فن

بليغ حمدي.. نهر الموسيقى الهادر

«فنان امتلأ بالنغم، ففاض إبداعه ألحانا بالغة الروعة والتنوع، مازالت تعيش إلى يومنا هذا وستظل باقية؛ لأنها تعبير أصيل عن روح مصر.. جاء «بليغ» في زمن العمالقة، حيث المجال لا يتسع للمزاحمة، فمعظم الأصوات ذات الصيت والشهرة، محتكَرة لصالح كبار الملحنين، لذلك كان الاقتراب من نجوم الغناء يمثل مغامرة كبيرة لمن هو في مثل ظروف بلبل»..

بليغ حمدي.. مجدد شباب الموسيقى العربية

تترواح نتاجات بليغ حمدي اللحنيه ما بين الشعبية الرومانسية والوطنية الحماسية، لكننا يمكننا اعتبار الإسهام الأساسي الذي قدمه بليغ في الموسيقى هو إيصال الموسيقى والإيقاعات الشعبية المصرية بطريقة تتناسب مع أصوات المغنين الكبار أمثال أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وشادية، وغيرهمنص: Belal Momenتحريك ومونتاج: Abdalah Mohamed

Posted by ‎أصوات – Aswat‎ on Friday, September 13, 2019

ألحان.. مع الكبار

لم يكن إيمانه العميق بموهبته الفذة كافيا، ولم يكن إصراره الشديد على التلحين دون الغناء الذي فتح له أبواب الإذاعة مبكرا- كفيلا بإيصاله إلى تلك الغاية.. كان لابد للأقدار أن تتدخل ليقدم الموسيقي الشاب لحنا ينال إعجاب سيدة الغناء العربي، فتصر على غنائه مجددة به شباب الغناء الكلثومي.. بينما اعتبره البعض خطوة غير محسوبة خطتها كوكب الشرق تحت ضغط الخوف من عوامل الزمن.

وقد غنت أم كلثوم من ألحان بليغ (11) لحنا هي: «حب إيه» و «أنساك» و«ظلمنا الحب» و«كل ليلة وكل يوم» و«سيرة الحب» و «بعيد عنك» و«فات الميعاد» و«ألف ليلة وليلة» و«الحب كله» و«إنا فدائيون» و«حكم علينا الهوي» وهي آخر ما شدت به سيدة الغناء العربي.

كان «بلبل» قبل ذلك بثلاث سنوات قد لحّن «تخونوه» لتغنيها السيدة «ليلى مراد» لكن «حليم» أعجب باللحن وأصر على أن يغنيه، وكان قد بدأ تصوير فيلم «الوسادة الخالية» ورأى أن الاغنية مناسبة لتكون ضمن أغنيات الفيلم؛ فطلب منه «بليغ» أن يطلب من السيدة «ليلى مراد» أن تتنازل له عن الأغنية؛ فرضيت بذلك عن طيب خاطر.. وقد حققت الأغنية نجاحا كبيرا، وكانت سببا في أن يتردد اسم «بليغ» في أرجاء العالم العربي.. حكت الفنانة «وردة الجزائرية» بعد ذلك أنها كانت تعيش في باريس آنذاك، وكانت في الثامنة عشرة من عمرها؛ فلما سمعت الأغنية أسرها اللحن؛ حتى أنها قالت: لو قابلت هذا الملحن ذات يوم سأطلب منه الزواج.. وتزوجت «وردة» من «بليغ» أوائل السبعينات، واستمر زواجهما ست سنوات فقط قدما خلالها أروع الأغنيات وأجمل الألحان، ولم تنقطع الصلة الفنية بينهما بعد الانفصال حتى بلغت الأغنيات التي جمعتهما (66) أغنية.. من أجملها «العيون السود»، «خليك هنا»، «حنين»، «لو سألوك» و«اسمعوني» و «معجزة» و «احضنوا الأيام».

بعد النجاح الذي حققته «تخونوه» استعان «حليم» به فلحن له أغاني فيلم «فتى أحلامي» في نفس العام، وحققت أغنية «خسارة» ما حققته سابقتها من نجاح.. ثم توقف التعاون بينهما لفترة تعاون خلالها «حليم» مع الموجي والطويل ومنير مراد وعبد الوهاب.

وعقب هذا النجاح ذهب «بليغ» إلى «سوريا» بصحبة صديق، وبقي هناك لعدة أسابيع أنجز خلالها (22) لحنا لمطربي الإقليم الشمالي، منها لحن «ما تحبنيش بالشكل ده» لكروان الشرق «فايزة أحمد» قبل أن تأتي لمصر.

تجديد موسيقى

أراد «بليغ» الهروب من أسر القوالب الموسيقية التقليدية دون أن يلجأ إلى التغريب؛ وبالرغم من أنه كان قد استوعب الموسيقى التركية والفارسية وموسيقى بلاد الشام والخليج العربي والموسيقى المغاربية- إلا أنه رأى أن استلهام الروح المصرية من التراث خاصة في الصعيد هو السبيل الذي يجب عليه أن يسلكه.. وعند اللقاء الثاني مع «حليم» الذي كان في أمس الحاجة إلى التجديد، قدم له «بلبل» ألحانا شديدة البساطة والجاذبية مثل «أنا كل ما أقول التوبة» و «على حسب وداد قلبي» و«سوّاح» فأعاد بها اكتشاف «حليم» إلى جانب محافظته على خط الأغاني الطويلة فكان لحن «زي الهوى» و«موعود» التي تعتبر من أنجح أغاني العندليب في تلك الفترة.

