«قالوها ناس زمان»، إذن لا نقاش في هذا الذي قاله الأوائل، يجب التسليم به و«القياس عليه» و«العيش في ظله»!
«قالوها ناس زمان» هي العبارة الخطيرة التي يستند إليها الكثيرون، سلطة دينية أو سياسية أو قبلية أو «مجموعاتية» أو جنسية، وذلك لتبرير وتسويق بعض المواقف التي تعكس سلوكيات التبعية العمياء، وتكرس كثيراً من فكر النقل بدلاً من النقد، حتى تظل دار لقمان على حالها.
«قالوها ناس زمان”»، وفي تعبير آخر (قالوها ناس اللوالي «أي الأوائل») في هذه العبارة يختفي التخلف متستراً بالأخلاق الزائفة الظاهرية تارة، وبدعوى احترام السلف تارة، وبالخوف على الهُوية ثالثة، الحذر من الآخر رابعة، وفي كل هذه التبريرات يختفي كثيرٌ من أعداء التقدم، وبها يتستر أعداء المستقبل.
ليس كل الماضي أبيض اليد، وليس كل ما جاء على لسان الماضي حكمة وفلسفة. والمجتمعات التي تريد أن تعيش حاضرها وتؤسس لمستقبلها عليها أن تعرف كيف تصفّي علاقتها مع ماضيها، حتى لا يصبح هذا الماضي جثة متعفنة يعيش فيها وتعيش فيه وله.
كي نضمن حياة متوازنة قادرة على أن تفتح طريقنا إلى المستقبل علينا أن نعرف كيف نقرأ الماضي، جيده ورثّه، قراءة نقدية جريئة بعيداً عن التقديس أو النوستالجيا، التقديس الديني أو القومي، والنوستالجيا الفردية أو الجماعية، لقد ولَّى زمن الوقوف على الأطلال.
الأثافي دخلت المتاحف!
ولعل العرب وأهل شمال أفريقيا هم من أكثر الأمم تعلقا بماضيهم، حتى يتحوَّل هذا التعلق إلى حالة مرضية، لأن الماضي يحضر في الحاضر، ويغطي المستقبل دون نقد ودون غربلة، مخترقاً الأجيال والأزمنة والحدود. يكون التعلق بالماضي قوياً ومُعيقاً حين نفقد بوصلة المستقبل.
تعتمد المجتمعات في تثميرها للماضي على «التراث الشعبي» بغثّه وسمينه، في الشعر والنثر والحكمة، ولا تزال المجتمعات العربية والمغاربية تتشبث وتستشهد بكثيرٍ من هذه النصوص، باعتبارها «مقدّسة» أو شبه مقدّسة، لأنها تنتمي إلى «قالوا ناس زمان». و«ناس زمان» فوق النقد والانتقاد، وتمثّل هذه النصوص الشفوية حضوراً كبيراً في الذاكرة اليومية الجماعية والفردية من خلال «الأغنية»، و«الشعر الشعبي»، و«الأمثال الشعبية»، و«الحكم» المرتبطة بطقوس العمل اليومي، التي هي صورة عن سلوكيات في العلاقات الاجتماعية بتجلياتها المختلفة.
وبحجة الدفاع عن فكرة «احترام الماضي» التي تتحوَّل إلى فكرة «تقديس الماضي» لا يزال كثيرٌ من النصوص التي تمثل اعتداءً صارخاً على كثيرٍ من القيم الإنسانية المعاصرة متداولة بين العامة، ويتم الاستشهاد بها في العديد من المواقع، ويتجلّى هذا الاعتداء على قيمة الإنسان، وعلى قيمة المواطنة فيما تفرزه، وما تدعو إليه هذه النصوص من اعتداء ضد “المرأة” وتكريس لـ«السلطة»، وتحقير لفلسفة «العمل»، وتثمين أيديولوجيا «الاتكال».
سوق النسا
يحتفظ التراث الشعبي بكثيرٍ من النصوص الشعرية والأمثال الشعبية السيّارة التي ترى في «المرأة شيطاناً»، وتصوّرها “الناقصة” عقلاً وديناً وفكراً، وتختصرها في «المتعة الجسدية» و«الإنجاب» و«تربية الأولاد»، وهي في ذلك تروم إبعادها عن فضاء الإنسان الكامل، نفيها عن الفضاء العمومي، والزج بها في فضاء «الملكية الخاصة».
ونجد هذه النصوص حاضرة وبشكل قوي في المتون الشعبية، ولها تجلياتها وثقلها على اللا وعي الجمعي والفردي، والأخطر من ذلك أن هذه نصوص تخترق الطبقة الشعبية البسيطة لتتجاوزها إلى النخب الثقافية والسياسية، كما أننا نجد روحها وفلسفتها حاضرة في النصوص الشعبية المكتوبة المتداولة في المدارس، وفي كتب الأطفال، وفي الأشرطة المرسومة، وفي الأفلام والمسلسلات المصوّرة أو المسموعة، في لحظة انتقالها من الشفوي إلى المكتوب أو المسجل، ونعثر على ظلال هذه الثقافة داخل الكتابة الإبداعية التي تصنّف عادة في الحداثة أو المعاصرة، وذلك من خلال شخوص روائية أو مسرحية أو سينمائية، وهي شخوصٌ يُستمع إلى صوتها ورسالتها بشكل استثنائي، لأنها تأخذ شرعيتها من «قالوا ناس زمان»، وفي ذهنية العامة «ناس زمان» لا ينطقون عن الهوى، بل هم حَمَلة «الحكمة»، حتى ولو كانت «ضالة» و«مُضَلِّلَة».
