لورينزو زوكا – أستاذ القانون بجامعة كينجز كوليدج، لندن
عرض وترجمة: أحمد بركات
كان تبرير العقاب على أسس عقلانية يعني تقليل العنف كما وكيفا إلى حدوده الدنيا في المجتمع. لم تكن هذه القاعدة لتقتصر على العنف المرتبط بالجرائم، وإنما شملت أيضا العنف الذي تستتبعه ردود الأفعال على الجرائم من قبل السلطات العامة أو حتى بعض الجهات الخاصة. كان هدف سيزار بيكاريا هو تنظيم حق العقاب، واجتثاث جذور كل صور الانتقام والثأر وكل أشكال المعتقد الديني من ممارسته.
اقرأ أيضا:
https://www.facebook.com/Aswatonline/posts/1159666207575165?__tn__=-R
العقوبة الجنائية.. ملاذٌ أخير
اجتذبت هذه الفكرة عن ترشيد العقاب، أو عقلنته، كما أطلق عليها بيكاريا، قاعدة عريضة من الأنصار والمناوئين على حد سواء؛ حيث أدرك الفريق الأول أن القسوة والتعسف في العقاب لا تبني إحساسا قويا بالثقة في السلطة العامة، كما آمنوا بأن العقاب قد يكون رادعا ضروريا ضد استخدام العنف في الفضائين العام والخاص، لذلك فهم يقبلون العقاب باعتباره تعبيرا عن التزام مجتمعي عام بنبذ العنف. من الناحية الأخرى، يعتقد المعارضون أن عقلنة العقاب تبلغ حد منح الدولة أداة أكثر فعالية للسيطرة على المجتمع حد القمع. ينطوي كلا الرأيين بلا شك على قدر من الوجاهة والأهمية، لكن بالنسبة إلى «بيكاريا» فإن مشروع ترشيد العقوبة كان ينطوي على معنى إصلاحي عميق، حيث كان يعني الانتقال من مجتمع يمارس العقوبة كوسيلة للهيمنة الجماعية إلى مجتمع تمثل فيه العقوبة مجرد ملاذ أخير ومتناسق لمنع الجريمة.
تمثل عبارة «الحد الأدنى من القانون الجنائي» – إذن – الصياغة المناسبة لتوصيف نقد بيكاريا لممارسة العقاب. وتشير هذه الصياغة إلى الطبيعة الخاصة والمحددة للعقد الاجتماعي عند بيكاريا، الذي يشترط فقط الحد الأدنى من التنازل عن الحرية الطبيعية. في المقابل، يبرر العقد فقط للحد الأدنى من القيود المفروضة على هذه الحرية والمعاناة. وقد تم استنباط مبدأ الحد الأدنى من الشر من طبيعة العقد التي تقوم على المنفعة؛ فالحد الأدنى من التنازل عن الحرية الطبيعية يأتي في مقابل الحد الأقصى من المكاسب على مستوى الحرية السياسية.
وبالنظر إلى أن تدخل القانون الجنائي يكون محدودا بشرط الضرورة، فإن الدولة لا يمكنها استخدامه إلا كملاذ أخير، ويتم استبعاده في حال توافر وسائل أخرى لمنع الجريمة. لكن هذا الجزء من فكر بيكاريا غالبا ما يتم تجاهله من قبل هؤلاء الذين ينظرون إليه باعتباره مؤسس النفعية في إنجلترا، أو رائد القانون والاقتصاد في الولايات المتحدة.
يأتي ذلك بسبب مطالبة بيكاريا بأقل تدخل عقابي في مقابل تقديم الحد الأقصى من الخدمات الاجتماعية كجزء من الحزمة التعاقدية نفسها. إن تدخل القانون الجنائي هو ما يجب أن يظل في حدوده الدنيا، وليس تدخل الدولة.
في المقابل، يطالب بيكاريا بتدخل قوي وفعال من قبل الدولة للتخلص من عدم المساواة، ولمنع الجريمة من خلال نشر التعليم وتقديم الخدمات وليس من خلال ممارسة القمع والعقاب المتعسف.
