منوعات

عمر المختار… أسد الصحراء ورافع رايات السنوسيين

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت السنوسية، كطريقة صوفية وحركة اجتماعية وسلطة سياسية، قد بلغت أوج قوتها ونفوذها بزعامة محمد المهدي السنوسي (1859 م – 1902 م)، ليس فقط في الأراضي الليبية، وإنما فى قلب إفريقيا أيضا التى وصلتها الدعوة السنوسية حاملة راية الإسلام إلى بلاد كور وتبيستي وبركو واندي ودارفور ووادي وكانم وتشاد وأزقر وبغرمي. فقد كون السنوسى دولة مترامية الأطراف، كانت تُدار من خلال الزوايا الصوفية، وكان يعين على كل زاوية أحد خلفائه ومريديه.

 ونتيجة لنجاح هذا النظام الإداري المحكم، بدأت الحركة السنوسية في عهده تأخذ طريقا لاقامة دولة ليبيا الحديثة، فرتبت أمور التعليم والصناعة والزراعة والتجارة واستصلاح الأراضى والنقل والتموين والبريد.

الجميع يخطب وده

وقد بلغ من قوة السنوسي أن أثار اهتمام العثمانيين في تركيا، فحاولوا استقطابه في حروبهم ضد الروس في البلقان (1876- 1878)، كما سعت المهدية في السودان للتحالف معه، وطلب العرابيون في مصر معونته ضد الانجليز، بينما حاول الطليان التحالف معه لوقف التوسعات الفرنسية في تونس. لكن السنوسى كان يرى دوره في نشر الإسلام في ربوع افريقيا وبناء الدولة الليبية، ولم يدخل في معارك بجيشه الجرار إلا في أفريقيا لمواجهة الفرنسيين الذي أزعجهم تمدد نفوذه في افريقيا حتى توفى محمد المهدي السنوسي في عام 1902م، وحين وفاته كانت السنوسية قد بلغت الذروة في الانتشار، وكان لها آنذاك 146 زاوية موزعة كالتالى: في برقة 45، مصر 21، الحجاز 17، ايالة طرابلس 18، فزان 15، الكُفْرة 6، السودان 14.

محمد المهدي السنوسي

آل إرث السنوسي من بعده إلى إبن أخيه الشاب أحمد الشريف السنوسي، الذي تزعم الحركة السنوسية منذ عام 1902م فسار على عهد سلفه في الإصلاح والدعوة والبناء. لكن لم تمض سوى سنوات حتى اجتاحت جحافل الجيوش الايطالية صحاري ليبيا، ولم يكن أمام القائد الشاب بدٌ من تحويل زوايا العبّاد والزهّاد إلى مراكز لقيادة الحركة السنوسية المجاهدة. وقد ألقى الأمير أحمد بنفسه في أحضان الدولة العثمانية التي سرعان ما خذلته لضعفها محاولة إبرام معاهدة واتفاق صلح مع الايطاليين رفضه الأمير الشاب محملا رسالته إلى رسول الدولة العثمانية عزيز المصري والتي جاء فيها: «والله لن نسلم الإيطاليين من أرضنا طراحة حصان».

وحين عقد العثمانيون اتفاقية لوزان مع الأطراف الأوربية، انسحب الأتراك من ليبيا وتركوها، فأعلن الشريف السنوسي الجهاد في حركة كان شعارها (الجنة تحت ظلال السيوف)، لكن بعد سنوات من المعارك ضد الايطاليين في ليبيا، والإنجليز في صحاري مصر الغربية ونتيجة لتفوق قوات الإنجليز في التسليح هُزمت قوات الشريف السنوسي الذي اضطر لمغادرة البلاد على سطح باخرة ألمانية إلى تركيا وبصحبته بعض من كبار قواده، متنازلا عن عرش السنوسية إلى ابن عمه الشاب محمد إدريس بن محمد المهدي السنوسي الذي لم يكن بنفس قوة مؤسسي السنوسية وزعمائها في مواجهة المحتلين.

الشريف السنوسي

الشيخ المجاهد

وهكذا بدت الساحة خالية للايطاليين في صحاري ليبيا مترامية الأطراف، فجيش الشريف السنوسي الذي تجاوز العشرة آلاف مقاتل بات ممزقا لا يجد من يجمع شتاته، ويرفع راية السنوسيين التي كادت أن تختفي دون رجعة. لكن شيخا ليبيا شارف على السبعين من عمره تربي في زاوية السنوسية في جنزور، وقضى جٌل عمره في قراءة الأوراد وتحفيظ الصبية القرآن، ودرب المجاهدين في جيشي المهدي ثم الشريف السنوسي – قرر أن يحمل تلك الراية الآيلة للسقوط. كان هذا الشيخ هو عمر المختار.

