وصلنا إلى ركاكة لغوية تعدَّى أمرها التلاميذ الصِّغار، ممَّن يصحُّ الصبر عليهم، إلى طلَّاب المرحلة الثانوية الذين يُفْتَرَض وصولهم إلى الإجادة اللُّغويُّة عند بلوغهم حلقتهم الدراسية المتقدمة، والأفدح أن الجامعيين فسدت لغتهم العربية إلى حدٍّ كبير؛ فما أجدر المتنبِّهين منَّا للوضع الخاطئ بأن يسارعوا إلى تصويبه، قبل أن يتضاءل الأمل في العثور على صفحةٍ نقيَّةٍ مكتوبةٍ باللُّغة العربيَّة ولسانٍ قويمٍ ناطقٍ بها.
للمشكلات اللغوية المتعددة أسباب شتَّى، ليس أولها ضعف المعلمين أنفسهم ولا آخرها غفلة الدارسين، أعني لا يمكن حصرها في المعلم ومن يتلقَّى منه بصورة مباشرة (التعليم في المدارس) أو غير مباشرة (التعليم عن بعد)، لكن المناهج الدراسية نفسها مليئة بالزيادات وليست بسيطة ولا عميقة ولا مضبوطة بخطط تصاعدية محكمة، والإشراف الإداري حاضر كغائب؛ فاهتمامه منصبٌّ على الشكليات وإهماله للمضماين جسيم وخطير، بالإضافة إلى العوامل الخارجية المحيطة بالموضوع، فمن إهمال اللغة في معاملاتنا اليومية إلى تفضيل اللغات الأجنبية عليها في أغلبية الطلبات للوظائف، ومن تهكُّم الدراما على مدرسي اللغة العربية، تحديدا، إلى اضمحلال فكرة «الكتاتيب» القديمة التي كانت تربِّي الأجيال تربية لُغويَّة ممتازة، ومن هجر القراءة المتخصِّصة والعامَّة إلى افتقاد الحِسِّ اللُّغوي عموما والجهل بأهمية اللغة، كَهُوِيَّة، وغربة معنى الارتباط الحميم بها والحفاظ الحاسم عليها..
لا يجب طبعا أن أنسى الجانب الاقتصادي المتحكِّم في الشأن التعليمي تحكُّما كاملا كما في كلِّ الشؤون في الحقيقة؛ فقد أفسد الاقتصادُ التعليمَ مرتين، مرة حين عجز عن دعم الشِّقِّ الحكوميِّ منه فأهلكه، ومرة حين بالغ في دعم الشِّقِّ الخاصِّ وتدليله فجعل التعليم مدخلا رحبا لكسب الأموال لا اكتساب العلوم والمعارف..
يتم تعريف التلاميذ في المرحلة الابتدائية بالحركات (الفتحة والكسرة والضمة والشدة) والسكون أي الوقف، وبأحرف المدِّ والعِلَّة (الألف والواو والياء هي أحرف المدِّ والعِلَّة)، وببعض حروف الجر، وبالتنوين، مع المحاولات الدَّؤُوب لجعلهم يقرؤون ويكتبون بصور سليمة ويتعوَّدون حفظ الأناشيد. وفي المرحلة الإعدادية يزيد عن ذلك تعريفهم بعلامات الترقيم (معجميا هي علامات اصطلاحية توضع في أثناء الكتابة، كالفاصلة والنقطة وعلامتي الاستفهام والتعجب)، وبِقِسْطٍ من النحو والصرف والبلاغة والأدب بالإضافة للقراءة والنصوص وقواعد الإملاء.. يُذْكَر أن مدرسي اللغة العربية، في مرحلتي التعليم الأساسي والمرحلة الثانوية بعد ذلك، هم أنفسهم مدرسو مادَّة الدِّين، وقد يتوجَّب على المعنيِّين فحص الأمر واستبيان مدى جدواه من عدمها.
https://youtu.be/5DuhZ7BYJIM?t=129
علاقة سطحية
أسف من – وفى العادة- يكون التعريف بالأوَّليَّات سطحيا، ولا يتم توثيق العلاقة بين التلاميذ ومبادئ لغتهم العربية؛ فالأساتذة يرسمون الدروس رسما على السَّبُّورات، وقد يشرحها بعضهم شرحا وافيا وقد لا يبالي آخرون بالشرح، وقد يطلب بعضهم من التلاميذ نقلها في الكراريس وقد لا يطلب ذلك آخرون، فلا رقابة على تلك التفاصيل الدقيقة، ولو جاء الرُّقباء فالمعلِّم الكسول يكون على علم بمجيئهم؛ فينشط مؤقتا مغبَّة العقوبة (ما لم يكن له ضمنهم أقارب أو أصدقاء)، وبانصرافهم يعود أدراجه إلى الخمول، وبالمناسبة أكثر الفصول مكتظة بالتلاميذ فوق السعة، كما أن زمن الحصة الواحدة قصير والمنهج اللُّغويُّ بالغ الطُّول؛ وذلك كله مما يؤثر بالسلب على عمليَّتي الإرسال والاستقبال..
