لورينزو زوكا – أستاذ القانون بجامعة كينجز كوليدج، لندن
عرض وترجمة: أحمد بركات
كان مشروع «سيزار بيكاريا» يقوم على تفكيك صرح القانون الروماني، الذي كان يشير إليه – بنبرة لا تخلو من التهكم – باعتباره «بقايا قوانين سنَّها جنس إمبريالي غابر، وتم تدوينها قبل نحو 1200 عام بمرسوم من أمير يحكم في القسطنطينة». لذا لم يكن هذا القانون بالنسبة إلى بيكاريا سوى لغة غامضة لترسيخ السلطة؛ ففحواه غير واضحة وغير دقيقة، وتتألف من هجين شاذ من القانون الروماني والعادات المحلية تم جمعه في مجلدات غير مترابطة وغير مفهومة كتبها مفسرون وشراح أكاديميون غامضون. ويؤكد بيكاريا أن هذا الغموض كان متعمدا ووظيفيا لتعميق الهيمنة.
اقرأ أيضا:
https://www.facebook.com/Aswatonline/posts/1159666207575165?__xts__[0]=68.ARCpDFbpuFeA6z5GzXja56SInwntQHKLbQY-TuwxqXmOqiORbqa6GziJwntvPnR9NohmDhF_hopbaWDLjzQLXzcvFwjyFxnktb9TvGnNJsX2-_jItEhb71_lZee0OtdU0FGDc2FCDIB2zc9nxuU96slU8BL6RXxEKG–ZpiwDP268uT_uB9rh2b3dH7s9eWEQ1fr1bnFMDV0PX-gqjXDT9ZEC11SleelAFPNShlPbfEjUJTDF34GZxfRGkFAtJgKSYHvOwUn3FX27QGKoKMgBFVufPXLmRZTk2rdFANfyNJY2s1O3sd0ki0TKz21O_Lc8nFQ05WonGocD3MHwkQhTRBlrQ&__tn__=-R
ضد القوانين الرقابية
ورغم كونه محاميا متمرسا وعالم رياضيات فذا، إلا أن بيكاريا اتخذ من الفلسفة مفتاحا لرسالته الإصلاحية. ويعد بحثه الذي حمل عنوان On Crimes and Punishments (في الجريمة والعقاب) (1764) أول نموذج صريح لعمل نقدي صارخ ضد منظومة القوانين الرقابية. وكما أشار الفيلسوف البريطاني هربرت ليونيل هارت (H. L. A. Hart) في عام 1982 «كان الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام أحد أشد المعجبين ببيكاريا، ليس فقط لأنه كان يتفق معه في أفكاره، حتى أنه اتخذ من بعضها منطلقات له، ولكن لأنه كان محددا وواضحا بشأن طبيعة المهمة التي آل على نفسه إنجازها. فبحسب بنثام، كان بيكاريا أول من اضطلع بتفنيد القوانين والمطالبة بإصلاحها دون الخلط بين ذلك من جانب، وشرح القوانين المعمول بها فعليا من جانب آخر».
هربرت ليونيل هارت
كانت الفلسفة – إذن – هي الأداة النقدية التي اعتمد عليها بيكاريا لتثوير نظرة المجتمع الأوربي للقانون بشكل عام؛ حيث لم تكن سيادة القانون تعني بالنسبة إليه في هذا الوقت سوى وهم كاذب ومضلل لجعل القانون مطواعا لأهواء المحامين ومصالح الأقلية. في المقابل، أبرزت أفكار بيكاريا القانون باعتباره أداة تهدف إلى تحقيق نظام اجتماعي. وبرغم أن إسهامات بيكاريا الفلسفية كانت مهمة ومؤثرة، إلا أن توجهه الفلسفي كان ينطوي على طموح كامن في إجراء إصلاحات جوهرية على المستوى الاجتماعي والسياسي والمؤسسي.
وبناء على ذلك، تعرض بيكاريا لاتهامات ’بالاشتراكية‘، بالمعنى الدارج لهذا المصطلح في بواكير ظهوره. جاءت هذه التهمة من اتجاهين متضادين، أولهما من ناحية الأب فاشيني، وهو عالم لاهوت كان يحذر من صعود الاقتصاد السياسي كبديل للدين. أما الثاني فكان من جانب علماء الاقتصاد الفرنسيين الذين أُطلق عليهم «الفيزيوقراطيون» (أنصار الطبيعة) وأنصار السوق الحرة، الذين صبوا جام نقدهم على الدور الذي منحه بيكاريا للدولة في إدارة الاقتصاد، من أجل إعادة توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية. كان فاشيني والفيزيوقراطيون، إضافة إلى الفيلسوف وعالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث، يعتقدون أن السوق تمثل نظاما عفويا يخضع لتوجيه يد خفية، ربما تكون يد الله. لكن بيكاريا كان له رأي مخالف، حيث اعتقد أن المؤسسات السياسية يجب أن تقوم بدور محوري في تجسير الفجوة بين الأغنياء والفقراء، التي كان يعتبرها السبب الرئيس في الجريمة.
آدم سميث
شر لابد منه
ولا يزال توصيف بيكاريا بالاشتراكي، بالمعنى الذي نفهمه اليوم، محل جدل، لكن المؤكد أنه كان مفكرا سياسيا علمانيا يهدف إلى خلق مجتمع حر وقائم على المساواة، وذلك من خلال التركيز على العدالة السياسية في مقابل العدالة الإلهية المقدسة. لقد كان بيكاريا يعتقد أن الهدف الأساسى من العدالة السياسية هو خلق مجتمع سياسي يمثل رابطة إنسانية حرة عبر عقد اجتماعي. ومن ثم، فإن الجريمة – من وجهة نظره – تمثل في جوهرها خرقا لهذا العقد الاجتماعي، وليست خطيئة بالمعنى الكهنوتي.
