«يا أهل بلدي في كل مكان، م المنزلة لغاية أسوان.. يا إللي إتحرمتوا من التعليم، الفرصة لسة قدامكم.. من غير ما تغرموا ولا مليم، إذاعتنا ناوية تعلمكم.. بس اللى مطلوب منكم، تتجمعوا كده كلكم.. يوماتي وفي نفس المعاد.. وتحضروا من فضلكم، ورقة وقلم ومرايا، وتخلوا بالكوا معايا.. يلا بقى، سمع هس» كانت تلك مقدمة برنامج «يا أهل بلدي» الذي كان يقدمه الإذاعي الراحل الأستاذ عبد البديع قمحاوي، في الإذاعة المصرية لسنوات طويلة، في إطار خطة الدولة لمحو الأمية بين المصريين، ونال عنه جائزة اليونسكو.
تحتفي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، «اليونسكو» في الثامن من سبتمبر كل عام منذ سنة 1965 «باليوم الدولي لمحو الأمية»، تأكيدا على أهمية العمل على تعزيز رؤية عالم يخلو من الأمية للجميع. فوفقا «لليونسكو» مازال هناك نحو 750 مليون نسمة حول العالم من الشباب والكبار، لا يعرفون القراءة والكتابة بأي لغة من اللغات، كما أن هناك نحو 250 مليونا من أطفال العالم يفشلون في إكتساب المهارات الأساسية للقراءة والكتابة.
أما بالنسبة للوضع في مصر فقد أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بيانا بمناسبة «اليوم الدولي لمحو الأمية» أشار فيه إلى أن عدد الأميين في مصر – وفقا لتعداد 2017- بلغ نحو 18.4 مليون فرد ممن هم في سن عشر سنوات فأكثر، أغلبهم من الإناث بنسبة تصل إلى 57.8%، وأن محافظات الصعيد هى الأعلى بين محافظات مصر في معدلات الأمية.
غير أن هذا لا يمنع من التنويه إلى أن هناك جهودا عديدة تبذل في مجال العمل على محو الأمية، وأن بعض مؤسسات المجتمع المدني، قد لعبت دورا بارزا في هذا المجال، خاصة الجمعيات الأهلية التي تعمل داخل المجتمعات المحلية.
ولعل تجربة نجاح السيدة «جيهان صادق» التي التحقت بفصول محو الأمية بمؤسسة «بشاير حلوان» هى خير دليل على أن «تعليم الكبار» ليس هدفاً صعب المنال. فـ «جيهان» أرملة في السادسة والأربعين من عمرها استطاعت الانتقال من عالم النساء الأميات العاطلات عن العمل، إلى عالم النساء العاملات المتعلمات، خاضت رحلة التعليم مع إبنتها عاما بعد عام، حتى حصلت معها على شهادة التعليم الثانوي المتوسط،.. فكيف استطاعت «جيهان» أن تجتاز هذه الرحلة؟ وما هى طبيعة الصعوبات التي واجهتها.. وكيف تعاملت معها؟
السيدة جيهان صادق
حقيبة المدرسة
تروي «جيهان» لموقع «أصوات أونلاين» رحلتها منذ كانت طفلة في السادسة من عمرها، حين قدمت مع أسرتها من بنها بمحافظة القليوبية إلى حي حلوان بالقاهرة، حيث أقامت الأسرة بمنطقة «عرب غنيم» وهى إحدى المناطق العشوائية الفقيرة بحلوان.
كان والدها يعمل «ملاحظ عمال» في مجال أعمال البناء والتشييد، أما والدتها فكانت ربة منزل، ولها ثلاثة أخوة ذكور إلى جانب أختين، ولم يلتحق بالتعليم من الأسرة سوي شقيقة جيهان الصغرى وإثنين من الأخوة الذكور، وقد تركوا جميعا التعليم قبل الإنتهاء من المرحلة الإبتدائية.
