عندما تضع كلمة «عكاظ» على محركات البحث، فلن تظهر لك سوى نتائج تلك الصحيفة السعودية التي تأسست في ستينيات القرن الماضي وترأس تحريرها الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، الذي تعلّم في مصر وكتب في صحفها باسم مستعار معارضا المملكة وحكمها. ولما عاد إلى بلده وكشفوا أمره تعرّض للسجن والنفي وكتب في ذلك كتابا روى فيه قصة اعتقاله سمّاه «بين السجن والمنفى».
لكن ربما لا يعرف الكثيرون أن الشيخ الأزهري المعمم فهيم قنديل الأديب والشاعر والصحفي، الذي شارك في تحرير جريدة «اللواء» لسان حال الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل، أسس جريدة أسمّاها «عكاظ» عام 1913، أي قبل إعلان تأسيس المملكة العربية السعودية نفسها بنحو 19 عاما، وبطبيعة الحال قبل إصدار «عكاظ» السعودية بما يقرب من نصف قرن.
مصطفى كامل
شاعر الدنيا والآخرة
أسس الشيخ فهيم جريدة «عكاظ» المصرية بعد أن انتهت علاقته بجريدة «اللواء»، ولأنه أديب وشاعر، اختار الشيخ لجريدته الأسبوعية التي كانت تصدر صباح كل أحد، أن تكون «قلادة الأدب في لغة العرب»، كما كان يطلق عليها أدباء ذلك الحين، ففتحت أبوابها للشعراء والنقاد، وصارت أقرب إلى سوق «عكاظ» التي كانت سوقا للبضائع وملتقى يتبارى فيه شعراء الجاهلية قرب مدينة الطائف بالحجاز لمدة 20 يوما بدءا من أول ذي القعدة في كل عام.
ومع الوقت تحولت جريدة «عكاظ» المصرية من منصة لنشر إنتاج الشعراء والأدباء والنقاد، إلى منصة خاصة بأمير الشعراء أحمد بك شوقي، تنشر له شعره وهو في منفاه، وتخوض عنه معاركه بعد عودته إلى القاهرة، حتى أن رئيس تحريرها الشيخ فهيم قنديل لم يكتف بتنصيبه أميرا للشعراء فقط ،بل نصّبه «شاعر الدنيا والآخرة»، ونذر نفسه للدفاع عن شوقي في مواجهة خصومه.
أحمد شوقي
عصفور.. في محبة شوقي
في كتابه «في محبة الشعر»، أفرد الناقد والأكاديمي البازر الدكتور جابر عصفور، فصلا عن أحد أعداد «عكاظ» التذكارية الذي خصصه صاحبها فهيم قنديل للاحتفاء بشاعر العربية أحمد شوقي، وهو العدد الذي عثر عليه عصفور في مكتبته ،وضم الأعداد من 129 -131. وبعد أن نفض عصفور الغبار عن هذا العدد التذكاري، الذي يعود تاريخه إلى يوم الجمعة 24 يونيو عام 1927، ظهرت في صفحته الأولى صورتين لشوقي بك، أولاهما وهو في الثامنة عشرة من عمره، وثانيتهما بعد أن أصبح أحمد شوقي أميرا للشعراء، فيما حملت الصفحة الأخيرة من الجريدة صورتين أيضا، أولاهما لشوقي وهو في منتصف العمر، وثانيتهما لأمير الشعراء ونجليه: علي وحسين بقصر الحمراء في الأندلس.
زينت بقية الصفحة بعناوين أهم ما في العدد من قصائد ومقالات تربو على الأربعين كتبها أصحابها لتكريم أحمد شوقي بمناسبة تنصيبه أميرا للشعراء، وضمت أسماء علي الجارم وأمين واصف وحافظ إبراهيم وخليل مطران وشبلي الملاط وكرد علي ومحمد صادق عنبر وشكيب أرسلان وأنيس المقدسي ومحمد عبدالمطلب وأحمد نسيم وأحمد محرم ومحمد صبري وأنطون الجميل وأحمد الكاشف ومعروف الرصافي وجبر ضومط وأحمد زكي أبو شادي، و«كل ذلك كان بعشرة مليمات فقط!».
ويقول عصفور إن عوالم صفحات هذا العدد من عكاظ، حملته عبر الزمن إلى أجواء يونيو من سنة 1927،: «جاء هذا الشهر عقب الاحتفالات التي أقامها أصدقاء شوقي من رجال السراي لتكريمه وتنصيبه أميرا للشعر، ويبدو أن الاحتفال كان يراد به تحقيق أكثر من هدف، أبرزها ردّ الاعتبار لشوقي الذي أخذت سهام المدرسة الجديدة في الشعر تهاجمه بضراوة، وذلك منذ أن أعلن الأصدقاء الثلاثة العقاد والمازني وعبدالرحمن شكري عن تيارهم الشعري الجديد مع نهاية العقد الأول من القرن العشرين، وأخذوا في الهجوم على شوقي بوصفه هو ورفيقه حافظ إبراهيم – قطبي الإحياء الشعري الكلاسيكي.