وبموجب العقد الاجتماعي، يتفق أفراد المجتمع على أن يساهموا سويا بجزء يسير من حريتهم حتى يضمنوا حمايتها بالكامل تحت مظلة سلطة قائمة، حيث يقايضون حريتهم الطبيعية في حالة الطبيعة بحريتهم السياسية تحت مظلة النظام المدني للدولة. ومن ثم، فإن العقد الاجتماعي ليس من قبيل اللحظات الاحتفالية؛ حيث يرتضي الأفراد على مضض توقيع اتفاق متبادل بين بعضهم البعض، وغالبا ما يُغَّرَون بخرق هذا الاتفاق لتحقيق مصالحهم الخاصة. لكن ما يدفعهم ذاتيا إلى التشبث بهذا الاتفاق هو شعورهم الدفين بالقلق وعدم اليقين؛ مما يجعل من المستحيل التمتع بحريتهم الطبيعية وفقا لمصالحهم العاجلة وشغفهم المباشر. ويدفع ذلك الشعور الكامن بعدم اليقين إزاء ممارسة الحقوق الطبيعية الجميع باتجاه قبول ’حكم الضرورة‘، المتمثل في ضرورة تنازل كل فرد عن شيء من حريته الطبيعية حتى يستمتع الجميع بحرياتهم السياسية الأصيلة. وتشكل المساهمة بالحد الأدنى من الحرية الطبيعية الرصيد العام للسلطة القائمة، الذي يمثل بدوره الأساس الذي يقوم عليه الحق في معاقبة جميع السلوكيات التي قد تضر بالمجتمع الإنساني. إن الحق في توقيع العقاب وإنزال العقوبة هو شر ضروري لا بد منه تمثله السلطة القائمة كشكل من أشكال الاستجابة لذلك الشعور المتجذر بالقلق وعدم اليقين، الناجم عن الممارسة المطلقة للحرية الطبيعية.
الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن 1789
وتمثل الحرية السياسية حالة نفسية ونوعية، وليست مجرد مادة يمكن قياسها أو تحديدها كميا بالقانون. رغم ذلك، يمكن أن يساعد القانون من خلال تقديم توجيهات واضحة يمكن التنبؤ بها، بشأن ما يمكن اعتباره سلوكا اجتماعيا ضارا، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تعميق الشعور بالأمان. إن الهدف من القانون الجنائي هو ضمان الحرية السياسية. وقد تم التأكيد لاحقا على تصور بيكاريا لسيادة القانون كضامن للحرية الفردية في المادة 4 من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن (1789) التي نصت على أنه: «تكمن الحرية في عدم فرض قيود على أي عمل لا يعود بالضرر على الغير. ومن ثم كانت الحريات الطبيعية لكل إنسان لا حدود لها باستثناء تلك التي تضمن لسائر أعضاء المجتمع الاستمتاع بالحقوق ذاتها. وهذه الحدود لا يمكن ترسيمها إلا من خلال القانون».
رغم ذلك، لا يكمن الإسهام الإبداعي لبيكاريا في تطوير تفسيرات رائدة للمنفعة والحرية السياسية والعقد الاجتماعي فحسب، وإنما في طريقته في الدمج بينهم جميعا للوصول إلى صيغة توافقية تجمع بين الحرية والمنفعة باسم العدالة. وما دامت العدالة الجنائية معنية، فإن الحق في العقاب يجب أن يظل في أضيق الحدود حتى يمكن اعتباره حقا مشروعا.
وبوضوح لا لبس فيه يخلص بيكاريا في كتابه On Crimes and Punishments إلى أنه «حتى لا يتحول العقاب إلى عمل من أعمال العنف الذي يرتكبه فرد أو أكثر ضد مواطن عادي، فإنه يجب أن يتسم بالعمومية والسرعة والضرورة وأن يكون في نطاق الحد الأدنى المسموح به في ظرف معين، ومحدد بالقانون».
ثورة ثقافية
وقد أشعلت هذه النظرية فتيل ثورة ثقافية، وتحولت إسهامات بيكاريا إلى أسس ارتكزت عليها حركة فلسفية عزمت على تغيير أشكال المعرفة الراسخة التي وظّفتها النخبة للحفاظ على مصالحها وتوسيع دوائر امتيازاتها. لقد كان المفهوم التقليدي للقانون غامضا وأقرب إلى الخوارزميات التي لا تخاطب سوى أعضاء النخبة. وأراد بيكاريا أن يستبدل ذلك التعقيد بمفهوم بسيط للقانون كمنتج للواقع الاجتماعي. كان بيكاريا يعرف أيضا أن الدين لا يزال يمثل شكلا قويا من أشكال الهيمنة الاجتماعية؛ لذلك دافع بقوة عن التحول إلى الاقتصاد السياسي كمصدر للمعرفة التي يمكن أن تستخدمها الحكومة لبناء سياساتها على أسس عقلانية. رغم ذلك، يجب أن نؤكد أن المنهج الفلسفي لبيكاريا كان بمثابة القوة المحركة لأفكاره. فقد استخدم الفلسفة لتقويض الأسس التي قام عليها القانون القديم، ولخلق فضاء رحب جديد للسياسة، متحرر من الفهم التقليدي والأخلاقي للعدالة.
(يتبع)