لا يتوقف دور وتأثير الفرق الموسيقية المستقلة عند كونها حالة فنية مغايرة للسائد والمألوف، بل هى تعبير عن احتياج مجتمعى وبديل موضوعى فى لحظة ما، وفى وضع فنى ما، وصرخة غنائية فى وجه التقليدى والمُعلب فى بعض الأحيان، وفى أحيان أخرى تمثل تلك الفرق إحدى أدوات الاحتجاج والشحن السياسى والاستنفار الوطنى. وقد عرف العالم عشرات الفرق الموسيقية الشهيرة التى بدأت فى الانتشار بشكل كبير مع منتصف خمسينيات القرن الماضى وحققت نجاحات عالمية وقدمت أنماطا مختلفة من الموسيقى.
وتعد ظاهرة الفرق الموسيقية التى شهدتها مصر لأول مرة فى شكلها المعاصر مع فرقة «ولاد الارض» عقب نكسة يونيو 1967، واحدة من أشكال التمرد، سواء الموسيقي أو المجتمعي على أوضاع مستقرة ويرى صناع الفرق أن الحياة الموسيقية قد أصابتها الرتابة والتكرار فيخرج علينا فريق، ليقدم نوعية مختلفة من الأغنيات، سواء على مستوى اللحن أو الكلمات، أو حتى طريقة الأداء ذاتها.
أولاد الأرض.. حالة مقاومة
لم تكن «أولاد الأرض» مجرد فرقة موسيقية تقدم الموسيقى والغناء بقدر ما كانت حالة مقاومة صارخة ضد الإحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية. وقد انطلقت «أولاد الأرض» من مدينة السويس لتكون بمثابة صرخة لحث الناس على المقاومة خلال حرب الإستنزاف، وقد لعبت دورا بارزا فى حشد كل شعراء مصر ورموزها الوطنية حولها، حيث كتب لها عدد كبير من الشعراءمن بينهم عبد الرحمن الأبنودى وزين العابدين فؤاد، وكانت تعتمد على تقديم موسيقى السمسمية وتستعين بتراث موسيقى هائل لمنطقة القناة. إلا أن تجربة «أولاد الأرض» بما تملكه من ريادة فى هذا السياق وبما تمثله من حالة وطنية شديدة الخصوصية والألق تظل بعيدة وتقف فى موقع مميز وفريد من كل الفرق الموسيقية التى جاءت بعد ذلك.
«فرقة المصريين»…. الخروج على السائد
بعد أيام يحتفل الموسيقار هانى شنودة مؤسس فرقة المصريين «1977» بمرور 42 عاما على تأسيس واحدة من أهم الفرق الموسيقية المستقلة فى مصر.. وهى تجربة ألقت بظلالها على الحالة الغنائية فى مصر فتبعتها تجارب أخرى متعددة وصارت نموذجا يشار إليه دوما.
وقد أسس هانى شنودة فرقته فى لحظة شديدة الارتباك سواء على الصعيد السياسى حيث مصر تُبرم اتفاقية كامب ديفيد وما أحدثته فى الصعيد العربى من فرقة وتشرذم كما أنه لم يكن قد مضى وقت طويل على انتفاضة الخبز بما أحدثته من توتر وأزمات على الصعيد المحلى.
كذلك كانت نتائج الانفتاح الاقتصادى قد بدأت تظهر بقوة على الفن المصرى وخاصة الموسيقى و رغم وجود قامات فنية فى ذلك الوقت إلا أن التيار كان جارفا وبقوة وظهرت موجة أغنيات أُطلق عليها فيما بعد «أغانى الميكروباص» وقاد كل من أحمد عدوية وكتوت الأمير ورفاقهما موجة جديدة فى الغناء المصرى.
ويؤكد هانى شنودة فى لقاء تلفزيونى له أن الأديب الكبير نجيب محفوظ هو الذى أوعز اليه بفكرة تكوين فريق موسيقى وذلك خلال زيارة له للتعرف على ما يقدمه من موسيقى جديدة.