ويجيء على رأس حاملي لواء الثقافة الشعرية الشعبية المعادية للمرأة الشاعر والزجال والمتصوّف المغربي عبد الرحمن المجذوب، (1503-1568)، ويعتبر هذا الأخير من أكبر الشخصيات المؤثرة في المخيال الشعبي، والمحفوظة والمعروفة والمتداولة أشعاره في شمال أفريقيا بشكل كبير، وقد استطاعت أن تعبر أجيالاً كثيرة وحدوداً جغرافية عديدة أيضاً.
ويجب الإشارة إلى أن المرأة هي أيضاً من تسهم في نقل أشعار سيدي عبد الرحمن المجذوب، أشعار تجعل منها كائناً يجب الحذر منه، فهي أخت الأفعى، وهي غير موثوق جانبها، وهي سبيل الفساد، وهي تتظاهر بالشيء وتُخفي عكسه، ومن أقواله التي لا تزال تتردد في المجتمعات المغاربية حتى الآن:
بُهتْ النساء بُهتين مَنْ بُهتْهُم جِيتْ هاربْ
يَتْحَزْموا بالأفاعي ويتْخَلَّلوا بالعقارب
سوقْ النّسا سوق مَطْيارْ يا الدّاخَلْ ردّْ بالكْ
يْوَرِّيَوكْ منْ الرّبَحْ قنطارْ ويْدِّيوْلَكْ راسم مالكْ
ولعل الطابع الصوفي الديني الذي انطبعت به شخصية عبد الرحمن المجذوب في الكتب الشعبية وفي الحلقات العمومية، هو ما كرّس حضور أشعاره بين الناس، بل أوصلها إلى حافة الوحي، فكلام الولي الصالح في عيون العامة وفي فهمها، وهو الاسم الذي أطلق على عبد الرحمن المجذوب، فأزجاله وبخاصة رباعيته أضحت شبيهاً بالوحي، وفي منطق العامة، فهذا الولي الصالح لا ينطق عن الهوى، وبالتالي أقواله هي رسائل غيبية يجب الاستماع إليها وحفظها وتطبيقها وتداولها.
وكلما كان المجتمع عرضة للوعي الزائف سياسياً ودينياً وغابت الثقافة التنويرية عنه تفاقمت في المقابل الثقافة التراثية المتخلّفة، وتكرّست لدى الأفراد والجماعات والمؤسسات.
وأعتقد أيضاً أن المجتمع الذكوري يشجّع هذه الثقافة الشعبية المعادية المرأة وحريتها، ويعمل بوعي أو بلا وعي على تفريخها ونشرها وحمايتها والاحتفاء بها، لأن في وجودها يحفظ تناسخه وتناسله الأيديولوجي والاجتماعي والجمالي، وبالتالي تعميق هيمنته الجنساوية.
سفر الطاعة
يغرق المجتمع العربي والمغاربي أيضاً في نصوص تراثية شعبية كثيرة متداولة بشكل واسع بين العامة يتم من خلالها تكريس أيديولوجيا الطاعة والخنوع والقطيع، إذ يجد الإنسان نفسه محاصراً في مجتمع يدفع به بكل عنف ثقافي ورمزي إلى الانخراط في سلوك «القطيع» والانتماء إليه والدفاع عنه بشراسة، بحيث يتنازل المواطن عن «فكره» جزئياً أو كلياً لصالح غيره، يُرسل «عقله» إلى سلة المهملات أو إلى التقاعد المبكر، ويضع نفسه رهينة أيديولوجيا «الطاعة»، إذ يتولى الآخر التفكير بديلاً عنه، يقرر عوضاً عنه، يحدث كل هذا بإيعاز وضغط من هذه الثقافة الشعبية التراثية السلبية، المستندة إلى المقولة السيارة «قالوها ناس زمان»، التي تعمل على نسخ المستقبل والحاضر على صورة الماضي، ونسخ الخلف على السلف دون مراجعات ولا إضافات ولا نقد.
وتستثمر الأنظمة الديكتاتورية والثيوقراطية في هذه الثقافة الشعبية الضاربة في المجتمع من أجل مزيد من التحكّم في مصير المجموعات البشرية، ومن أجل الإبقاء على نظام سياسي معين قائم على «العبودية» و«الاستعباد»، وأيضاً من أجل تدوير فكر الطاعة للأنظمة الجديدة.
إن المجتمعات التي تغيب عنها الثقافة التنويرية المحمولة عبر مختلف الوسائط: الكتاب والسينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، يتم التحكم في أفرادها وبسهولة من خلال الاستثمار في الثقافة الشعبية السالبة والسلبية. ما في ذلك شك، هناك ثقافة شعبية إيجابية تعمل على شحذ الوعي الجماعي بشكل كبير، لكنها تعيش حالة إقصاء أو مطاردة من قبل الأنظمة التي يهمها الترويج للثقافة الشعبية (الأمثال والحكم) الداعية إلى فكر الطاعة السلطانية دون نقد، طاعة الإمام دون فهم كلامه، ولذا فالطاعة القائمة على الثقافة الشعبية تنتج مجتمعاً مشكلاً من «منسوخات» بشرية معطوبة فكرياً.
إذن، حذار من فخ الثقافة الشعبية.
نقلا عن: إندبندنت عربية