عمر المختار

 ولد عمر المختار في العشرين من أغسطس عام 1858، فى زواية «جنزور» بالقرب من مدينة «طبرق» الليبية، ثم انتقل إلى «جغبوب» التي كانت مركزا للدعوة السنوسية، ومكث بها 8 أعوام للدراسة وتحصيل العلم على يد كبار علماء ومشايخ السنوسية، وتميز بذكاء ودهاء فطري وورع سرعان ما أهّله لتولى شياخة الدعوة السنوسية في منطقة الجبل الأخضر، -التي كانت تتبع جغرافيا جمهورية تشاد الحالية- فقاد طوال مكوثه في الجبل الأخضر المعارك التي خاضها السنوسيون ضد الفرنسيين.، وقد بلغ من إعجاب المهدي السنوسي بقيادته وقوته في مواجهة الفرنسيين أن قال (لو كان لدينا عشرة من عٌمر لاكتفينا بهم).

 وعندما أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا في 29 سبتمبر 1911، وقصفت البارجات الحربية مدن الساحل الليبي، كان «المختار» مقيمًا في «جالو» بعد عودته من مدينة «الكُفْرة» معقل السنوسية ومقر قيادتها. وبعد علمه سارع إلى جمع المجاهدين وتنظيم صفوفهم، حتي وصل أحمد الشريف السنوسي من «الكُفْرة»، وقد كان عمر المختار يقود المجاهدين في زوايا الجبل الأخضر، في الفترة من 1911 وحتى عام 1923 حين نُفي الشريف السنوسي من ليبيا إلى تركيا بعد هزيمته أمام الإيطاليين. وبعد نفي السنوسي لم يجد المختار بدا من أن يملأ الفراغ الذي خلفه غياب شيخه وقائده في ساحة الجهاد، بينما كان القائد الجديد مٌحمد إدريس السنوسي يميل في المقابل إلى المهادنة وعقد المصالحات.

وعلى الرغم من خروج مٌحمد إدريس السنوسي إلى القاهرة وفقا لاتفاقيه جرت مع الايطاليين، إلا ان المختار سافر إلى مصر ليلتقيه سرا، حيث نجح في اقناعه بضرورة استمرار القتال ضد الطليان. وطوال خمسة عشر عاما قاد عمر المختار عمليات المجاهدين التي تبنت استراتيجية حرب العصابات الخاطفة ضد الآلة العسكرية الضخمة للطليان، فكبدهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، رافضا كل محاولة لإغرائه بعقد اتفاق سري يضمن له أن يكون الرجل ذا المكانة الأعلى شأنا والأكثر حظوة وثراء في ليبيا، مقابل إلقاء السلاح.

وعلى مدار السنوات من 1923 وحتى 1931 أضطر الايطاليون لتغيير قياداتهم العسكرية الفذة في برقة وطرابلس الغرب واحدا تلو الآخر في محاولة للسيطرة على النجاح الساحق لعمر المختار الذي بات يحظى بمكانة شعبية عظيمة أضفت عليه العديد من الألقاب مثل (أسد الصحراء)، ودفعت ألاف من رجال القبائل البدوية الليبية للانضواء تحت رايته والانضمام لصفوف المجاهدين، بينما أصابت الإيطاليين بالحسرة وخيبة الأمل، حتى صرح موسوليني بقوله (إننا لا نحارب ذئابا كما يقول غراتسياني، وإنما نحارب أسودا يدافعون عن بلادهم بشجاعة، إن أمد الحرب سيكون طويلا).

https://youtu.be/JoWngeICC5k

معارك كر وفر

استمرت معارك الكر والفر بين عمر المختار ومجاهديه، وبين الجيوش الإيطالية على مدار عشر سنوات. وفي اكتوبر من عام 1930 اشتبك الإيطاليون مع قوات المختار في معركة كبيرة عثروا في أعقابها على نظارة المختار وجواده، فاحتفى القائد الإيطالي وصرح مستبشرا بقوله (اليوم عثرنا على نظارته وجواده وغدا نعثر على رأس المختار)، وبعد مضي عام وفي الحادي عشر من سبتمبر عام 1931 توجه المختار وبعض جنوده لزيارة ضريح الصحابي «رويفع بن ثابت» بالبيضاء، وسرعان ما نقلت عيون البصاصين الخبر إلى الإيطاليين الذين نصبوا لهم الكمائن حتى تمكنت مجموعة من المرتزقة الاريتريين من القبض عليه وتسليمه للإيطاليين.

وفي الرابع عشر من سبتمبر وصل غراتسياني إلى بنغازي ليتم لقاء طال انتظاره، يحكي غراتسياني في مذكراته فيقول (كان جبينه وضأ كأن هالة من نور تحيط به، فارتعد قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض المعارك والحروب العالمية والصحراوية حتى لقبت في بلادي بـ«أسد الصحراء» كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنبس بحرف واحد)

سيق المختار إلى محاكمة يعرف نتائجها جيدا، فكانت كلماته الأخيرة للضابط الإيطالي الذي يحقق معه «نحن لا نستسلم. ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي».. وفي صبيحة الأربعاء السادس عشر من سبتمبر من عام 1931م نفذ الحكم الذي سيخلد أسطورة بطل عربي عبر العصور هو «عمر المختار».

جريدة الأهرام تنشر نبأ أسر وقتل عمر المختار 1931

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock