لا يختار أحد بيئته التي ينشأ بها، أو لونه، أو عرقه، أو حتى قدراته ومهاراته الذهنية والبدنية، ويتفاوت الناس في طبيعة حياتهم وطبقاتهم الاجتماعية ونظرة الآخرين إليهم وغيرها من التفاصيل، لذا فعمليًا من المستحيل أن يصبح البشر سواء، فهل يمكن أن تتحقق عدالة تضم الجميع تحت سقفها دون تفرقة رغم كل تلك الاختلافات؟
سؤال كان يشغل بال الفيلسوف الأمريكي «جون رولز» منذ الطفولة، وهو الذى ولد عام 1921 في بالتيمور بولاية ماريلاند بأمريكا، وتعرض لصدمة قاسية بموت اثنين من أشقائه بسبب عدوى نقلها إليهما، وقد أدرك منذ طفولته أيضا حجم الظلم والفقر في عالمنا المعاصر، إضافة إلى فواجع وفوضى الحرب العالمية الثانية، لتلهمه كل هذه الأحداث القاسية أفكاره في تغيير العالم غير العادل الذي يعيش فيه، وينجح بالفعل عام 1971 في أن يصبح من أعظم فلاسفة القرن العشرين من خلال نشر كتابه «نظرية العدالة» الذي طرح به بديلًا للسياسة النفعية التي كانت مسيطرة وقتها وأسس منهجًا لعدالة تتجاوز المصالح الفردية وتشمل المجتمع بأكمله.
حِيَل الأغنياء
عادة ما يتم تسليط الضوء على النماذج المشهورة ممن كانوا فقراء ثم أصبحوا فاحشي الثراء والشهرة مثل «محمد صلاح» و«أوبرا وينفري» و«مايكل جاكسون» وغيرهم – رغم أن هؤلاء يمثلون نسبة ضئيلة جدًا من الفقراء وفقًا لجميع الإحصائيات- لإبراز فكرة أن سبب فقر الفقراء أنهم لم يبذلوا ما يكفي من المجهود، ولكن «جون رولز» كان يعلم أن تلك خدعة من الأغنياء المستفيدين من أوضاع مجتمعاتهم الظالمة لكي لا يصلحوها، ولكن في الوقت نفسه كان مفهوم العدالة انحيازيا حيث تعني العدالة بالنسبة للغني أن يدفع ضرائب أقل وبالنسبة للفقير أن يدفع الأغنياء ضرائب أكثر، ويمارس الرجل الأبيض العنصرية ضد السود بأريحية بينما يشعر ذوو البشرة الداكنة بالظلم وهكذا.
حجاب الجهل
حاول «رولز» أن يُظهر مفهوم العدالة الحقيقي من خلال موقف افتراضي أسماه «حجاب الجهل» وفيه يتخيل الشخص أنه سيولد مرة أخرى ولكن في ظروف مختلفة، دون أن يعلم كيف سيكون شكله أو طبقته الاجتماعية أو دينه أو أيًا من مواصفات حياته الجديدة، في هذه الحالة ما نوع المجتمع الذي سيرغب الشخص أن يعيش فيه؟ وبتنحية انحيازاتنا الشخصية من خلال هذه الافتراضية، يبدأ الناس في إعادة التفكير في احتمالية أن يولدوا فقراء أو يكونوا ضمن أقلية أو حتى دون المهارات الكافية، لذا يضعون قواعد جديدة تضمن الحقوق الأساسية للجميع كي يتأكدوا من أنه بغض النظر عن الفئة التي سينتمون إليها سيكون هناك عدالة وإنصاف.
وأجاب «رولز» عن سؤال العدالة تحت «حجاب الجهل» بأن أي إنسان عاقل سوف يحرص على وجود عدد من المبادىء الأساسية للجميع؛ أولها الحرية حيث يحق لجميع الناس – بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي أو المادي أو الثقافي – أن يعبروا عن آرائهم ويعتنقوا الدين الذي يرتضونه لأنفسهم وغيرها من الحريات المدنية دون إجبار على شىء طالما لن يكون هناك ضرر لأحد.