حين تساءلت جيهان عن سبب عدم ذهابها للمدرسة مثل غيرها من الأطفال، أجابتها الأم بأنها قد فقدت شهادة ميلادها، وهكذا لم تذهب جيهان مطلقا إلى المدرسة.
ظل حلم التعليم يراود جيهان من حين لآخر، كانت تنظر في انبهار إلى الأطفال وهم في طريقهم إلى المدرسة صباحا، يرتدون الزي المدرسي ويحملون حقائبهم على ظهورهم، كانت تتمني أن تسمح لها الظروف بأن تحمل حقيبة تشبه حقائبهم، وتنطلق مثلهم إلى المدرسة وصولا للجامعة.
زواج القاصرات
عاشت جيهان طفولتها داخل جدران المسكن لا تعلم عن العالم المحيط بها شيئا، تقوم بأعمال المنزل كافة، وحين بلغت سن الخامسة عشرة تزوجت من «حسن» الذي كان يعمل نقاشا وأقامت بذات الحي «عرب غنيم» بجوار أسرتها.
وتروي جيهان عن عدم خبرتها بالحياة حين تزوجت قائلة: «مكنتش أعرف أخرج لوحدي، كنت أخرج مع جوزي أو أمي، ولو كانوا سابوني في شارع منصور (أحد الشوارع الرئيسة بحلوان) مكنتش عرفت أرجع البيت لوحدي».
مرت السنوات وأنجبت جيهان طفلها الأول «محمود» وهى في الثامنة عشرة من عمرها تبعته بإنجاب «أماني» بعد عام، ثم توقفت عن الإنجاب لسبع سنوات، لتنجب طفلا توفاه الله، ومن ثم تنجب بعدها بعام طفلتها «أميرة».
بداية الرحلة
مع دخول أبنائها المدرسة تجد جيهان نفسها في حاجة إلى التعلم كي تستطيع مساعدة أطفالها، فتلتحق بفصول محو الأمية بالمسجد القريب من بيتها، غير أنها لا تتمكن من المواظبة على التعلم، يتواكب مع ذلك بروز العديد من الخلافات مع زوجها بسبب سوء أحوالهم المعيشية، فهو يعمل عملا غير منتظم وعائده لا يكفي نفقات الأسرة، خاصة مع بداية رحلة تعليم الأطفال، وهو ما اضطرها إلى طلب المساعدة من والدتها، وسبب لها ذلك الكثير من الضيق والحرج.
تخرج جيهان لأول مرة بحثا عن فرصة عمل، لكن كيف يتأتى لها أن تجد هذا العمل وهى التي لا تدري عن أمور الدنيا شيئا، من ثم تلتحق بمؤسسة «بشاير حلوان»، لتتعلم الكروشيه، والخياطة، إلى جانب إلتحاقها بفصول محو الأمية، لتبدأ الرحلة.
يذكر أن «مؤسسة حلوان لتنمية المجتمع» الشهيرة بمؤسسة «بشاير حلوان» تأسست بحي حلوان منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي عام 1986، وتعمل في مجال الحملات الصحية الخاصة برعاية النساء والأطفال، إلى جانب العمل في مجال «محو الأمية»، وتدريب النساء على الأشغال اليدوية.
بشاير التغيير
تصف جيهان رحلتها مع «بشاير حلوان» بأنها ولادة جديدة لها، حيث كانت تعمل كعاملة نظافة بالمؤسسة، إلى جانب تعلم الكروشيه والخياطة والقراءة والكتابة، لتحصل على شهادة محو الأمية، ولتتعلم من مكان عملها سلوكيات جديدة عليها. تصف نفسها قائلة «أنا كنت شبه العجينة الطرية والناس في المكان هما إللى شكلوني وعلموني إزاي أتكلم وإزاي أتعامل، أنا كنت كائن متوحش، باتكلم مع الناس بعنف وغباوة».
