شكّل تصدر المرشح المستقل وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد لنتائج الانتخابات الرئاسية في تونس، مفاجأة من العيار الثقيل بنظر الكثير من الخبراء والمحللين السياسيين، والذين تباينت وجهات نظرهم حول الدوافع والأسباب وراء منح الشعب التونسي ثقته للمرشح الأقل حظوة، موليا ظهره لممثلي التيارات السياسية الأكثر جماهيرية والأكثر نفوذا، سواء المرشح الإسلامي عبدالفتاح مورو المدعوم من حزب النهضة، أو الدكتور المنصف المرزوقي ذو الميول اليسارية والذي قاد البلاد في الفترة الانتقالية، أو رئيس الوزراء الحالي يوسف الشاهد، والذي كان البعض يرى الأقرب إلى شغل كرسي الرئاسة الشاغر.
فمن هو الدكتور قيس سعيد، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في تونس خلال الساعات الماضية، وما هي مواقفه السياسية وانتمائاته الأيديولوجية، وما الذي يعنيه تصدره للجولة الأولى في تلك الانتخابات؟
أما عن قيس سعيد البالغ من العمر61 عاما، فهو الأكاديمي وأستاذ القانون الدستوري المتقاعد. درس سعيد القانون الدولي العام، ونال شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس في العام 1985، وحصل على دبلوم الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري بعدها بعام، ثم دبلوم المعهد الدولي للقانون الإنساني بسان ريمو في إيطاليا في 2001.
اشتهر سعيد بلباقته، ولغته المنمقة وعربيته الرصينة، بدأ حياته المهنية كمدرس بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بسوسة سنة 1986، وانتقل للتدريس بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس سنة 1999.
ساهم سعيد بخبرته القانونية في وضع مشروع تعديل ميثاق الجامعة العربية، وإعداد مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية سنتي 1989 و1990، كما عمل كخبير متعاون مع المعهد العربي لحقوق الإنسان من سنة 1993 إلى سنة 1995، وهو عضو بالمجلس العلمي ومجلس إدارة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري منذ سنة 1997 وكذلك رئيس مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية.
أما عن توجهاته السياسية وانتماءاته الأيديولوجية فيبدو أنه الأقرب إلى المزاج العام التونسي، بثقة لا تعرف التردد، واطمئنان لا يعرف الشك، وبساطة كانت هي الجسر الذي ربط بينه وبين الجماهير الغفيرة من الشعب التونسي.
الدين والدولة
يميل قيس سعيد إلى المحافظة، دون محاولة اجترار للماضي أو معاداة للحداثة ومخرجات الحضارة، فاتقانه للعربية الفصحى واعتزازه بالتحدث بها في محيطه الأكاديمي والسياسي والإعلامي هو تعبير عن الاعتزاز بهويته وذاته الحضارية، كتونسي وعروبي ثم إسلامي ثالثا، دون تضاد ما بين دوائر الانتماء الثلاث. غير أن حرص قيس بن سعيد على التحدث باللغة العربية الفصحى، يثير حفيظة بعض دعاة الفرانكفونية والتغريب، الذين يتهمونه بالمحافظة والرجعية إلى حد ترويج الاتهام له بالسلفية،حين أعلن موقفه الرافض للمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في الميراث لتعارضه من وجهة نظره – مع نص قطعي واضح الدلالة.
أما عن إسلامية الدولة التونسية فبعقلية المنظر القانوني يراها سعيد قضية مفتعلة، وباستعراضه للتجارب التاريخية يؤكد أن المشرعين والقانونيين منذ المحاولات العربية الأولى لوضع الدساتير لم يتطرقوا لمعالجة هذه المسالة ولا حاولوا أن ينصوا في الدساتير على هوية الدولة، لأن القضية كانت محسومة بهوية الشعوب وخياراتها الدينية، التي تعبر عنها الدساتير.
لكن المحاولة الأولى للربط ما بين الإسلام كدين والدولة تعود إلى الصدر الأعظم أحمد مدحت باشا في السلطنة العثمانية.
وجه ثوري
أما من الناحية السياسية فإن قيس سعيد يعد- بنظر الكثيرين- أحد أكثر الوجوه تعبيرا عن الثورة التونسية وتوافقا مع مبادئها، دون محاولة للسطو على مكتسباتها- كما فعل البعض – باعتباره مستقلا لا يميل لاجترار تونس ما بعد الثورة لصالح حزب أو تيار، وإنما يسعى في خطاباته وأحاديثه التلفزيونية إلى تفعيل مبادىء وأهداف الثورة التونسية، ويهاجم محاولات الالتفاف عليها أو إعادة انتاج نظام زين العابدين بن علي السلطوي الفاسد في ثوب جديد، لذلك يرفض كل محاولات أو دعوة للتصالح مع رموز النظام القديم.
في الانتخابات الأخيرة بدا وكأن الشعب التونسي يحاول العودة بالزمن إلى لحظة سقوط حكم بن علي في الرابع عشر من يناير عام 2011، ومعاقبة كل الفصائل والنخب السياسية التي سعت للاستحواذ على السلطة واغتنام مكاسبها، دون الالتفات إلى مسار تحقيق أهداف الثورة الشعبية، وذلك عبر الإنحياز لمرشح مستقل تعفف عن استلام الدعم الحكومي لمرشحي الرئاسة، وقرر أن يخوض السباق معولا على الإرداة الشعبية التي عبر عنها في حملته الانتخابية حين اختار لها شعار (الشعب يريد). وقد كان الشعب عند حسن ظن سعيد به.