مختارات

إلى أين يقود «الفقر المائي» أفريقيا؟

دائماً ما تُدهشنا قارتُنا الأفريقيَّة بقدر ما تحمله من مفارقات وتناقضات، فهي الأغنى من حيث الموارد، لكن شعوبها من الفقراء وربما الجوعى، وهي زاخرةٌ بكل أنواع الموارد الطبيعيَّة التي يتكالب عليها العالم، لكنها فقيرة جداً بالموارد المائيَّة التي هي أهم احتياجات الإنسان.

ولعل هذه المفارقة هي ما جعلت مدينة مراكش المغربيَّة تحتضن القمة الدوليَّة الأخيرة للمياه مطلع هذا الشهر بتعاون بين وزارة اللوجستيك والمياه المغربيَّة والمعهد الدولي للماء والبيئة والصحة بجنيف، وذلك في خطوة تحضيريَّة للمؤتمر العالمي التاسع للمياه الذي سيُعقد في داكار بالسنغال مارس 2021.

الأمن المائي

بطبيعة الحال كان للأزمة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة أصداء مؤثرة، إذ سيعقد المجلس العالمي للمياه اجتماعاً لمحافظيه السبعين بالقاهرة خلال أكتوبر أيضاً، كما سيطر الموضوع على النقاشات الجانبيَّة في الكواليس، وتساءل الجميع: ما العمل لتطويق الأزمة؟

الحساسيَّة البالغة للأمن المائي تدفع حالياً إلى ربطه في علاقة عضويَّة مع السلم الاجتماعي والتنميَّة الاقتصاديَّة، ولعل ذلك ما يجعل من الأزمة بين مصر وإثيوبيا مؤثرة على الأمن الإقليمي كلياً والأمن الدولي جزئياً، ذلك أن المصريين وصلوا إلى حد الفقر المائي بنصيب لا يتجاوز 500 متر مكعب من المياه، بينما تصنّف إثيوبيا نافورة للمياه الأفريقيَّة، وهو أمرٌ يتطلب التعاون لا الصراع، والحاجة إلى تنسيق السياسات، خصوصاً مع ارتباط ملف المياه بملفات الطاقة، والأمن الغذائي، فضلاً عن تغيّر المناخ.

الحاجة إلى الابتكار

هذه التحديات الجماعيَّة في أفريقيا تفرض الحاجة إلى المعرفة والابتكار في مجال الماء، ولعل ذلك هو ما دفع المعهد الدولي للماء والبيئة والصحة إلى تكثيف جهوده في هذا المجال، وذلك بتشجيع الابتكار في مجالات خفض الاعتماد على الموارد المائيَّة، وترشيد استخداماتها. من هنا قدَّم جائزته لهذا العام على هامش قمة مراكش إلى شركة مصريَّة شبابيَّة تقدم تكنولوجيا ما يسمى (الإيكو) لبناء مدن ذكيَّة تستخلص الماء من الندى، وتعتمد على الطاقة الشمسيَّة، ويتضاءل فيها اعتماد قاطنيها على إمدادات المياه والطاقة، وهو ما جعل هذه الشركة تحظى برعايَّة حكوميَّة في كل من مصر والمغرب، باعتبارها رائدةً في مجال جديد.

ولعل ما طُرِحَ أيضاً في فعاليات مؤتمر مراكش من أفكار حول الحوسبة السحابيَّة في المجال المائي، وتطوير آليات التدبير الفعّال للمياه على مستوى الأحواض، هو ما يلفت النظر، إذ تبادل عدد من الدول الخبرات في هذا المجال، وأبرم كل من فنلندا والمغرب مذكرة تفاهم بهذا الصدد، إذ تهتم الأخيرة بمسألة المياه إلى حد أن أنشأت في مراكش متحفاً للماء ربما يكون الأول من نوعه في أفريقيا والشرق الأوسط، وهو يشرح تجربتها التاريخيَّة في الحفاظ على الماء والأدوات المستخدمة في ذلك.

هلع عالمي

وربما يبرر لنا الهلع العالمي بشأن الماء هو تقرير منظمة اليونسيف لـ2017، الذي يقول إن 11% من سكان العالم، (أي 844 مليون شخص)، لم يتمكنوا من الولوج إلى الماء في عام 2015، وإن ثلثي سكان العالم سيعيشون، وفق منظمة الأمم المتحدة، في ظل وضعيَّة ضغط المياه في أفق 2025.

