«ما بال الزمان يضٌن علينا برجال، ينبهون الناس ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون؟» من أقوال عبد الرحمن الكواكبي.
كيف السبيل إلى مواجهة المنظومة الدينية التقليدية، بإعتبارها أساس التخلف وأحد أهم أسباب الوقوع في أثر الاستبداد؟ وهل يبدو في الإمكان إحتواء تحدي الغرب عن طريق إنشاء تركيبى بين فكرة السياسى ومقولات السياسة الإسلامية كما تشكلت في باب السياسة الشرعية؟، كانت تلك بعض الأسئلة التي أرّقت عبد الرحمن الكواكبي (1848-1902) وفرضت عليه صياغة مشروعه الإصلاحي، الذي شغل العديد من الباحثين من مختلف التخصصات العلمية.
الراحل الدكتور محمد حافظ دياب أستاذ علم الأنثروبولوجيا والباحث المتخصص فى الحركات الإسلامية في دراسته المعنونة: «الكواكبي وطبائع الاستبداد.. جدل التراث والحداثة» تناول المشروع الفكري للكواكبي، مؤكدا أنه وبرغم كثرة من تناولوا أعمال وحياة الكواكبي بالبحث والدراسة، إلا أن مشروعه الفكري مازال قابلا للطرح بهدف تقديم قراءات جديدة تطمح نحو التعمق في المشروع الإصلاحي المجتمعي الذي بلوره.
د. محمد حافظ دياب
درس الاستبداد
«الإستبداد» ككلمة لم يكن معروفا لدى العرب في القدم بمعناه الحالي، وإن عبروا عنه بكلمات أخرى كالظلم والجور والجبروت والاستعباد والطغيان ومخالفة الشريعة. والشريعة هنا بمعناها العام تعني القانون، أي أن صفة «الحاكم المستبد»، تطلق على ذلك الحاكم الذي «يخالف القانون».
وفي هذا الصدد يرى حافظ دياب أن «الاستبداد» عند الكواكبي هو أول مباحث علم السياسة وأهمها، فإذا كانت السياسة هى «إدارة» الشئون المشتركة بمقتضى «الحكمة»، فإن الاستبداد هو «التصرف» في الشئون المشتركة بمقتضى «الهوى». والفارق شاسع فيما بينهما، ففي مقابل «الإدارة» هناك «التصرف» وفي مقابل «الحكمة» هناك «الهوى»، وهو ما حدا بالكواكبي أن يضع «التصرف» و«الهوى» خارج دائرة السياسة، معتبرا أن آفة السياسة هى «الاستبداد».
غير أن الكواكبي لم يقصر فعل «الاستبداد» على حقل السياسة، بل عاين فيه صنوفا عديدة كالاستبداد الديني والاستبداد الاجتماعي والاستبداد المالي، وقد عارض الكواكبي بشدة الفكر القائل بأن الإسلام جاء مؤيدا للاستبداد السياسي، غير أنه أقر بوجود الحكام المستبدين في الدول الإسلامية الذين استعانوا بالدين، أو بالعلماء الرسميين الذين أطلق عليهم الكواكبي مسمى «الجهال المتعممين» أو «العلماء المدلسين» ممن وصفهم بأنهم قد «سطوا» على الدين واتخذوه «وسيلة لتفريق الأمة شيعا وجعلوه آلة لأهوائهم فضيعوه وضيعوا أهله».
علماء مدلسون
ويشير دياب في دراسته إلى أن الكواكبي تناول فئة من العلماء، وصفهم «بالمدلسين»، والذين مارسوا أنشطتهم مدعومين من «غلاة المتصوفين»، هؤلاء «المدلسون» قد شوشوا الدين والدنيا على العامة، حين «جاؤوا الأمة بوراثة أسرار أدعوها، وعلوم لدنيات ابتدعوها.. سحرا لقلوب الجهلاء واختلاجا لقلوب الضعفاء».
وقد اعتبر الكواكبي الاستبداد الديني أشد خطرا على الأمة، وأن أصل الداء يكمن في الاستبداد السياسي، ودواؤه الشورى الدستورية، منطلقا في ذلك من أن الاستبداد ليس نظاما فقط، بل هو ثقافة سياسية اجتماعية تنتهجها السلطة وتفرضها على الجماعة، لذا فإن اجتثاث الاستبداد من السياسة ومن ثم من الدولة ككل يتوقف على اجتثاثه من الأفكار والنفوس. إذ يؤكد الكواكبي أن الاستبداد «يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد فيفسده، ويقيم مقامه التمجد».
اقرأ أيضا:
جمودهم وحداثتنا.. الثنائية التي تحكم نظرة الأوربي للمسلم via @aswatonline https://t.co/a1JoW9jmnI
— أصوات Aswat (@aswatonline) September 5, 2019
وصايا وبدائل الكواكبي
وفي رؤيته لمواجهة الفكر الاستبدادي، طالب الكواكبي باتباع «سبيل النبيين وفئة الحكماء، مع معالجة المسألة الاجتماعية التي يعاني منها الشرق .. بأن تكون الثروة ملكا للأمة، يستنبتها ويتمتع بخيراتها العاملون فيها فقط، إلى جانب تنوير الأفكار بالتعليم، وتأكيد الشورى الدستورية وإيقاظ الشرق للترقي، والدعوة إلى فكرة العروبة، وتجديد النظر في الدين والعودة به إلى أصله المبين البرىء من حيث تمليك الإرادة ورفع البلادة من كل ما يشينه».
