تقديم أصوات أونلاين:
إنطلاقا من أهمية وقامة الكاتب، وقيمة وموضوع الكتاب، فإن موقع «أصوات أونلاين» يعيد لقرائه ومتابعيه، نشر حلقات كتاب «أخيل جريحا..إرث عبدالناصر» للكاتب السياسي الكبير الأستاذ عبد الله السناوي، الذي صدر مؤخرا عن «دار الشروق» والتي تُنشر حاليا على صفحات وموقع صحيفة «الشروق» القاهرية.
فالكاتب هو أحد أهم الكتاب والمحللين السياسيين في مصر حاليا، أما الكتاب والذي يضم 14 فصلا ويقع في 369 صفحة، فيتناول فترة سياسية من أهم فترات التاريخ المصري والعربي الحديث، وأكثرها إثارة للجدل، كما يقول السناوي الذي يصف الكتاب بأنه: «محاولة لإعادة قراءة التجربة الناصرية مشروعًا ونظامًا وإرثًا وصراعًا، امتدَّ عبر العقود، قراءة وليست تأريخًا، رؤية لمستقبل وليست تحليقًا في ماضٍ، باعتبار أن التاريخ هو مادة المستقبل بقدر ما تساعد قراءته على بناء التصوُّرات وإحكامها بأكبر قدر ممكن من الموضوعية دون تبرير لخطأ، أو اندفاع بمشاعر».
وعلى مدى فصول الكتاب يطرح السناوي العديد من التساؤلات عن مشروع جمال عبدالناصر ولماذا صعد وكيف خذله نظامه السياسي، كما يتساءل: «إلى أيِّ حدٍّ يتحمَّل عبدالناصر مسؤولية ما انتهت إليه تجربته، وما تبناه من آليات حكم ناقضت مشروعه؟».
«أصوات أونلاين»
ما بين نهاية يوليو وأوائل أغسطس من عام (١٩٦٦) ارتفعت أصوات شابة تنقد النظام
بنص ما قاله ناصر قبل الهزيمة بـ(٣٥) يوما: الأزمة لم تعد أزمة أشخاص إنما هى أزمة نظام
الحزب الواحد بغير معارضة قد أثبت أن عيوبه أكثر من أى شىء آخر
كانت هناك مؤامرات على ثورة «يوليو» لإجهاض مشروعها.. وما كانت لتمر لولا الثغرات الداخلية فى بنية «النظام المقفول»
لماذا كان ممكنا تقويض مشروع عبدالناصر من داخل نظامه؟
«تقول رواية متواترة إن الطالب جمال عبدالناصر لعب دور يوليوس قيصر فى مسرحية وليم شكسبير، التى تحمل الاسم نفسه على مسرح مدرسته الثانوية.. لم يكن ممكنا لمن شاهدوا ذلك العرض المسرحى المدرسى أن يخطر ببالهم أن الطالب الذى يُمثِّل دور يوليوس قيصر، أو يصرخ متألما بعبارته الشهيرة: (حتى أنت يا بروتس)، سيلقى مصيرا مماثلا فى قابل الأيام؛ حين يتنكر له بعض رجاله ويطعنون فيه. لماذا صعد مشروعه، وكيف خذله نظامه؟، السؤال ضرورى بأى نظر جِديٍّ إلى المستقبل، بصياغة أخرى للسؤال نفسه: «إلى أيِّ حدٍّ يتحمَّل عبدالناصر مسئولية ما انتهت إليه تجربته، وما تبناہ من آليات حكم ناقضت مشروعه؟».. بهذه العبارات يقرر الكاتب الكبير أن يختتم أحدث أعماله «آخيل جريحا.. إرث عبدالناصر»، والصادر حديثا عن دار الشروق، وهو الكتاب الجديد الذى تبدأ «الشروق» اعتبارا من اليوم وعلى مدى خمس حلقات نصف أسبوعية فى عرضه؛ لكونه بحسب مؤلفه:
«محاولة لإعادة قراءة التجربة مشروعا ونظاما وإرثا وصراعا، امتدَّ عبر العقود حتى ثورة يناير وما بعدها إلى عقود أخرى لا يعرف أحد عددها»..
عندما ولدت زعامة «جمال عبدالناصر» فى أتون حرب السويس (1956) مضى قدما فى بلورة مشروعه، وأية ثورة بلا مشروع لا تقدر على أية مواجهة ولا تصنع أى إلهام.