اقرأ أيضا:
المازني.. أديب صاحبة الجلالة via @aswatonline https://t.co/KQK85FDliy
— أصوات Aswat (@aswatonline) September 11, 2019
معركة «الديوان»
اشتد الهجوم على شوقي عندما أصدر إبراهيم المازني كتابه عن شعر حافظ سنة 1915، ووصل إلى ذروته مع صدور كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي اشترك فيه العقاد مع المازني، وتولَّى فيه المازني الهجوم على مصطفى لطفي المنفلوطي بوصفه عميد المدرسة النثرية للإحياء، وانفرد العقاد بالهجوم على أحمد شوقي الذي كان القطب الأكبر لحركة الشعر الإحيائي، وقد صدر «الديوان» سنة 1921، وكان موازيا في صدوره لكتاب «الغربال» الذي نشره ميخائيل نعيمة سنة 1923 دعما لآراء زميليه المازني والعقاد.
ومن الواضح -والحديث لايزال للدكتور جابر عصفور-، أن المكانة التقليدية لشوقي قد أخذت في التذبذب نتيجة الهجوم النقدي عليه من ناحية، وصعود جيل جديد سرعان ما ظهرت له امتداداته من ناحية مقابلة، ولم تفلح محاولات شوقي في استكتاب المدافعين عنه، أو دعم بعض الجرائد والمجلات الصغيرة لتأكيد مكانته.
أما الأستاذ أحمد محفوظ سكرتير أمير الشعراء فروى في كتابه «حياة شوقي» أن صحيفتي «عكاظ» لصاحبها الشيخ فهيم قنديل و«الصاعقة» لمحررها أحمد فؤاد تصديا للدفاع عن شوقي، فواجهت «عكاظ» كتاب «الديوان» بحملة تحت عنوان «القافلة تسير» أطلق فيها الشيخ فهيم على العقاد والمازني اسمي البربري والقزم، وقالت «عكاظ» في حملتها إن أكبر أخطائها أنها من أخرج للناس العقاد والمازني «حشرات الأرض».
وتساءل الشيخ فهيم في إحدى مقالاته بـ«عكاظ»: «أليس من الجنون والحماقة أن يحاول مائعان كالعقاد والمازني -وهما من نعرف- إنزال شوقي من العرش الذي يتبوؤه في قلوب الناس؟»
وقد اتُهم الشيخ فهيم قنديل بأنه خاض هذه المعركة ضد المازني والعقاد مقابل الأموال التي كان يغدقها عليه شوقي بك، ورد على ذلك قائلا: “أنا لا أدفع لمن يمدحني ويطعن غيري.
تنصيب أمير الشعراء
وبعد الحملات التي طالت شوقي، حاول بعض أصدقائه أن يعيدوا إليه الاعتبار، وينصّبوه أميرا للشعراء بعد أن كان «شاعر الأمير» في عهد راعيه وصديقه الخديوي عباس حلمي الثاني الذي أطاح به الاحتلال الإنجليزي، وفرض على شوقي بعد رحيله الإقامة في المنفى بإسبانيا حتى عاد بعد ثورة 1919، لكنه عاد دون المكانة التي وضعه فيها راعيه القديم. لذا «حرص شوقي على أن يكون شاعر وطنه وشاعر الأمة العربية كلها، بحثا عن ولاء جديد، وهو الولاء الذي أعطى ثماره عندما قرر أصدقاؤه القدامى الاحتفال به، فتدافع الشعراء والكتَّاب العرب – المتعاطفون طبعا مع مدرسة الإحياء – للاكتتاب والإسهام في هذا الاحتفال»، بحسب ما أورده عصفور في كتابه.
الخديوي عباس حلمي
انعقد الاحتفال في القاهرة وحضرته وفود من الدول العربية المختلفة، وبدأت الحفلة الرسمية في دار الأوبرا الملكية برعاية فؤاد الأول ملك مصر في يوم الجمعة 29 أبريل سنة 1927، وأقيمت احتفالات موازية في العواصم العربية تحية للشاعر الذي خاطبه زميله حافظ إبراهيم في الاحتفال الكبير الذي أقيم في دار الأوبرا بقوله:
أمير القوافي قد أتيتُ مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
فغنِّ ربوع النيل واعطف بنظرة
على ساكن النهرين واصدح وأبدع
ولا تنس نجدا إنها منبت الهوى
ومرعى المها من سارحات ورُتّع
وحيِّ ذرى لبنان واجعل لتونس
نصيبا من السلوى وقسِّم ووزِّع
ففي الشعر حثّ الطامحين إلى العلا
وفي الشعر زهد الناسك المتورِّع
ففي الشعر إحياء النفوس وريّها
وأنت لريِّ النفس أعذب منبع
ويعرض جابر عصفور برنامج حفل التكريم ويقول: شمل البرنامج كلمات لصاحب الدولة سعد زغلول باشا وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا والأستاذ أحمد حافظ عوض مع قصائد لكل من شبلي الملاط شاعر الأرز وخليل مطران شاعر القطرين وحافظ إبراهيم شاعر النيل، ووضع الموسيقار سامي الشواقطة مقطوعة موسيقية للمناسبة بعنوان «تحية الشعر»، وتتابعت الاحتفالات ما بين تياترو حديقة الأزبكية ودار الجمعية الجغرافية، وقاعة جمعية الاقتصاد السياسي ودار الموسيقى الشرقية وكازينو الجزيرة.
أحمد شوقي وسعد زغلول
ويضيف «ولم يخل الأمر من نزهة نيلية إلى القناطر الخيرية ألقيت فيها قصيدة محمد بن هاشم في الذهاب وقصيدة حليم دموس في الإياب، واستمرت الحفلات حتى السادس من مايو 1927، وخلالها نال شوقي نخلة من الذهب الخالص وجناها لؤلؤ متدلٍّ هدية من أمير البحرين، وكأسا ذهبية من الاتحاد النسائي المصري، وقلما ذهبية من النادي العربي بعدن، وعلبة فضية وداخلها إطار من الفضة حول قصيدة «قم ناج جلق» -(وجلق بكسر الجيم وفتح وتشديد اللام هو أحد أسماء دمشق) – من النادي العربي في بومباي».
غضبة قنديل
ويعتقد جابر عصفور أن منظمي الحفل تجنبوا دعوة عدد كبير من محبّي شوقي من شعراء مصر وأدبائها لإلقاء كلمات أو قصائد، وذلك بسبب تقديم الوفود العربية، والتمثيل الذي لم يخل من هوى على نحو أو غيره.
ويشير عصفور في هذا الصدد إلى غضب الشيخ فهيم قنديل صاحب «عكاظ» لأنه لم يتلق دعوة لحضور الحفل، رغم أنه كما أشرنا من أشد المدافعين عن شوقي حماسة وأشرسهم في الرد على خصومه، وزاد من غضبه ما جاء من اقتراح في الاحتفال، الذي وُصف بأنه أشبه بسوق عكاظ القديم، حول جعل ذكرى تنصيب شوقي أميرا للشعراء حفلا للشعر كل عام وسوقا لتكريم أعلامه كما كان يحدث في سوق عكاظ القديمة، ولنا أن نتخيل غضب الرجل الذي أسس جريدة (عكاظ)، داعيا إلى إحياء سوق (عكاظ) القديم، وحرصه على أن يقيم في مصر (سوق عكاظ) يدور حول شاعره المفضل أحمد شوقي – أقول لنا أن نتخيل غضب الرجل الذي دعا إلى ذلك وفعل ما فعل، فإذا بالمنظّمين يتجاهلونه، ويكرمون (عكاظ) وصاحب (عكاظ) – أي أحمد شوقي – من غير دعوته، وأضاف إلى غضبه أن الكثيرين أشاروا إلى جهود جريدته ومدحوه.
قاطع فهيم الاحتفالات، وأصدر بعد نهايتها عددا تذكاريا من «عكاظ» بدلا من ثلاثة أعداد لم يصدرها، وافتتح العدد بمقال تحت عنوان «سوق عكاظ» يكشف فيه عن دوره وسبقه، ويهاجم الذين نظّموا الحفل وتجاهلوه، مؤكدا أنه أول من كرَّم شوقي، وأول من هتف بقصائده وأول من حارب حساده.
عدّد قنديل ما قامت به صحيفة «عكاظ» لصالح شوقي الذي صار أميرا للشعراء، منذ أن كان في خدمة راعيه الخديوي عباس، ثم وهو في منفاه، ثم معركتها من أجله بعد عودته إلى وطنه.
أما في إطلاق اسم «عكاظ» على هذا التكريم والتفكير في جعله احتفالا سنويا، فيعلق فهيم على ذلك بقوله: «إذا كان أدباء العالم العربي, وقد اجتمعوا في حفلات تكريم أحمد شوقي يريدون أن يتولوا هذه الفكرة، ويريدون أن ينظّموا هذه السوق، وأن يجعلوا منها في كل عام مؤتمرا عاما للآداب والفنون، فنحن أول من يتركها لهم، وأول من يؤيّدهم في عملهم، بشرط أن يكون الأمر فيها للأدباء والشعراء، لا لشفيق باشا ولا لحافظ عوض ولا لمحمد دلاور ولا لغيرهم من المتطفّلين الذين فضحونا بجهلهم في حفلات شوقي بك».
جمع فهيم قنديل في هذا العدد كل من تجاهله منظمو حفل تكريم شوقي، وفتح لهم الباب لتكريم أمير الشعراء على صفحات جريدته، وأضاف إليهم قصائد لحافظ إبراهيم ومطران وغيرهما من الشعراء الذين تصدروا الحفل، وأفرد لشوقي مجموعة من الصور ومختارات من شعره، فضلا عن القصيدة التي ألقاها بمناسبة التكريم.