يؤكد كثيرون من علماء النفس على حقيقة أن أكثر الناس ميلا للسخرية وإثارة الضحك هم الأكثر ألما والأعمق حزنا، فالضحك قد يكون وصفة رخيصة ودواء مجانيا للأحزان والهموم.
ووفقا للخبراء النفسيين، فإن الأشخاص الذين عادة ما يصدرون قهقهات عالية النبرة مصابون بما يسمى «اضطراب الهوس الاكتئابي»، فكثيرا ما يكون ذلك تعبيرا عن معاناة الشخص من أعراض الاكتئاب، كالشعور باليأس والحزن العميق، وهو ما يٌحدث عنده رد فعل دفاعي من الجهاز التنفسي تجعله يغّير من شعوره إلى شعور عكسي، ثم يبدأ بالمكابرة والضحك على نفسه «ضحكاً خادعاً» على شكل نوبات من السعادة الزائفة، فالضحك فعل فاضح وكثيرا ما يكون خادع.
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/395220251373180/?t=24
لكن هؤلاء لا يجيبوننا عن سؤال هام… أيمكن للشخص الحزين أن يحترف انتزاع ضحكات الجمهور؟ وهو معنى انتبه له أحد أكبر الفنانيين التشكيليين المصريين وهو عبدالعزيز درويش حين شارك في مهرجان بلغراد/ يوغسلافيا عام 1961 بلوحة بديعة عن (المهرج) حين يختلي بنفسه، حيث يقف مسندا رأسه على كفه حزينا متأملا في قلق على الرغم من ملابسه المبهرجة والمزركشة الألوان، بينما تكون مهمته في الحياة هي انتزاع ضحكات الجمهور بحركاته، وهي صورة كاشفة عن حالة التناقض الكبيرة بين الداخل الإنساني والمظهر الخارجي.
المهرج الحزين
لم يكن صاحبنا (إسماعيل يس) سوى واحد من هؤلاء الذين اختاروا أن ينتزعوا ضحكات الناس معاندة للقدر، ومشاكسة للحرمان، فأضحك الناس رغم حزنه، وصار نجم الشباب الأقرب إلى قلوب الجماهير رغم عدم وسامته. وجد في فمه المتسع وشفتيه الغليظتين ميزة كبرى يحركهما بصورة فجائية يمينا ويسارا، فيثير القهقهات. يتندر على شكله وقسمات وجهه فيضحك الناس.
من المؤكد أن إسماعيل ياسين كان يتمنى من الداخل لو كان أكثر وسامة وأجمل هيئة، لكن هل كانت وسامته لتمنحه تلك النجومية والشعبية الجارفة التي صنعتها ملامحه التي تفتقد للوسامة؟ ربما لا.
نشأ يتيما
ولد إسماعيل يس في محافظة السويس يوم 15 سبتمبر 1912، ورٌبي يتيما، كما كان في أغلب أفلامه، فلم نر له أبوين، ولم تتح له ظروف الوالد المادية أن يستكمل تعليمه فاضطر للعمل صغيرا في محل لبيع الأقمشة، يٌنادي على الأقمشة، ثم انتقل لينادي على الركاب في أحد مواقف السيارات، ثم كانت رحلة الهروب من السويس إلى القاهرة بحثا عن العمل، وفرارا من بطش زوجة أبيه.
كان قد أوشك على السابعة عشرة من عمره حين ساقته قدماه إلى شارع محمد علي، وهو شارع الفنانين الشهير في وسط القاهرة، هكذا ساق القدر ذلك الفتى الحزين الهارب من عسف زوجة الأب، ليقترب من ساحة الفن ومصانع النجوم.
ربما لو كان قد حط رحاله في موضع آخر غير شارع محمد علي معقل الحركة الفنية في القاهرة حينها لما كنا لنشاهد موهبة اسماعيل يس.