من خطايا مدرِّسي النحو تصعيب الإعراب على التلاميذ؛ فجملة صغيرة كمثل «حَمَلَ التِّلْمِيذُ حَقِيبَتَهُ» يقوم الأستاذ بإعراب لفظ «حقيبته» فيها هكذا: حقيبة: مفعول به منصوب بالفتحة، والهاء ضمير مبني في محل جر مضاف إليه. يتلو الإعراب غالبا بسرعة من غير أن يفسِّر للصِّغار المندهشين ما هو البِنَاء وما المقصود بالمَحَلِّ. صحيح قد يكون شرحهما في حصة خاصة بهما، لكنه لم ينتهز الفرصة لتأكيد الشرح وتثبيت المعلومة بالأذهان، كما أن السرعة في الإعراب صورة احترافية ليست مناسبة لتدريب المبتدئين.
على هذا ينشأ أكثر الصِّغار بعُقَدٍ نَحْوِيَّةٍ شديدةٍ، معتبرين مادَّة النحو أصعب فروع اللغة، وكذلك الصرف لارتباطه بها؛ فلا يحسنون الإعراب ولا يستطيعون الاشتقاق ولا يحيطون علما بأبنية الكلام.
قبل أن تصبح المشكلات اللغوية معضلات لا حلول لها وقبل أن يفشو خطأ الاستخدام اللغوي حتى في الأعمال الإبداعية والأكاديمية التي من المفروض أن يكون أصحابها بلغوا الذرى لغويا (كثيرا ما تجد عندهم عيوبا في الهمزات كهمزتي الوصل والقطع وهمزة الابتداء وكذلك مواضعها الإملائية، خصوصا الهمزة المتوسطة، وكثيرا ما تجد خلطا مضحكا بين أسماء الإشارة التي للقريب وبين التي للبعيد وكثيرا تجد سقوطا للفاء التي بعد جملة الشرط وكثيرا تجد ترددا إعرابيا بين الصفة والحال وبين بدلي الغلط والنسيان وكثيرا تجد مطبات تركيبية مخزية وخلوا من البلاغة واستعجالا في المباني وفراغا من المعاني وخطوطا رديئة وركاكة عامة.. ولا حد للمثالب والعيوب القاتلة في هذا المضمار بكامل الأسى والأسف)؛ علينا الآن وليس غدا أن نحدِّد مشكلاتنا اللغوية ونحاصرها وندرك أبعادها إدراكا سريعا صادقا، وبالضبط هذا ما حاولته في الفقرة السابقة، وأرجو أنني وفَّيت القضيَّة حقَّها، وأما الحلول فجملةٌ سهلةٌ ما دمنا نجحنا في وضع أيدينا على المشكلات ولم نسمح لها بالتفاقم الذي يستحيل معه العلاج. بعد الإصلاح الإداري الحتمي، والتوسع في إنشاء الدور التعليمية، وجلب التكنولوجيا لها، والحرص على تدريب المعلمين وتجديد معلوماتهم بصورة متواصلة، واعتماد التوجه الديموقراطي فيما بين المدرسين والدارسين.
مقترحات للحل
أولا: نحتاج إلى خلق حميمية بين اللغة والجمهور، وهو ما لن يحدث ما دامت اللغة ليست في قبضة الناس، لكن بشرح «التنغيم» مثلا وهو قَدْرٌ يسيرٌ من مادَّة «علم اللغة» التي يدرسها طلاب كليات اللغة العربية ضمن المنهج اللُّغويِّ الشامل؛ نجد تركيبة لُغويَّة عابرة كمثل «يَا سَلَام» (تمثِّل طواعية اللُّغة كمثال) نجدها في قبضة الجميع تماما؛ لأنها تؤكد فاعليتهم في اللغة بحسب تنغيم ألسنتهم إياها.. فتعني السخرية، والأسف، وتعني الاندهاش أيضا..
ثانيا: نحتاج إلى تنويع مناهج اللُّغة، واستمرار تطويرها، ووضع فلسفة عليا لتدريسها.
ثالثا: نحتاج إلى التفريق بين الفصاحة والبلاغة، وأن نخصص حصصا للفصاحة؛ فندرِّب الألسنة على سلامة الألفاظ من اللَّحْن والإبهام وسوء التأليف، وهذا بالضبط معنى الفصاحة.
رابعا: نحتاج إلى التخصص الأدق مستقبلا؛ فالعناية الفائقة قد تدعو إلى تعدد مدرسي المادة، مَنْ للأدب غير الذي للبلاغة وهكذا..
خامسا: نحتاج إلى إقامة مسابقات جادَّة في الأفرع اللُّغويَّة بين التلاميذ في المدارس والطلاب في الجامعات، تكون جوائزها عظيمة، ووسط إعلان وحفاوة.
أخيرا، علينا ألا نطعن في العامِّيَّة لإنصاف الفصحى؛ فالطعن فيها جهلٌ بها وبالفصحى على عكس التصور التقليديِّ البائس.