أطلق أوسع عملية حراك اجتماعى نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها، كما تصدَّر مشهد حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى وأفريقيا ملهما العالم الثالث كله.. بنى مصانع ومدارس وغيَّر الخرائط الاجتماعية، كما لم يحدث من قبل، غير أن التناقض كان فادحا بين اتساع المشروع وضيق النظام.
بأى نظر فى تاريخ رجل ثورة «يوليو»، فهو شخصية تراجيدية، كأنه صورة حديثة من «آخيل» البطل الملحمى فى التراجيديا الإغريقية، قوته فى مشروعه، أو مناعة جسده من ضربات السهام والرماح، وضعفه فى نظامه، أو انكشاف كعبه لأية ضربات تصل إليه.
التاريخ ليس تراجيديا، غير أنها موجودة فيه، وتجربته عمل تاريخى يُقرأ فى سياقه وتحدياته ـ بالوثائق لا بالأهواء.
لم يكن ممكنا أن تأخذ هزيمة «يونيو» (١٩٦٧) مداها المروّع ما لم يكن النظام مقفولا ومنكشفا لأخطاء جوهرية فيه أدانها «عبدالناصر» فى محاضر رسمية بعد الهزيمة.
هناك من يقول ــ دون سند من واقع ــ إن عبدالناصر مات يوم (٥) يونيو.
الحقيقة أن المسافة ما بين الهزيمة العسكرية (١٩٦٧) والرحيل المفاجئ (١٩٧٠) أفضل سنواته.
الهزيمة أثرت على صحته دون أن تنال من عزيمته.
لم يكن صريع الهزيمة لكنه جريحها.
بنظر تراجيدى فهو «آخيل جريحا» لا «آخيل صريعا».
فى ظنى، يلخص المشير «عبدالحكيم عامر» «كعب آخيل» الأول، فهو صديقه الأقرب، بل هو توأمه الإنسانى وسنده فى حسم صراعات السلطة، حتى أصبح هو نفسه عنوانا رئيسيا على خلل بنية النظام وتصدعه من داخله.
ويلخص الرئيس الأسبق «أنور السادات» «كعب آخيل» الثانى، لم يكن له دور جوهرى فى سنوات «يوليو»، عاش فى ظل المناصب، لكنه وجد نفسه فى أعلاها بظروف الرحيل المفاجئ.
لم تكن القضية أن يعدِّل ويضيف وفق مستجدات الظروف، بقدر ما كانت فى الانقلاب الكامل على مشروع «يوليو»، والرغبة الجامحة فى التشهير بكل ما يُنتسب إليها.
تقويض التجربة بإنجازاتها وتوجهاتها الرئيسية جرى من داخل النظام وبالأدوات نفسها التى استخدمت فى فترة المد الثورى لكن فى اتجاه مضاد.
(1)
قُرب الهزيمة العسكرية فى «يونيو» (١٩٦٧) حذّرت أعمال مسرحية عديدة من مخاطر مُحدقة، توشك أن تداهم بطلها.
كانت الستينيات ذروة مجد المسرح المصرى، ورغم انتساب أهم مؤلفيه ومخرجيه لثورة «يوليو»، فإنه مارس درجة عالية من نقد المرحلة، محذرا مما تخبئه الأيام.
طلب المؤلف المسرحى ألفريد فرج الأمان من الحاكم، حتى يجهر أمامه بما يراه منذرا.
كانت تلك إشارة إلى خلل فادح فى بنية الحكم، وأنه قد ينهار من داخله ما لم يتسع مجاله لسد ثغراته.
وحذّر مؤلف مسرحى آخر سعد الدين وهبة من أننا لسنا على «سكة السلامة»، وأن هناك من يضع «العسل فى أذن الحاكم».
كانت تلك إشارة أخرى إلى الخلل نفسه.
وانطوت مسرحية «الفتى مهران» لـ«عبدالرحمن الشرقاوى» على دعوة صريحة للحاكم بألا يُرسل جيشه إلى «السند»، بينما العدو رابض على حدوده الشرقية، قاصدا «اليمن».
بلغة المسرح توالت الرسائل أن هناك شيئا ما خطأ يكاد يقوّض تجربة ثورة «يوليو»، وأن حدثا جللا قد يداهمنا تسقط به أحلامنا من حالق.