واستطاعت «المصريين» أن تحقق نجاحا ساحقا مع أول ألبوم طرحته فى الأسواق «بحبك لا» خاصة فى ظل تعاون شعراء كبار مثل صلاح جاهين وعبد الرحيم منصور وعمر بطيشة – الذى كتب معظم أغنيات الفرقة – وضمت الفرقة كلا من «منى عزيز وإيمان يونس وتحسين يلمظ وممدوح قاسم » وأصدرت 6 ألبومات غنائية وتوقفت عام 1988 ويفسر مؤسس الفرقة توقفها بسفر عدد من نجومها ووفاة كل من صلاح جاهين وعبد الرحيم منصور ما جعله يخشى تراجع النجاح فقرر التوقف
ولم تكن «المصريين» هى أول فرقة موسيقية فى السبعينيات لكن الموسيقار محمد نوح كان له السبق حين أسس فرقة النهار عام 1974 عقب حرب أكتوبر بأشهر قليلة لكنها لم تسع لتقديم موسيقى مغايرة أو كلمات تختلف كثيرا عن السائد بقدر ما اهتمت بتقديم أغنيات وطنية ذات طابع حماسى وأقرب إلى الأناشيد المثيرة لحماس الشباب وبعد ذلك استخدم نفس الأغنيات فى إشعال حماس مشجعى كرة القدم فى مباريات المنتخب الوطنى وهذا ما حدث خلال التصفيات الإفريقية المؤهلة لكأس العالم 1978.
الفور إم.. والأصدقاء
فى عام 1979 تأكد عزت أبو عوف أن الفرقة الموسيقية «بلاك كوتس» التى كان أحد أعضائها والتى رافقه بها كل من طلعت زين وعمر خورشيد والتى تخصصت فى الغناء الغربى تأكد أنها انهارت وأنه لن يحقق ما يريده من انتشار ونجاح سوى بالغناء بالعربية ولذلك قررت تكوين فرقة ولجأ إلى شقيقاته للغناء معه وشكلت تلك الفرقة – العائلية – حالة جديدة وجذابة للجمهور خاصة مع طبيعة الأغنيات التى كانت تقدمها والموسيقى التى تمتلئ بالحياة والحيوية واستطاعت الفرقة أن تحقق نجاحا كبيرا رغم المنافسة القوية مع فرقة المصريين وقدمت 6 ألبومات غنائية واستمرت حتى 1991 ثم توقفت لأسباب تتعلق بابطالها.
وينضم الراحل المبدع عمار الشريعى إلى رواد الموسيقى المستقلة ويؤسس فرقة الأصدقاء التى أكد مرارا ان الهدف منها كان تبنى أصوات جديدة اضافة الى تقديم موسيقى مغايرة وكلمات غير تقليدية وفى عام 1980 كان أول البومات الاصدقاء بصوت حنان ومنى عبد الغنى وعلاء عبد الخالق وتعاونت الفرقة مع عدد من شعراء العامية بينهم سيد حجاب الذى قدم عدد من أشهر أغنياتها.
توقف ثم عودة قوية
شهدت حقبة التسعينيات توقفا لافتا، لظاهرة الفرق الموسيقية فى مصر وتراجعا فى تأسيس هذا النموذج الموسيقى. لكنها عادت بقوة للظهور فى بدايات الألفية الجديدة، باشكال مختلفة ورسائل موسيقية، ومضامين جديدة، و مزيد من الارتباط بقضايا الشباب المصرى وهموم المجتمع. كما تتميز تلك المرحلة الجديدة بكثافة الاستعانة بالتراث الفنى المصرى، خاصة تراث سيد درويش والشيخ امام عيسى، فقد قامت عدة فرق موسيقية، بإعادة تقديم هذا التراث بتوزيع موسيقى جديد. هذه العودة القوية للفرق الموسيقية المستقلة رفعت من شأن دور الفن فى تثوير المجتمع وتوعيته، خاصة وأن عددا من مؤسسى تلك الفرق كانوا يمتلكون رؤى ووجهات نظر فى الأوضاع السياسية التى كانت تعيشها مصر قبل ثورة 25 يناير 2011، وحالة الاحتقان التى سادت البلاد، خاصة بين الشباب والذى يمثل الجمهور الأساسى لتلك الفرق الموسيقية. و من هنا جاء الفارق الجوهرى عند فرق الالفية الجديدة وهو ذلك الدور المتجاوز فى الموسيقى وطبيعة الكلمات، حيث الغناء «المُحرض» ان جاز التعبير.
وكانت البداية مع فرقة «وسط البلد» عام 1999 التى شاركت فى عدد من الأعمال السينمائية وقدمت أول ألبوم لها عام 2007 وفى الوقت نفسه. ومع بدايات عام 2000 ظهرت فرقة «اسكندريلا» فى الاسكندرية من مجموعة شباب هواة على رأسهم حازم شاهين احد تلاميذ عازف العود الشهير نصير شمه والشاعر السكندرى خميس عز العرب الذى كتب معظم اغنيات اسكندريلا فى البدايات قبل ان تنتقل الى القاهرة 2005 ويتوسع نشاطها وتضم عددا اكبر من العازفين والمطربين وتستعين بشعراء جدد وتقدم اغنيات الشيخ امام وتلجا لتراث فؤاد حداد وصلاح جاهين وغيرهم. وتعتبر اسكندريلا واحدة من الفرق الموسيقية التى رفعت شعار «الشارع بيتنا وغنوتنا» وهو شعار يلخص بدقة انتماء هذه الفرق الموسيقية الى الناس وحرصها على العمل بعيدا عن المؤسسات الثقافية الرسمية. وشاركتها فى ذلك التوجه فرقة «كايروكى» التى بدأت عام 2003 واهتمت بتقديم موسيقى الروك.
ويقف فريق «مسار إجباري» فى نفس منطقة التمرد، ويبدو من اختيار اسم الفريق هذا المعنى، وهو فريق سكندرى بدأ عام 2005 واهتم بتقديم مزيج موسيقى بين التراث المصرى وموسيقى الروك. ويعتبر مسار اجبارى صرخة موسيقية فى وجه كل ما هو نمطى وكل القيود المجتمعية على حرية الابداع والتعبير.
وتمثل فرقة «نغم مصرى» واحدة من أهم الفرق الموسيقية رغم عدم تحقيقها شهرة بالمقارنة بالفرق الأخرى الا انها قدمت منذ تاسيسها عام 1998 اغنيات من أشعار امل دنقل وفؤاد حداد وصلاح جاهين.
وكذلك تأتى فرقة «بلاك تيما» التى استطاعت تحقيق نجاح كبير بفضل اصوات مغنييها الثلاثة اصحاب البشرة السمراء وتقديمهم موسيقى تمزج بين التراث النوبى والموسيقى الغربية، وقدمت اولى حفلاتها عام 2004.
وشهدت بدايات الألفية انتشارا واسعا للفرق الموسيقية وبلغ عددها ما يزيد عن 120 فرقة قدمت فنها فى طول البلاد وعرضها
ثم جاءت ثورة يناير لتنتعش تلك الفرق بشكل كبير وتمنح الثورة لها فرصة ذهبية للوصول الى الناس من خلال ميادين الثورة ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى وتنجح معظم الفرق فى استثمار اللحظة الثورية والتعبير عنها خاصة وأن بعض تلك الفرق كانت ضمن المتظاهرين فى الميادين.
وتمثل أغنيات الفرق الموسيقية تعبيرا صادقا ودقيقا عن ثورة يناير ويمكن الاستعانة بما قدمته فى التوثيق للثورة ويعتبر البعض أن الدور الذى قدمته الفرق المستقلة يشبه الى حد كبير ما قدمه عبد الحليم حافظ خلال ثورة يوليو.
وبعد تولى جماعة الاخوان السلطة فى مصر تراجع إلى حد كبير دور تلك الفرق وتراجع نفوذها بسبب عوامل الانقسام التي شهدتها الساحة المصرية وتفككت معظم الفرق وغابت عنها الأضواء الا قليلا وانزوى كثير منها ولجأ بعضها الى تقديم اعمال فردية.
توارت الفرق المستقلة نظرا لاختفاء عوامل موضوعية ساهمت فى إنتشارها لكن يظل اللجوء للفرق الموسيقية المستقلة مطروحا طوال الوقت شريطة أن تتوفر شروط فنية واجتماعية لنجاحها وهذا ما حدث فى المرحلتين الرئيسيتين اللتين شهدتا ازدهار الفرق الموسيقية وانتشارها وهما مرحلة السبعينيات وبدايات الألفيه الثالثة.