وقد بلور الكواكبي -وفقا لدياب- رؤية خاصة لمواجهة الاستبداد تقوم على المساواة، والحرية، والعدالة، والعلم والشورى الدستورية. فقد طالب الكواكبي بالمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، دون تمييز في «العصبية أو الثروة»، بحيث «تكون الحقوق محفوظة للجميع على التساوي والشيوع، وتكون المغانم والمغارم العمومية موزعة على الفصائل والبلدان والصنوف والأديان بنسبة عادلة، ويكون الأفراد متساوين في حق الاستنصاف».
والحرية عند الكواكبي هي روح الدين وقصده، وهو في ذلك يصل ما بين الحرية والعدالة والمساواة من منظور أن «من فروع الحرية تساوي الحقوق، ومنها العدالة بأسرها، «حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاضب، أو غدار مغتال».
غير أن الحرية لدى الكواكبي – كما يقول دياب – لم تكن حرية مطلقة، بل حرية ملتزمة «بالشريعة الإسلامية» كإطار لها، والحرية بصفة عامة مشروطة لديه بعدم مخالفة القانون الذي يرتضيه المجتمع لنفسه.
أما العدالة عندالكواكبي في التي تقضى على الظلم والتفاوت القائم بين الناس، وفي هذا السياق دعا الكواكبي إلى ضرورة سيادة العدالة في توزيع الأعمال والأموال، كما دعا إلى تحديد الملكية الزراعية، ومنع احتكار السلع الأساسية، وشجب التنافس اللامتكافىء بين الفقراء و«المكتنزين» الأثرياء.
وفي رأي الكواكبي، لا تتأتى المساواة والحرية والعدالة، إلا عبر مشاركة الشعب في ممارسة الحكم، ومن هنا جاء تمسكه بمفهوم «الشورى الدستورية»، «ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب، تلك التي لربما يصح أن نقول أنها قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاد المسلمون».
أما أساس الشورى لدى الكواكبي فهو إرادة الأمة، التي تتحقق حين الأخذ بآراء أهل الحل والعقد، «إقامة فئة تسيطر على حكامها، كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير، فخصصت منها جماعات باسم مجالس النواب، وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية السياسية والمالية والتشريعية.. ويجعلها مسئولة عن تقرير النفقات العامة، والإشراف على إعداد المنعة ويعطيها حق السيطرة على الحكومة». وهنا يؤكد دياب على أن الكواكبي حرص على تبني نموذج الحكومات الدستورية العادلة القائمة على الفصل بين السلطات، وعلى أساس الانتخاب والشورى والمساواة.
كذلك طالب الكواكبي بالمصالحة مع العلم، والإعتراف بسلطة المعرفة العلمية ومرجعيتها، ومن ثم طالب برفع شعار «القضاء على جهالة الأمة» لأن الجهالة قوة هائلة تدعم الحكم الإستبدادي، مع ضرورة كسب العامة من الناس في صف العلماء الطامحين إلى التغيير، فالعوام وفقا له: «صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم أخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا، وإن دعوهم لبوا».
اقرأ أيضا:
الكواكبي .. «عرضحالجي الحرية» via @aswatonline https://t.co/kEMRYE1E9h
— أصوات Aswat (@aswatonline) September 5, 2019
الكواكبي في عيون لا يجمعها رابط
يؤكد حافظ دياب أنه لا تكاد تخلو بعض الأدبيات الحديثة لليسار من إضاءات تتعلق بمشروع الكواكبي وحديثه حول فصل الدين عن الدولة، والمعيشة العمومية المشتركة، ولعل هذا ما يفسر أن فصيلا من الشيوعيين السوريين كان يضع في صدر قاعة مؤتمراته صورة كبيرة للكواكبي إلى جوار صور لكارل ماركس ولينين والقائد الوطني السوري يوسف العظمة.
أما الليبراليون العرب فالتقطوا تركيز الكواكبي على ضرورة قيام أنظمة دستورية برلمانية في المجتمعات الإسلامية على قاعدة الإنتخاب الحر والفصل بين السلطات وتقييد الحكومة بقانون وعدم التدخل في أمر الدين «ما لم تنتهك حرمته».
بينما اعتبر القوميون العرب أن الكواكبي هو أحد رواد النهضة العربية الحديثة، لإسهامه في ترسيخ فكرة القومية، ومطالبته بإقرار اللغة العربية كوسيلة للحفاظ على الأصالة والقومية العربية، ودعوته لأن تكون هناك قيادة عربية تهدف إلى محاربة التسلط العثماني.
الغريب في الأمر أن الإسلاميين رحبوا بمشروع الكواكبي غير أنهم وقفوا عند حدود مطالبته بالعودة لأصول الإسلام والمناداة بالرجوع إلى «الإسلامية» كنموذج مثالي أقامه السلف في عهد النبي والخلفاء الراشدين، وهم في ذلك يرفضون فكرة أن الكواكبي قد دعا إلى فصل الدين عن الدولة.
وهكذا يتضح أن المشروع الفكري للكواكبي شهد تباينا شديدا في تلقيه والتفاعل معه من مختلف هذه التيارات، لكن ما يعنينا هنا هو أن هذا المشروع بكل ما له وما عليه مازال مطروحا للنقاش، ومازال قادرا على الإجابة على بعض التساؤلات التي تخص الوضع العربي الراهن بكل ما يحمله من مآسي.
جرافيكس