في شارع محمد علي عمل يس صبيا في المقاهى، ثم صاحب (الأسطى نوسة) وهي واحدة من أشهر عوالم وراقصات الأفراح الشعبية في تلك الفترة. لكنه لم يكن يتحصل على ما يكفيه من المال، فانتقل للعمل في مكتب أحد المحامين، حيث وجد هناك الوقت الكافي لدندنة وترديد أغاني محمد عبدالوهاب بصوته المخادع. لانعرف ما الذي ساق إليه فكرة أنه يمكن بحنجرته هذه أن يكون منافسا لعبدالوهاب ذات يوم، لكنه في النهاية صدّق نفسه، بل ربما صدقه «أبو السعود الابياري» رفيق الدرب والمسرحي العظيم الذي سيأخذه من يده حتى يضعه على خشبة واحدة من أهم الفرق المسرحية في تاريخ المسرح العربي (فرقة بديعة مصابني) التي تركت له المساحة ليمارس هوايته في إلقاء المونولوجات،وهو فن صار له جمهوره العريض بفضل موهبته وموهبة رديفه محمود شكوكو.
ملك المونولج
نجح اسماعيل يس في إلقاء المونولج نجاحا بالغا حتى أصبح يدعى للإذاعة المصرية لتقديم المونولج، وقد بات يتلقى (أربعة جنيهات) نظير المونولج الواحد، والذي كان يؤلفه له صديقه (ابو السعود الإبياري).
ثم جاءت النقلة الثانية المهمة في حياته، عندما فتحت له أبواب هوليود الشرق، بعد أن دعاه المونولوجيست الموهوب الذي عرف موهبته فؤاد الجزايرلي عام 1939 ليشاركه في فيلم (خلف الحبايب)، بعدها شارك الكوميديان العملاق علي الكسار في فيلمه (علي بابا والأربعين حرامي) 1944 و(نور الدين والبحارة الثلاثة)، لتتوالى الأعمال حتى قدم إسماعيل ياسين حصيلة فنية قدرت بأكثر من 482 فيلماً في على مدى مشواره الفني الحافل.
استطاع ياسين أن يكون نجما لشباك التذاكر تتهافت عليه الجماهير وكانت أعوام 52 و 53 و54 هي عصره الذهبي حيث كان يقوم بتمثيل 16 فيلما في العام الواحد ـوهذا ما لم يستطع أن يحققه أي فنان آخر, وقد بلغ من اعجاب الجماهير باسماعيل يس أن أعلنت الشركة المنتجة لأفلامه عن توفير الأطباء في دور السينمات في القاهرة والاسكندرية بعدما تكررت وقائع إغماءات الجماهير من أثر الضحك أثناء مشاهدتها لأفلامه.
https://youtu.be/dqvcjh6-m8g
صديق الطفولة
وسواء أصدقت الشركة المنتجة أم لا في هذا الإدعاء الذي ربما استخدمته للدعاية لأفلامها اثناء عرضها في دور السينما، فإن المؤكد أن إسماعيل يس شكل حالة من النجاح بافيهاته، وحركاته، وإيحاءاته، ولغته الجسدية وطريقة تعبيره عن الاندهاشة والمفاجئة، جعلته يقف على رأس الكوميديا النظيفة التي تبتعد عن الإسفاف والخروج المخل عن النصوص الفنية والأخلاقية، مما جعله صديق لطفولة أجيال متعاقبة من الأطفال المصريين والعرب.
ويشير البعض إلى الدور الفذ الذي قام به في إثارة الترابط العاطفي بين المصريين وجيشهم الوطني في أعقاب ثورة 1952، بما قدمه من أعمال فنية تتناول الجانب الإنساني والوجداني لحياة العسكريين في إطار كوميدي محافظ على هيبة العسكرية المصرية كان من نتائجه تقريب المسافات بين الجيش والجماهير، والتعريف بصانع ثورتها من خلال أعمال مثل «اسماعيل يس في الجيش»، وإسماعيل يس في الطيران، واسماعيل يس في البوليس الحربي، واسماعيل يس في البحرية، وقد شاركه في أكثر هذه الأفلام أصدقاء عمره (رياض القصبجى، زينات صدقى، حسن فايق، عبد الفتاح القصرى، عبد السلام النابلسي).
كما قدم العديد من الأعمال المسرحية الراقية من خلال فرقته المسرحية التي مارست عملها طوال 12 عاما، غير أن أزمة مالية ألمت به صاحبتها العديد من الملابسات- قيل أنها كانت سببا في أزمة قلبية حادة أودت بحياته في 24 مايو عام 1972، بعد أن ملأ الدنيا بهجة وضحكا مجلجلا، وسجل أسمه في سجل الخالدين، كأحد أعظم فناني الكوميديا في مصر والعالم العربي.
الفيديو جرافيكس:
نص وتحريك ومونتاج: Abdalah Mohamed