وقد حظيت الفنانة «شادية» بنصيب وافر من ألحان ملك الموسيقى إذ بلغ ما غنته له نحو (53) لحنا حملت من الروعة والأصالة والتجديد ما جعلها خالدة عبر الزمن؛ نذكر منها لحن «قولوا لعين الشمس» ولحن «آه يا أسمراني اللون» و«خدني معاك ياللي أنت مسافر» وألحان وموسيقى فيلم «شيء من الخوف» وألحان أغاني فيلم «أضواء المدينة» وفيلم «نحن لا نزرع الشوك» وألحان أخرى ما زالت في الأسماع تتردد.. وكانت الفنانة شادية قد توقفت عن الغناء لفترة؛ واكتفت بالتمثيل وقد بررت ذلك بأنها تتطور في التمثيل أما الغناء فلم يعد لديها فيه جديد.. ولكن هذا القرار لم يصمد أمام ألحان «بليغ» الذي أعادها للغناء بشغف من خلال مجموعة من الأعمال الرائعة.

من أشد ألحان الموسيقار الراحل تميزا تلك التي شدت بها فيروز مصر الفنانة «عفاف راضي» التي شجعت إمكانات صوتها الأوبرالي الهائلة بليغ حمدى على تقديم ألحان بالغة العذوبة مثل «ردوا السلام» و «هوا يا هوا» و«كله في المواني» و «تساهيل» وما شدت به في فيلم «مولد يا دنيا» وأغاني المسلسل الإذاعي «لمن يسهر القمر» وغيرها.

تنويعات

لم يغب «بليغ» عن الإنشاد الديني بألحانه العذبة وإحساسه الصادق فقدم للشيخ سيد النقشبندي (15) لحنا كان أشهرها «مولاي إني ببابك» و«إخوة الحق» و «يا دار الأرقم» و«أيها الساهر» و«أقول أمتي» وكان الشيخ النقشبندي قد أبدى ممانعة في بادئ الأمر لكن «بليغ» وعده أن يقدم له لحنا سيردده الناس لمئة عام قادمة على الأقل، فكان لحن «مولاي» وقد أعرب الشيخ بعد ذلك عن عميق امتنانه لبليغ بقوله: لولا ألحان بليغ لنسيني الناس.

وفي الغناء الشعبي كان لفناننا صولات وجولات أشهرها كان مع «محمد رشدي» الذي حقق له لحن «عدوية» شهرة واسعة، كما قدم من ألحان بليغ أيضا (30) عملا من أشهرها «طاير يا هوا» و «الخيزرانة» و»مغرم صبابة» و«ع الرملة» و «آه ياليل يا قمر» و«عبد الله يا خويا سماح» وغيرها.

عُرف «بليغ» بعشقه لمصر فكان لا يستطيع البعد عنها وكانت سفرياته إلى الخارج لا تتجاوز الثلاثة أيام، إلا أنه اضطر للبعد عنها قبيل وفاته لنحو خمس سنوات قضاها في أوربا بسبب محنة اتهامه في قضية تمت تبرئته منها فيما بعد.. اغترب بليغ  -مضطرا- عن وطنه وعشقه مصر وهو الذى قدم عشرات الألحان الوطنية، فكان حاضرا بقوة في محنة الهزيمة، وساند وطنه من خلال عدة أعمال رائعة نذكر منها «عدَّى النهار» و«فدائي» و «عاش اللي قال» و«البندقية اتكلمت» و«القدس» لـ «حليم» وفي الانتصار العظيم في أكتوبر أصر «بليغ» على التواجد في مبنى التليفزيون وقدم مع وردة  أغنية «ع الربابة» ومن غناء المجموعة «بسم الله الله أكبر» وغنت له «شادية» أغنية «أم الصابرين» و «يا حبيبتي يا مصر».

 لقد كان بليغ حمدي فنانا ينتمي بالحقيقة لتراب هذا الوطن، سخَّر ما حباه الله به من مواهب في التلحين الموسيقي لخدمة قضايا وطنه، ولإعلاء شأنه في محافل الفن، وقد كان إخلاصه للفن حقيقة ناصعة؛ إذ لم يشغله عنه شاغل طوال أكثر من أربعين عاما قدم خلالها نحو (1500) عملا موسيقيا متنوعا، بلغ معظمها من الجمال والروعة والعذوبة ما جعله خالدا في ذاكرة الموسيقى العربية.. وللأسف الشديد لم ينل «بليغ» أي شكل من أشكال التكريم لا في حياته ولا بعد وفاته؛ وكأنه قدر المبدعين في هذا الوطن أن ينالوا حظهم من الإهمال الرسمي، بينما يخلدهم الشعب ويضعهم في المكانة التي يستحقونها، ويظل دائم الاستدعاء لما قدموه من فن راق يعيش فى الوجدان والمشاعر بلا استئذان.

الفيديو جرافيكس

 نص: Belal Momen
تحريك ومونتاج: Abdalah Mohamed

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock