«رأيت شعبنا على حقيقته: فقيرا متديناً، لكنه يحب الفرح والعمل.. وفي اليوم الذي توجني فيه الكهنة شريكة في الحكم، لابد أن يكون كل فرد من أفراد الشعب قد وجد عملاً يشعر بالفخر عندما يؤديه، ويستحق عنه مقابلاً أو أجراً يُشعره بالكرامة والاستقلال.. حلمي الكبير أن أرى ابتسامة السعادة على وجه كل إنسان في بلدي». هكذا تحدثت «حتشبسوت» بطلة رواية «سر ملكة الملوك» لرائد «أدب الأطفال» يعقوب الشاروني، التي حاز عنها جائزة أفضل مؤلف للأطفال من اللجنة العليا لجائزة المجلس المصري لكتب الأطفال عام 2007.
ليس أدل على أهمية يعقوب الشاروني في مجال «أدب الأطفال» من حرص الأديب الكبير توفيق الحكيم على تزكية طلب حصول الشاروني لمنحة تفرغ للكتابة الأدبية للأطفال عام 1963حيث أشار إلى طلبه بقوله «أزكي هذا الطلب بكل قوة لما أعرفه عن السيد يعقوب الشاروني من موهبة تجلت في مسرحية (أبطال بلدنا) التي ظفرت بالجائزة الأولى في مسابقة المجلس الأعلى للفنون والآداب».
يعقوب الشاروني واحد من هؤلاء القلة الذين أبدعوا في مجال «أدب الأطفال» وقد بلغ عدد الكتب التي كتبها للأطفال والطلائع نحو «400» كتاب، نهل فيها الشاروني من نبع القصص التاريخية والأساطير والحكايات الشعبية ما جعله مؤهلا للتواصل مع عالم الأطفال المدهش البديع.
قناع التاريخ
اعتمد الشاروني في تواصله مع عالم الأطفال على العديد من الأقنعة منها ما يرتبط بالقصص التاريخية ومنها ما يرتبط بعالم الأساطير والتراث الشعبي، وتتجلى تقنية استخدام القناع التاريخي في العديد من الأعمال لعل أبرزها «سر ملكة الملوك» و«أبطال بلدنا».
تدور الأحداث في «أبطال بلدنا» أثناء حملة الملك لويس التاسع على مصر عام 1250م حول ثلاث نساء، هن «شجرة الدر» زوجة الملك نجم الدين أيوب التي أخفت خبر موته عن الجنود أثناء المعركة، وجمعت المماليك لصد هجمة الصليبين ومن ثم الانتصار عليهم في موقعة المنصورة.
أما المرأة الثانية فكانت «قطر الندى» وهى الفتاة المصرية حبيبة المناضل بدر الدين، التي اختطفها الفرنسيون وحاولوا شراء ولائها، لكن دون جدوى، لتنقذها المرأة الثالثة «الملكة مرجريت دي بروفنس» زوجة الملك لويس التاسع، والتي افتدت زوجها وأصرت على الوقوف بجانبه رغم هزيمته. ثلاث نماذج من النساء قدمهن الشاروني باستخدام القناع التاريخي في محاولة منه لتقديم النساء بوصفهن قائدات مبادِرات متفانيات مخلصات.
https://youtu.be/ce9ZFmZd5JA
كذلك الحال بالنسبة لقصة «سر ملكة الملوك» حيث تدور أحداثها في قالب تاريخي حول الملكة حتشبسوت ودورها كقائدة ساهمت في بناء الدولة المصرية وتجلى حلمها الكبير فيما عبرت عنه بقولها: «حلمي الكبير أن أرى ابتسامة السعادة على وجه كل إنسان في بلدي»
تأتي رواية «تائه في القناة» للشاروني في ذات السياق، وهى تعد من أهم وأجمل القصص التي قدمت للأطفال وأرخت لفترة حفر قناة السويس، وتدور في إطار قصصي اجتماعي شيق، تحكي قصة فلاحة فقيرة تكد وتكدح من أجل أبنائها، غير أنها تحرم من أطفالها الواحد تلو الآخر نتيجة أخذهم للعمل بالسخرة في حفر القناة، ترصد الرواية الأوضاع الاقتصادية المتردية المترتبة على ترحيل الفلاحين لحفر القناة، كما تكشف أحداثها عن روح التمرد والمقاومة لدى الفلاحين، ويختتم الشاروني روايته بالتأكيد على العمل البطولي الذي قام به الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عند قيامه بتأميم القناة في 26 يوليو عام 1956.
.. والأسطورة أيضا
استخدم الشاروني القناع الأسطوري فى العديد من أعماله كما في «حكاية رادوبيس» ليروي عن الفتاة «رادوبيس» التي اختلط فيها الدم المصري بالدم اليوناني، اختطفها القراصنة وباعوها كعبدة بسوق النخاسة، وحين يصنع لها سيدها صندلاً ثمينا، يأتي الصقر حورس ليأخذ الفردة اليسرى منه، ليطير بها، بينما يجلس الملك «أمازيس» في حديقة قصره، فيسقط الصندل في حجره، فيأمر حراسه بالبحث عن صاحبة الصندل، كي يتزوجها.
إن «حكاية رادوبيس» تشبه في مضمونها «قصة سندريلا»، وكأن الشاروني قد أراد ان يشير إلى أن التراث الإنساني ينبع من ذات المنبع، لا فرق بين التراث العربي أو التراث الغربي أو غيرهما من ينابيع التراث الإنساني.
يستمر الشاروني في الاستعانة بالقناع الأسطوري التراثي، ففي «طيور الأحلام» تدور الأحداث حول «الأميرة حياة النفوس» التي ترفض الزواج من كل الخُطّاب غير أنها قد خلبت لب أمير شيراز شهرمان، فيتنكر في زي تاجر كي يظفر بقلبها، يستفيد الشاروني فى تلك الحكاية بحيلة الإسكندر المقدوني في ترويض فرسه، حيث يلجأ الفارس الملثم إلى ترويض فرسه الجامحة بجعلها تنظر إلى الشمس حتى يقع ظلها خلفها، وهو ما ينم عن شجاعة وذكاء معا.
يواصل الشاروني الإستعانة بالتراث في قصة «حسناء والثعبان الملكي» حيث تدور الأحداث في إطار سحري خيالي، عن ثعبان يظهر لحسناء فينقذها من حية الطريشة السامة الخطيرة، ويبرز في هذه الحكاية التسليم بالمعتقد الشعبي الشائع بالمناطق الصحراوية الذي يحض على عدم إيذاء الثعبان أو بيضاته خشية عودته منتقما.
«تنحني حسناء في هدوء على الأرض.. رسمت في الرمال سبعة خطوط أفقية بينها وبين الثعبان الكبير وهى تقول: هذه حدود الله بيني وبينك».
تأتي قصة «مغامرة زهرة مع الشجرة» كنموذج يمتزج فيه الخيال بالواقع، فالراوي شجرة عجوز تروي لشجرة شابة عن حكاية الفتاة زهرة التي تحدت وكيل أحد المقاولين ومعه المنشار، حيث يقوم بقطع الأشجار، وكيف تصدت له الفتاة الصغيرة لتدافع عن الشجرة وسائر الأشجار التي يتم قطعها بحجة أن «السوس» قد أصابها.
تحشد زهرة سيدات القرية ليكتشف الجميع فساد ذمة وكيل المقاول، وكذبه بشأن سوس الأشجار، لتأتي العبارة الأهم بالقصة على لسان أم زهرة: «لن نسمح بقطع أي شجرة أخرى بعد الآن» وتأتي لحظة الذروة ممثلة في صيحة زهرة: «عاشت الشجرة .. يسقط المنشار».
ابن الروضة والنيل
مثلما برزت القصص التراثية والحكايات الأسطورية، برزت بيئة وأجواء القرية فى العديد من قصص يعقوب الشاروني على رغم من نشأته القاهرية، فكيف تمكن هذا القاهري من التواصل مع عالم القرية بمعتقداتها ومشكلاتها؟ والأهم من ذلك كيف نجح الشاروني في التواصل مع عالم الأطفال الخيالي السحري؟
لعل التعرف على نشأة يعقوب الشاروني يحمل إجابة على تلك التساؤلات، حيث ولد الشاروني في العاشر من فبراير من عام 1931، ببيت كبير تحيط به حديقة واسعة، يطل على نهر النيل بجزيرة الروضة.
بالبيت مكتبة كبيرة يملكها الوالد الذي كان يهوى القراءة، فيما كانت الأخت الكبرى تروي ليعقوب وإخوته الصغار العديد من الحكايات مثل: «سندريلا .. ذات الرداء الأحمر .. الجميلة والوحش .. الجميلة النائمة».
وفى قريته «شارونة» على شاطىء النيل بمحافظة المنيا، كان الشاروني يقضي اجازة الصيف كل عام بصحبة الجدة التي كانت تروي له مختلف الحكايات الشعبية مثل: «عقلة الإصبع .. نص نصيص» وغيرهما من الحكايات الشعبية التي استلهم منها الشاروني إبداعاته سواء فى قصص الأطفال أو العديد من المسرحيات التي قدمت على مسرح العرائس.
أحب الشاروني حياة القرية، ما جعله يكتب عددا من أفضل رواياته القصيرة للأطفال كان منها «سر الإختفاء العجيب» التي حاز عنها جائزة أفضل كتاب للأطفال عام 1981.
التحق الشاروني بكلية الحقوق وشارك في إصدار مجلة الرجاء، كما سافر في بعثة من قبل وزارة الثقافة إلى فرنسا خلال عام 1969، تجول خلال تلك الفترة فى العديد من البلاد الأوربية، زار المتاحف والمسارح وتابع عروض السينما وبيوت الثقافة.
تولى رئاسة المركز القومي لثقافة الطفل خلال الفترة من عام 1981 حتى عام 1991، وكان له منذ عام 1982 ركن خاص بالأطفال بصحيفة الأهرام يحمل عنوان «حكاية أعجبتني .. وألف حكاية وحكاية».
شارك الشاروني في سلسلة «المكتبة الخضراء» وسلسلة «مكتبتي» وسلسلة «يحكى أن»، كما شارك فى سلسلة «أجمل الحكايات الشعبية» وسلسلة «ألف حكاية وحكاية».
اهتم الشاروني فى مختلف أعماله بتناول دور المرأة ورصد مظاهر التغير فى المجتمع، والفروق بين الطبقات الإجتماعية. هنا يمكن الإشارة إلى أن حرص الشاروني على الإعتماد على القصص التاريخية والتراثية سواء كان تراثا عربيا أو عالميا لم يمنعه من تقديم صورة واقعية للمرأة المعاصرة بوصفها شخصية فاعلة قادرة على مواجهة المشكلات المجتمعية التي تواجهها على إختلافها وتنوع أنماطها.
حملت قصص الشاروني الكثير من التحذير والتنبيه للصغار من مغبة الكسل والخوف واليأس والغضب والغرور والسرقة والكذب والعنف وغيرها من السلوكيات السلبية التي لا تتفق مع القيم المجتمعية النبيلة.
في المقابل حرص الشاروني على تقديم العديد من القصص التي تحمل عناصر جمالية من الدعوة للتشجير والحفاظ على النباتات والزهور، والإحساس بالجمال والنظافة، إلى جانب ضرورة التمسك بالقيم الدينية والسمات الإجتماعية الإيجابية ،من صداقة وتضحية وتعاون وتحمل للمسئولية وإحترام وتقبل للآخر.
المصادر:
- هالة الشاروني (إعداد وتقديم)، سحر الحكاية في أدب يعقوب شاروني القصصي (مجموعة دراسات)، دار العلوم للنشر والتوزيع، عام 2015.
- إيناس أحمد عبد العزيز زكي، المضامين التربوية في كتابات بعض أدباء الأطفال في مصر، رسالة دكتوراه، كلية تربية، جامعة حلوان.