إعادة اكتشاف
غزت أفكار بيكاريا جميع دوائر الاستنارة في أوربا، وتم استقباله في باريس من قبل الفلاسفة كأحد الأبطال؛ حيث قام الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو بالتعليق على أفكاره وكتابة الحواشي على رسالته المهمة التي حملت عنوان On Crimes and Punishments (في الجريمة والعقاب) (1764). وكتب فولتير مراجعة أكد فيها أن إصلاح القانون الجنائي وفقا لأفكار بيكاريا يجب أن يتحول إلى أحد أهم ركائز الإصلاح في إطار التنوير. وقرأ توماس جيفرسون، الذي كان مقيما في هذا الوقت في باريس، كتاب بيكاريا On Crimes and Punishments باللغة الإيطالية، وأرسل العديد من الملاحظات المهمة بشأنه إلى الآباء المؤسسين في الولايات المتحدة. ووجهت الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية الدعوة إلى بيكاريا لتولي قيادة صياغة قانون العدالة الروسي وإصلاح العدالة الجنائية. وبلغ كتاب بيكاريا من الذيوع ما جعل الفيلسوف والأديب الروسي فيودور دوستويفسكي يستعير عنوانه في عام 1866 لأحد أهم أعماله. وفي أقل من قرن من الزمان، كانت أوربا بأكملها قد شرعت في تطبيق أفكار بيكاريا، فاختفت عمليات التعذيب، أو كادت، وألغيت عقوبة الإعدام في عدد كبير من بلدانها. وفي ذكرى الاحتفال بمرور مائة عام على صدور كتاب On Crimes and Punishments، صوت البرلمان الإيطالي في عام 1865 على إلغاء عقوبة الإعدام في المملكة وأقام تمثالا لبيكاريا في مسقط رأسه في ميلانو.
وبعد تجاهله تماما لمدة قرن من الزمان، يحاول العالم اليوم إعادة اكتشاف كتاب بيكاريا On Crimes and Punishments. ويعود السبب في ذلك إلى روحه الإصلاحية الراديكالية التي تمس بقوة وترا حساسا لدى كثيرين، خاصة في وقت تشهد فيه عدم المساواة والتفاوت الطبقي موجة صعود عاتية لا تقل عن ذلك التوجه شبه العام نحو التجريم الذي يشتد عوده في أغلب بلدان العالم يوما بعد يوم؛ حيث تحاول قوانين العقوبات الهيمنة على سلوك الآخرين في الوقت الذي تمنح فيه الحرية المطلقة بلا رقيب أو حسيب للمليارديرات الفاحشين الذين يتهربون من دفع الضرائب ويمارسون سلوكا استغلاليا دونما عقاب.
اقرأ أيضا:
https://www.facebook.com/Aswatonline/posts/1163515127190273?__tn__=-R
عن العدالة الجنائية
لقد بلغ العالم مجددا مرحلة خطيرة يحتاج فيها إلى إعادة التفكير بشأن منظومة العدالة الجنائية بوجه عام. إن الأمر لا يتعلق ’بترقيع‘ ما لدينا من قوانين، وإنما بإجراء إصلاح جذري للقانون الجنائي بوجه عام. ما الذي يمكن أن يؤذي مجتمعاتنا أكثر من ذلك؟ هل يتعين علينا أن نواصل الاستثمار في كميات لا حصر لها من الموارد من أجل تعقب اللصوص التافهين والانتهاكات الطفيفة، أم أن تصرف منظومة العدالة الجنائية جل اهتمامها إلى الجرائم الكبرى بما يتناسب وتأثيرها البالغ على المجتمع؟
لقد هاجم بيكاريا التفاوت وعدم المساواة بين الطبقة الحاكمة والجماهير، وأكد أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تفشي الفقر والظلم، ومن ثم زيادة من معدلات الجريمة إلى درجات مخيفة. مما لا شك فيه أن هذه الأزمات ستودي بالمجتمع في نهاية المطاف إلى تأجيج الصراع الاجتماعي وتقويض الإحساس بالأمن. ومن المرجح أن تزداد الممارسات العقابية حدة وتفحشا بسبب ذلك، وأن يتحول قانون العقوبات مجددا إلى قوة تخدم مصالح الأقوياء والأثرياء ضد الضعفاء والمهمشين. وفي مجتمعاتنا، التي تعاني من درجة حادة من الاستقطاب وعدم المساواة، لا تزال أفكار بيكاريا يتردد صداها وتؤكد حاجتنا إلى مزيد من العدالة الاجتماعية وقليل من العقاب الجنائي. لا شك أن حدوث ذلك في القرن الثامن عشر يجب أن يكون لافتا.