كان ذلك من داخل الانتساب إلى «يوليو» وتوجهاتها لا من خارجها وموقع الخلاف معها ـ كما أشار الناقد المسرحى الدكتور «حسن عطية».
إذا ما دققنا فى تواريخ نبوءات المسرح، فقد جرى أغلبها عام (١٩٦٦).
رغم أصوات «الكورس»، التى علت تُنذر وتُحذر وفق قواعد التراجيديا ذهب بطلها إلى قدره، الذى لا فكاك منه.
(2)
لم يكن الأدب وحده من حذر وتنبأ بما حدث فى يونيو (1967).
ما بين نهاية يوليو وأوائل أغسطس من عام (١٩٦٦) ارتفعت أصوات شابة تنقد النظام من داخل الانتماء إلى مشروعه والحرص على تجاوز أزمته.
حمل مؤتمر «المبعوثين» ــ بأوراقه ومساجلاته فى حضور «عبدالناصر» ــ الإشارات نفسها التى ترددت فوق خشبات المسرح وتضمنتها روايات.
جرت وقائعه فى مدينة الإسكندرية وضمت عضويته ممثلين للدارسين فى الجامعات الأمريكية والأوروبية.
«سيادة الرئيس لم نجئ لنصفق، ولكن جئنا للنقد، لأن سبيلنا الوحيد إلى تأييدكم هو نقدكم».
هكذا تحدث طالب الدراسات العليا فى القانون بجامعة «السوربون» «حسام عيسى».
سادت المؤتمر أجواء ديمقراطية بدءا من انتخاب ممثليهم وإعداد الأوراق الأساسية، التى جرت على أساسها المناقشات إلى الاستخلاصات التى توصل لها.
حسب شهادة المفكر الاقتصادى الراحل الدكتور «محمود عبدالفضيل»:
«بدأ النظام يعانى منذ صيف ١٩٦٥ من بعض علامات الإعياء، نظرا للمشاكل الناجمة عن حرب اليمن، التى أدت إلى ظهور بعض الضغوط التضخمية فى الاقتصاد، وعدم القدرة على استكمال الخطة الخمسية الثانية، وكان مخططا لها الفترة بين عامى ١٩٦٦ و١٩٧٠، كما تمثلت فى بروز هبَّات شعبية محدودة مثل اضطرابات مدينة دمياط، بالإضافة إلى بعض التناقضات الداخلية للنظام الناجمة عن الصراع الخفى بين الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر ــ آنذاك ــ وانعكاساته على مسيرة العمل السياسى ومستقبل منظمة الشباب».
«فى تلك الظروف نشطت مجموعات من المبعوثين المصريين فى مراكز عدة باريس ـ لندن ـ برمنجهام ـ موسكو ـ كاليفورنيا ـ بركلى، من أجل طرح رؤية نقدية للنظام من داخل التجربة بهدف تطوير مسيرته ودفعه إلى آفاق أكثر تطورا وانفتاحا وديمقراطية».
«كان هناك قدر كبير من التنسيق بين تجمعات المبعوثين فى البلدان المختلفة، وتم تعليق الآمال على الدور الذى يلعبه وفد فرنسا الذى أعد ثلاث أوراق أساسية:
الأولى: حول أزمة الديمقراطية والأزمة السياسية للنظام الناصرى.
الثانية: حول أزمة التنمية والتراكم فى ظل الخطة الخمسية الأولى.
الثالثة: حول الأزمة فى جبهة الفكر والثقافة.
«أشارت الأوراق والمناقشات إلى بداية تبلور طبقة جديدة عازلة من كبار البيروقراطيين فى تركيبة السلطة وكبار المقاولين، وتجار الجملة فى قطاع الأعمال الخاص».
اعترف «عبدالناصر» ـ وفق شهادة «عبدالفضيل» ـ بالموقع الذى تحتله عناصر رأسمالية المقاولات وتجار الجملة فى تعويق مسيرة التحول الاشتراكى، غير أنه لم يكن مقتنعا أنها ترقى إلى مستوى الطبقة.
كانت طروحات ذلك المؤتمر إشارة لافتة فى العام المنذر لمواطن الخلل فى نظام «يوليو».
الإشارة الأهم جاءت على لسان «جمال عبدالناصر» نفسه يوم (٣٠) إبريل (١٩٦٧) ـ كما تضمنتها «مجموعة أوراق محمد حسنين هيكل».
