خدمة الأمة العربية.
وديع فلسطين
وينقل فلسطين عن نمر قوله إنه كان مع صروف يطالعان ما يصل الكلية من جرائد علمية أجنبية ويتسابقان مع الآخرين على الحصول على هذه المجلات ومطالعتها مما ولّد لديهما الرغبة في توسيع نطاق الإفادة من هذه المادة العلمية بتعميمها بين أبناء الأمة العربية، وطرأت عليهما فكرة إصدار جريدة علمية، فتقدما بطلب للحصول على ترخيص بإصدار المجلة في لبنان.
صدرت المجلة في بيروت لكنها اصطدمت كالعادة بحراس الماضي، فمواضيع المجلة والأبحاث المنشورة بها لم يتقبلها رجال الكنيسة خاصة ما نقلته عن نظرية «النشوء والارتقاء» لداروين، ومحاولتها إثبات أن تلك النظرية لا تتعارض مع ثوابت الأديان والكتب السماوية، وخاضت «المقتطف» معركة مع مجلة «البشير» لسان حال الآباء اليسوعيين، ثم خاضت معركة أخرى بعد ذلك مع مجلة «المشرق» التي أصدرها الأب لويس شيخو اليسوعي، فضغطت إدارة الجامعة الأمريكية في بيروت على صروف ونمر لتغيير سياسة المجلة التحريرية، وأوقفت طباعتها فقررا أن ينتقلا بها إلى القاهرة.
اقرأ أيضا:
يعقوب صنّوع.. بين الحقيقة والأسطورة via @aswatonline https://t.co/OUT0vyMCIc
— أصوات Aswat (@aswatonline) September 4, 2019
مع العلم وضد الخرافة
في 2015 نشرت الباحثة اللبنانية الدكتورة أسمهان عيد دراسة وافية بعنوان «مجلة المقتطف.. مقاربة تعريفية نقدية»، تناولت مجلدات المجلة البالغ عددها مئة وواحداً وعشرين مجلداً، وخلصت فيها إلى أن المقتطف مرت بأربعة مراحل:
المرحلة الأولى بإشراف صروف ونمر: 1876 – 1888
المرحلة الثانية بإشراف صروف منفرداً : 1888 – 1927
المرحلة الثالثة بإشراف فؤاد صروف : 1927 – 1944
والمرحلة الرابعة تعاقب عليها اسماعيل مظهر، ونقولا الحداد، وسبيرو جسري، وسامي جسري: 1944 – (كانون الثاني)1952
وعُرفت الدراسة المجلة بأنها جريدة علمية صناعية شهرية، صفحاتها أربع وعشرون وتصدر باللغة العربية. صدرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بلغت فيها السلطنة العثمانية ذروة ضعفها وانهيارها، وتحللت الولايات وخرجت عن سلطة الباب العالي، يقابلها النمو والتقدم العلمي والصناعي في أوروبا.
تعايشت «المقتطف» مع الحربين العالميتين والمآسي التي تولدت عنهما، وتفتيت العالم العربي، ورسم حدود وتشكلات سياسية منضوية تحت انتدابات دول الحلف الأوروبية المنتصرة في هاتين الحربين. وشهدت قسطاً من حراك التحرر والإستقلال في البلاد العربية، وبروز أحزاب قومية ووطنية، بقيادات وشخصيات سياسية وفكرية وعلمية.
اهتمت «المقتطف» بنشر العلوم الغربية الحديثة وبتاريخ العلوم العربية، انطلاقاً من قناعة صروف ونمر بأنه ليس هناك من وسيلة أنجع لتقدم العالم العربي وتمدنه من اعتماد الأسس الحديثة في الزراعة والصناعة والطب، والتعريف بفوائدها العملية، دون إغفال لدور العرب التاريخي في شتى ميادين العلم. ولهذا تركزت اهتماماتها في أعدادها الأولى على الترويج لهذه العلوم وإدخالها في صلب مناهج التعليم، في زمنٍ كانت فيه الأديرة والجوامع تركز على التعليم الديني والاهتمام بالجانب الروحي والأخلاقي عند الناشئة.
فركّزت مقالات «المقتطف» على العلوم التجريبية والإستقراء، ونشر معلومات مبسطة، سهلة التناول في مجالات العلم الرياضي والفلك، وبشكل خاص ما يتعلق بالنظام الشمسي ودوران الأرض، وآشعة إكس.
وأبرز العلوم التطبيقية التي ركّزت عليها «المقتطف» هي العلوم الطبية، لكونها تُعنى بالصحة العامة، ودعت الناس إلى التعرّف عليها وطلبها لما فيها من فائدة. ودعت في الوقت نفسه إلى تجنب الأخذ بترهات السّحرة والمشعوذين الذين يدّعون القدرة على شفاء المرضى، وكانوا منتشرين بكثرة في بلادنا.
وأسهبت الباحثة أسمهان عيد في عرض ما تضمنته مقالات المقتطف من دحض للسحر بأشكاله المتعددة التي كانت متفشية في البلاد السورية، كما أبرزت الجدل الصحفي الذي حدث بين «المقتطف» ومجلة «البشير» لسان حال الآباء اليسوعيين حول السحر.
الباحثة أسمهان عيد
توسّعت المقتطف في البحث في موضوعات طبية مهمة كتلك المتعلقة بالميكروبات وأمراض القلب وسائر الأعضاء المحيطة به، وحذّرت من الأمراض المعدية وضرورة معالجتها في مراكز خاصة لحصرها ودرء مخاطرها. وخلصت الباحثة إلى نتيجة مفادها أن «المقتطف» باتت من خلال نشرها للعلوم مثالاً رائعاً «للتخصص العلمي الشامل في أعلى مستويات البحث والتوصيل»، واستطاعت أن تؤدي دوراً عظيماً في إرسائها وإعلاء شأنها في البلاد الشرقية.
اهتمت «المقتطف» أيضا بالعلوم الصناعية لضرورتها في تطوير وسائل الانتاج وما تحدثه من تطوير في العلاقات الاجتماعية، المرتبطة حتماً بالإنتاج وما يتولّد عنه من قيم مدنية قانونية وأخلاقية. وقدّمت المجلة، بحسب دراسة الباحثة أسمهان عيد، نموذجاً لترسيخ التحوّل، في المجال الزراعي، من البدائية والعشوائية إلى التحديث، وذلك باعتماد ما انتهت إليه البحوث الزراعية في هذا المجال.
وتضمنت مقالات «المقتطف» أيضاً، الإرشادات والتوجيهات اللازمة لتطوير المهن وتحويل الحرف إلى صنائع متقنَة، وبشكل خاص تلك التي برع بها أهل الشام ،كعمل الزجاج وأنواعه وألوانه ونقشه، والخزف، والحياكة، وصناعة الحرير وصقله وتلوينه، والدباغة، وصناعة السُكر، وغيرها من الصنائع.
مائدة حوار ومنصة أفكار
وقد توقفت الباحثة عند أمرين مهمين، تناولتهما «المقتطف» يتعلق الأول بجانب نفسي والآخر بجانب فكري، وهما: الأحلام والتنويم المغناطيسي، ونظرية النشوء والإرتقاء الداروينية.
فقد تناولت «المقتطف» الأحلام من حيث هي من الظواهر التي استحوذت على اهتمام الشعوب في جميع العصور، لأنها حالة يعيشها كل إنسان. ولما كانت الأحلام من الموضوعات التي تلامس الروح العلمية، بحثتها «المقتطف» بعلمية أوثق، وحاولت أن تصل فيها إلى دليل علمي ليثبت صدقها، معتمدة على آخر ما انتهت إليه الدراسات وما نشر في المجلات والكتب الأجنبية، بعد ترجمتها إلى العربية، وما توصلت إليه مراكز الأبحاث في هذا المضمار.
كما تناولت التنويم المغناطيسي وعرضت نشأته وطبيعته وعلل حدوثه ومضاره على أعصاب المريض، ناهيك عن الضرر الأخلاقي والنفسي على الأشخاص الذين يجربونه، وكشفت عن الأسباب التي دفعت إلى التحوّل عنه واستبداله بالتحليل النفسي.
أما نظرية التطور الداروينية، والتي أحدثت هزة في الفكر الفلسفي والديني، والبحث العلمي، إذ اعتبر رجال الدين المسيحي والإسلامي أن هذه النظرية تتعارض مع الاعتقاد بالخلق الدائم، فكانت «المقتطف» من أول الجرائد العربية التي تناولت نظرية دارون وروّجت النقاش حولها.
وتناولت الباحثة في دراستها النزعة الإصلاحية التي برزت في مقالات «المقتطف» حول اللغة، والتربية، والدعوة إلى تعليم المرأة، والحرص على قيم الحق والعدالة والحرية والمساواة وتهذيب الأخلاق، والسياسة.
سبقت «المقتطف» فيما قدمته من أبحاث ومسائل علمية العديد من الجامعات ومراكز البحوث العربية، وطرقت القضايا والملفات المسكوت عنها في قاعات البحث وتعرضت بسبب ذلك إلى انتقادات حادة ألا أن ذلك لم يثنها عن فتح أبوابها للعلماء والمفكرين والأدباء من مختلف المدارس والاتجاهات، فمر عليها شبلي شميل وطه حسين والعقاد والمازني والرافعي وأحمد لطفي السيد، فضلا عن مئات العلماء من الغرب والشرق الذين ترجمت المقتطف أبحاثهم ودراساتهم ، وهو ما جعلها أقرب إلى جامعة علمية يحملها القارئ بين يديه فيطل منها على علوم الدنيا.