حين تصل إبنتها «أماني» إلى الصف الأول الإعدادي، تلتحق جيهان هى الأخرى في نهاية التيرم بإمتحانات الصف الأول الإعدادي، وتصف تلك المرحلة بقولها: «كنت باروح الشغل الصبح وبعد الظهر باقعد مع ولادي على نفس الطبلية نذاكر سواء، أنا اتعلمت مع بنتي أماني سنة بسنة، وهى خدت دبلوم ثانوي تجاري وأنا أخدت دبلوم ثانوي صناعي قسم تفصيل».
صعوبات على الطريق
غير أن الرحلة لم تكن بتلك السهولة التي تُروى بها، فزوج جيهان «حسن» لم يكن يستسيغ خروجها للعمل والتعلم، فكان كثيرا مايعنفها ويضربها، غير أنها حين تقارن بين عدد المرات التي تعرضت فيها للضرب قبل عملها وتعلمها وعدد المرات التي تعرضت فيها للضرب فيما بعد، تجد أنها كانت تتعرض للضرب مرات أكثر حين كانت لا تعمل ولا تتعلم.
تسترسل جيهان كثيرا في وصف رحلتها مع عدم تقبل زوجها لعملها، حتى يأتي اليوم الذي تتفق فيه مع رئيستها في العمل، على أن تمنحها أجازة لمدة أسبوع من العمل بالمؤسسة، كي تبلغ زوجها أنها بالفعل قد تركت العمل بشكل نهائي، ومن ثم أخذت جيهان تطالب زوجها بسداد ما عليهم من مسئوليات مادية، وهو الذي يعمل وفقا لوصفها «يوم آه وعشرة لا»، لتجد الزوج قبل نهاية الأسبوع يطالبها بالعودة إلى عملها، ومن ثم يتوقف عن إبداء اعتراضه على عملها، حيث أصبح على يقين من أن عائد عملها هو الداعم الأساسي للأسرة، حتى أنه بادر في مرحلة لاحقة بعمل قرض باسمه تابع للشئون الاجتماعية لدعم محل الخياطة الذي افتتحته زوجته، قبل وفاته بعدة سنوات.
تتويج الرحلة
تمر السنوات وتلتحق جيهان – إلى جانب عملها- بدورة تدريبية على فنون الخياطة، تابعة لمؤسسة أهلية بمنطقة عين بحلوان، وفي نهاية شهر التدريب تحصل من المؤسسة على ماكينة خياطة كبيرة، تضمها إلى المحل الذي كانت قد افتتحته أمام مسكنها للخياطة، ومن ثم تبدأ في شراء الأقمشة لعمل المفروشات المنزلية، إلى جانب الخياطة لأهالي الحي الذي تقيم فيه.
هنا تجد جيهان نفسها تبدأ مرحلة جديدة من حياتها، فتترك العمل بمؤسسة بشاير، لتعمل فى أحد مصانع الملابس الجاهزة صباحا، مع إشرافها على عمل ابنتها بالمحل، بعد أن علمتها فنون التفصيل المختلفة، ومن ثم تتولى مسئولية تجهيز ابنتها الكبرى للزواج ومساعدة ابنها محمود على الزواج، إلى جانب مسئولية تعليم ابنتها الصغرى «أميرة».
انتقلت جيهان من عالم النساء الأميات العاطلات عن العمل، إلى عالم النساء المتعلمات الطموحات التي لا تكتفي بالعمل بأحد مصانع الملابس الجاهزة إلى جانب ملكية محل صغير بجوار مسكنها، ولكنها إلى جانب هذا باتت تعمل في مجال تدريب النساء على فنون التفصيل بعدد من الجمعيات الأهلية بحلوان، إلى جانب أنها أصبحت تحلم بأن تمتلك مصنعها الخاص، أو على أقل تقدير ورشتها الخاصة، وهى في هذا تقول: «حلمي أن أوصل بنتي الصغيرة لبر الأمان ويكون عندي مصنع ملابس جاهزة أو حتى ورشة صغيرة، والحلم لوحده مش كفاية، ضروري يكون في مجهود لتحقيق الحلم، وأنا باسعى بكل جهدي لتحقيق حلمي».
عاشت جيهان وعاشت بشاير