بنص ما قاله قبل الهزيمة العسكرية بـ(٣٥) يوما:
«إن الأزمة لم تعد أزمة أشخاص، إنما هى أزمة نظام».
«القوى الاجتماعية والأفكار التى أطلقتها الثورة قد أصبحت أكبر من النظام السياسى الذى أقامته».
«إن المستقبل يقتضى صيغة جديدة تماما، وأن الحزب الواحد فى هذه الظروف وهذا العصر أصبح لعبة خطرة».
«إن الحزب الواحد بغير معارضة قد أثبت أن عيوبه أكثر من أى شيء آخر، وبالتالى لا بد وأن تكون هناك معارضة، والمعضلة التى تواجهنا هى كيف يمكن أن تكون هناك معارضة لا تعود بالبلد إلى الوراء وتعيد عهود الخضوع للاستعمار وسيطرة رأس المال على الحكم».
بنص كلامه، الذى دونه «هيكل» على ورق واحتفظ به فى مجموعة أوراقه: «إن النظام على النحو القائم الآن يترك مصير البلد لرجل واحد، وهذه مخاطرة بالمستقبل».
«إن هذا الوضع يمكن أن يدفع بالجماهير إلى السلبية، وبالتالى تترك أهم القرارات للبيروقراطيين أو التكنوقراطيين».
«إنه لا بد أن تتسع عملية إعادة التنظيم لقوى معارضة، تكون لها صحفها لكى تستطيع أن تعرض أفكارها على الناس، ولكى تكون رقيبا على تصرفات الدولة».
كانت تلك مصارحة بالأفكار والتصورات والمخاوف قبل أن تخيم الهزيمة العسكرية على مستقبل «يوليو»، حيث يضيق نظامها عن القوى الاجتماعية والأفكار التى أطلقتها.
باليقين كانت هناك مؤامرات على ثورة «يوليو» لإجهاض مشروعها وإنهاء أدوارها، غير أنها ما كانت لتمر لولا الثغرات الداخلية فى بنية «النظام المقفول الذى يُعلق مستقبل البلد على مجهول» ـ بتعبير «عبدالناصر» فى مراجعات الهزيمة.
فى ذلك العام المنذر بدأ إعداد خطة الحرب على مصر لضرب مشروع «يوليو»، والتخلص من «عبدالناصر».
يوم (٢٠) يوليو (١٩٦٦) تناهت إلى مسامع الرئيس المصرى رسالة تحذير: «أرجوك أن تعرف أنهم خارجون لاصطيادك يا سيدى» ـ كما أبلغه وزير الخارجية الباكستانى ورئيس الوزراء فيما بعد «ذو الفقار على بوتو»، الذى أعدم بعد انقلاب عسكرى رعته المخابرات الأمريكية.
كان التخلص من «عبدالناصر» على رأس الأولويات فى إدارة الرئيس الأمريكى «ليندون جونسون» بعد أن تخلصت من زعامات كبيرة للتحرر الوطنى فى العالم الثالث واحدا إثر الآخر فى العام المنذر مثل «سوكارنو» فى إندونيسيا و«كوامى نكروما» فى غانا.
كان الوصف الأمريكى لعملية (١٩٦٧) بذاته دالا على أهدافه: «اصطياد الديك الرومى»، الذى يتيه بقيادته لحركات التحرر المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل.
وقد جرت عملية الاصطياد من بين ثغرات نظامه بقدر التآمر الخارجى على مشروعه.
(3)
تبدت ثلاث فرص أمام «عبدالناصر» لبناء نظام أوسع وأقوى وقادر على حمل مشروعه وتجديده وفق احتياجات العصور المتغيرة.
الأولى ـ بعد حرب السويس، فلم يكن هناك شك أن حزبا يمثل الثورة سوف يكتسح أية انتخابات ديمقراطية وشفافة بقدر الشعبية الاستثنائية التى حازها «جمال عبدالناصر».
لم تكن تلك الفرصة غائبة عن تفكيره، غير أن خشيته من عودة الحياة الحزبية على صورتها القديمة بكل حمولاتها الطبقية القديمة منعته من التحرك فى هذا الاتجاه.
والثانية ـ تبدت أثناء الوحدة المصرية – السورية لبناء جبهة واسعة على أساس تعددى.
أدى التنظيم السياسى الواحد «الاتحاد القومى» إلى إفقار التجربة من تعدديتها فى إطار مشروع الوحدة.
نشأت صراعات مكتومة ومعلنة مع قيادات وكوادر حزب «البعث» الذى حل نفسه رسميا لا فعليا.
أجهضت الوحدة من داخلها بقدر ما أجهضت بالتآمر عليها.
والثالثة ـ بعد الهزيمة العسكرية فى يونيو (١٩٦٧) وما تبناه بيان (٣٠) مارس من دعوات إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات بدا ممكنا إقرار التعددية فى بنية النظام السياسى.
«عبدالناصر» تحدث موسعا فى هذا الاتجاه، غير أن أولوية إعادة بناء الجيش واستعادة الأراضى المحتلة بقوة السلاح ثم رحيل «عبدالناصر» على نحو مفاجئ فى الثانية والخمسين من عمره دفع الأمور فى اتجاه آخر أخذ من التعددية اسمها لا قواعدها وأحالها إلى ما يشبه «المسخ»، وهو أبعد ما يكون عن الجدية التى تحدث بها بعد هزيمة «يونيو».
لم يصد نفسه فى ذروة التحول الاشتراكى عن التفكير فى التعددية السياسية.
مطلع الستينيات دخل مساجلة علنية مع المفكر الإسلامى المستنير «خالد محمد خالد» حول الحياة الحزبية والدستورية أثناء المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية، الذى أقر الميثاق الوطنى الوثيقة الفكرية الأساسية لثورة «يوليو» بتوجهها الاشتراكى.
لم تمنع طبيعة المؤتمر هذا النوع من النقاش الليبرالى.
طالب «خالد محمد خالد» بالتعددية الحزبية ووضع دستور جديد وحق الشعب فى تغيير حكامه.
استمع «عبدالناصر» باهتمام إلى ما قاله، وفاجأ المشاركين فى المؤتمر بأنه «مع التعددية الحزبية لكن ليست أحزاب الماضى».. وأنه «مع حق الشعب فى تغيير حكامه» مبديا فى الوقت نفسه خشيته من «الانتكاس إلى الوراء».
نزعة الديمقراطية السياسية تبدت فى مساجلته، لكنه لم يضع خطة عمل تمكن الثورة بالتعدد وتحول دون عودة القوى الطبقية القديمة إلى سابق نفوذها.
فى ذلك الوقت استولت على المجال العام نزعة الديمقراطية الاجتماعية ممثلة فى التحولات الاشتراكية وتأسيس تنظيم واحد جديد يعبر عنها هو الاتحاد الاشتراكى.
بعد كل هذه العقود الطويلة التى مضت: ما المعايير التى تُقاس عليها الأحكام؟
غياب المعايير فوضى كاملة فى الأحكام، حيث يسود الهوى وتتصدر تصفيات الحساب مع فكرة الثورة نفسها.
تعرضت «يوليو» لنوعين متناقضين من النقد، أحيانا من نفس الأشخاص، حسب ظروف الزمان ومتغيراته.
أولهما ـ يأخذ عليها أنها لم تمضِ فى العمل الثورى إلى آخره حتى تجتث الطبقات القديمة، أو أنها لم تكن حمراء دموية شأن الثورات الفرنسية والبلشفية والصينية والجزائرية، التى شهدت تصفيات جسدية بين قياداتها.
وصفت تجربتها الاقتصادية بـ«رأسمالية الدولة»، ونزعت عنها صفة «الاشتراكية العلمية» على ما تقضى به النظرية الماركسية.
كانت تلك دعوة صريحة إلى تأميم المجال الاقتصادى كله وضرب القوى القديمة بكل عنف ثورى.
وثانيهما ـ يأخذ عليها ما اتخذته من إجراءات عنيفة، خلّفت جرحى كالتأميمات والحراسات، أو انتهاكات واعتقالات.
أسوأ قراءة ممكنة نزع الحوادث عن سياقها، أو ادعاء الحكمة بأثر رجعى.
(4)
عند مطلع التحول الاشتراكى وحسم الخيارات الاجتماعية لثورة «يوليو» سجل «جمال عبدالناصر» بخط يده أفكاره وتصوراته عن تناقضات مرحلة التحول وسبل حلها.
لعله أراد أن يرتب أفكاره الرئيسية على ورق قبل الإقدام على أية خطوات ضرورية فى المواجهات المحتملة.