وفقًا لـ«رولز» سيكون هناك دون شك عدم مساواة – حتى في أكثر المجتمعات عدلًا -خاصة فيما يتعلق بتوزيع الثروة والدخل، ويمكن أن يكون هذا مبررًا في حالة واحدة فقط بالنسبة لـ«رولز»؛ وهي أن يعود ذلك بالنفع على من هم في قاع المجتمع، بمعنى أن تكون هناك ضرائب تصاعدية تجعل ثروات الأغنياء تعم على المجتمع وبالتالي يتم دفع أكثر الناس فقرًا إلى أقصى مستوى من العدالة الاجتماعية الممكنة.
أما الجزء الثاني من مبادىء «رولز» فكان يتضمن مبدأ تكافؤ الفرص بحيث يتمكن الفقير الموهوب من الحصول على الوظائف نفسها، والتعلم في الجامعات والمدارس ذاتها التي يسعى إليها الأغنياء طالما لديه القدرة دون المفاضلة بناءً على خلفيته الأسرية أو طبقته الاجتماعية، وبالتالي فإن المعيار هو المهارات والسعي وليس المواصفات التى لا يد لأحد فيها.
انتقادات لاذعة
تلقى «رولز» إنتقادات لاذعة خاصة من الفيلسوف الأمريكي – وزميله في جامعة «هارفارد» – «روبرت نوزك» الذي كان يدافع عن الحرية الفردية، وبالتالي وجد أنه من الظلم للأغنياء اجبارهم على دفع ضرائب باهظة وكأن المجتمع يعاقبهم على كفاءتهم لمصلحة الفقراء، ورغم أن «نوزك» لم يكن ضد أن يتبرع الأغنياء للفقراء ولكن بشكل تطوعي دون فرض عليهم من قبل الدولة.
ويبدو كلام «نوزك» معقولًا في حالة أن كفاءة الأغنياء وحدها هي ما تجعلهم يحصلون على المال، ولكن واقعيًا هناك العديد من العوامل التي تؤثر في مستقبل الأفراد ومستواهم المادي والاجتماعي، فمن يولد في أسرة غنية يتلق أفضل تعليم وتفتح له أبواب العمل والسفر إلى الخارج وغيرها من المزايا، بينما الفقير من الممكن أن يحرم من التعليم أو على الأقل يعاني من أجل ذلك، وحتى إذا نجح فمن الممكن ألا يحصل على الوظيفة المناسبة لأن من يفوقه اجتماعيًا سيحصل عليها.
روبرت نوزك
العدالة للجميع
كان هدف «رولز» الرئيسي ألا يستمر مجتمعه في سياساته غير العادلة التي توسع الفجوة بين الطبقات، فيزداد الغني ثراءً، بينما يزداد الفقير فقرًا ويورثه لأبنائه من بعده، وكأننا نلقي بكل طفل من الأجيال الجديدة في لعبة قمار، إما أن يكون محظوظا فيها ويولد في أسرة غنية فيعيش حياة كريمة، أو أن يخذله حظه فينحدر في قاع من الصعب الفرار منه، كما أدرك أنه من المستحيل أن يتوافق الجميع على رأي ومعتقد واحد، لذا فمن غير العدل أن تحظى مجموعة بكافة الحقوق بينما تُسلب تلك الحقوق من أخرى لأنها ليست على هوى أحدهم.
توفير تلك المبادىء الأساسية في المجتمع يحمي الجميع ولا يعمل لصالح فئة على حساب أخرى، وإنما فقط يخلق نوعًا من التوازن المطلوب لكي يكون هناك الحد الأدنى من الإنصاف دون تمييز لجميع الأفراد وبالتالي تتحقق العدالة حتى دون مساواة، مما يدفع المجتمع بأكمله نحو التقدم والرخاء.
المصادر:
Justice: What’s The Right Thing To Do? Episode 08: «WHATS A FAIR START?»