كان ذلك يوم (٢٧) أكتوبر (١٩٦١).
وصف القرارات الاشتراكية بـ«الثورة الاجتماعية» وما قبلها منذ عام (١٩٥٢) بـ«الثورة السياسية».
كان سؤاله الأول: «فى أى اتجاه يجب أن نسير.. إلى الرأسمالية أو الاشتراكية؟».
لم يكن هناك تردد فى اختيار الموقع الذى يقف فيه.
كان سؤاله الثانى: من هو الشعب ومن هم أعداء الشعب؟
السؤال بنصه تعبير عن عصر عالمى كامل فى توصيف التناقضات الرئيسية والثانوية.
هناك «خلافات متعارضة» لا سبيل إلى حلها إلا بـ«سحق المناهضين للاشتراكية».. «جميع من يعملون على تقويض النظام الاشتراكى» بالنظر إلى أن الطرف الآخر فى الصراع يستخدم كل الأساليب الممكنة لضربه وتصفيته ومنع التحول إلى دولة العدل الاجتماعى.
تعبير «السحق» يستجيب للنوع الأول من النقد لتجربته، ويحتمل إجراءات أكثر تشددا لم تحدث فى التجربة العملية.
أن تكون هناك تجاوزات وانتهاكات حدثت شىء و«السحق» ـ كما فى تجارب ثورية أخرى ـ شيء آخر تماما.
على نفس الورقة دعا إلى «تعيين الحدود بالضبط فى إدارة هذا النوع من التناقض».
«بالاختصار لا حرية لأعداء الشعب».
العبارة نفسها وردت بنصها فى الميثاق الوطنى.
كان ذلك هو التناقض الرئيسى حسب التوصيف الشائع فى ذلك الوقت بالأدبيات الثورية العالمية.
كان سؤاله الثالث: ماذا عن التناقض الآخر ـ داخل الشعب نفسه؟
كانت إجابته: «جميع الطبقات والجماعات التى تؤيد وتساند البناء الاشتراكى وتساهم فيه».. «التناقضات بين الطبقة العاملة والبرجوازية الوطنية ليست متعارضة».. «وهى تستدعى تعيين الحدود بين الخطأ والصواب».
بشيء من الإيضاح: «الدولة تستند إلى الشعب.. لذلك يجب أن تمارس الديمقراطية فى داخل الشعب».
«الديمقراطية وسيلة تقابل الأساس الاقتصادى والاجتماعى».
«إن جميع المسائل المختلف عليها.. لا يمكن أن تُحل إلا بالأساليب الديمقراطية، بالنقاش والإقناع والتثقيف ولا يمكن حلها بأساليب الضغط».
«يجب على القياديين أن يعتمدوا أسلوب الإقناع بطريقة ديمقراطية، أما اعتماد الأساليب الإدارية فأمر لا يقبله أى إنسان».
أهم استنتاج ممكن من الوثائق الخطية، التى احتوتها «حافظة أوراق محمد حسنين هيكل»، أنه كان ثوريا حقيقيا بلا أى ادعاء، فهو يكتب لنفسه دون أن يخطر على باله أن ما يكتبه موضوع نشر، ومفرداته تشى بدرجة عالية من الاطلاع على أدبيات الثورة المعاصرة».
بذات القدر كان ثوريا حقيقيا فى مراجعة تجربته بشجاعة بعد هزيمة «يونيو».
أين مواطن الأخطاء القاتلة؟.. وكيف حدث ما حدث؟
تبدت فى مراجعته الأخيرة نزعتان متجاورتان، نزعة شبه ليبرالية أكدت على المواطنة والمشاركة السياسية والحقوق المتساوية للمواطنين بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعى وموقفهم من الثورة.. ونزعة أخرى حاولت بقدر ما تستطيع الإبقاء على جذوة «يوليو» فى صلب أدوارها، غير أن الثورة الاجتماعية تراجعت فى سلم الأولويات بضغط التحديات الجديدة التى فرضت نفسها.
كان أفضل سيناريو ممكن التزاوج الفكرى والعملى بين التعددية السياسية والعدالة الاجتماعية واستقلال القرار الوطنى حتى يستكمل مشروع «يوليو» زخمه وقدرته على التجديد بالإضافة وألا يتعرض للانقلاب على خياراته الرئيسية من داخل نظامه.
نقلا عن: الشروق