معضلة المياه في أفريقيا سببها تغير المناخ بطبيعة الحال وزيادة مساحات التصحر، حتي إني رأيت بأمّ عيني تراجع الخضرة، ومن ثمَّ الحيوانات في غابات زيمبابوي في مشهد يُدمي القلب، وأخيراً نعرف أن جنوب أفريقيا تفرض على مواطنيها عدم تجاوز الـ20 لتراً استعمالاً للماء يومياً، وإلا فالكارثة تنتظر الجميع في عام 2020.

أمَّا تقديرات منظمة الأمم المتحدة فتقول إن أكثر من مليوني شخص يموتون سنوياً بسبب الأمراض المتعلقة بالمياه حول العالم، ونسبة 60% فقط من سكان أفريقيا جنوب الصحراء البالغ تعدادهم 680 مليوناً يحصلون على إمدادات المياه الآمنة.

المواطنون في 13 دولة، 9 منها في أفريقيا يحاولون العيش على متوسط أقل من 10 لترات (2,6 غالون) للفرد يومياً، وهو وضع محبط حقيقة، وطبقاً لبعض التقديرات فإن الفقر المائي لا سبيل للخلاص منه على المستوى المنظور بالنسبة إلى هؤلاء المواطنين الذين يعيشون في غامبيا وجيبوتي والصومال ومالي وموزمبيق وأوغندا وتنزانيا وأريتريا.

وبطبيعة الحال يؤثر نقص المياه في أفريقيا على أهم الأنشطة الإنتاجيَّة فيها، ألا وهي الزراعة، التي تكتسب أهميَّة مركزيَّة بالقارة، لأنها تمثل نحو 35 من الناتج الإجمالي، وتشكّل 40 من صادراتها، كما تستوعب 70% من فرص التوظيف وطبقاً لخطة الاتحاد الأفريقي 2013 – 2063 فإن الزراعة يجب أن تكون القوة المحركة للنمو في المناطق الريفيَّة، حيث يعيش 70% من الفقراء.

البحيرات العظمى المخزون الأهم

وربما يكون أهم مخزون للمياه بالقارة الأفريقيَّة هي البحيرات العظمى، وهي مجموعة من البحيرات العَذْبة، مثل بحيرة فيكتوريا التي يَنبع منها نهر النيل، تشكّل ثاني أكبر بحيرة مياه عَذْبة في العالم من حيث مساحة سطحها، وهناك بحيرات أخرى أصغر حجماً، وهي بحيرات: تشاد، ومالاوي، وتوركانا، وألبرت، وكيفو.

وتتوسَّط البحيرات العظمى الدول الآتيَّة: بوروندي، ورواندا، والشمال الشرقي للكونغو الديموقراطيَّة، وأوغندا، وشمال غرب كينيا، وتنزانيا، كما تُحيط بدول زامبيا، ومالاوي، وموزمبيق.

مع الأسف هذه الوفرة المائيَّة نسبياً في شرق أفريقيا لم يُتعامل معها حتى الآن في إطار تعاوني، لكن تُوظّف في أطر من الصراع، أول مرحلة منه تمت تحت رايَّة الاستعمار التقليدي الذي مزَّق هذه الدول وبعثرها في تركيبات حدوديَّة أثمرت صراعات مسلحة ما زالت ممتدة حتى اللحظة الراهنة، خصوصاً في شرق الكونغو وأوغندا وجنوب السودان، وهي مناطق كان من المفترض أن تكون محلاً لمشروعات مائيَّة كبرى تضيف إلى حجم المياه القابلة للاستخدام في نهر النيل إلى ما يزيد على نصف حجم الاستخدام الحالي، البالغ 82 مليار متر مكعب من المياه.

أمَّا المرحلة الثانيَّة من الصراع على المياه فتتم حاليا بهندسة غربيَّة إسرائيليَّة مشتركة، وهي محاولات ومشروعات تسعير وبيع المياه التي تسعى إثيوبيا إلى تحقيقها بآليَّة سد النهضة.

أمَّا مناطق شمال ووسط وغرب أفريقيا فهي الأكثر فقراً من حيث المخزون المائي، فدولة مثل ليبيا مثلاً تعتمد على المياه الجوفيَّة بنسبة 95٪، ومياه الوديان بأقل من 3٪، ومياه التحليَّة 1.4٪، وهي في المركز الـ15 عالمياً على لائحة الدول التي ستواجه أزمة مياه حادة خلال السنوات المقبلة، وذلك على الرغم من أنها أنفقت نحو ستة مليارات دولار لنقل المياه الجوفيَّة من مناطق الجنوب الليبي إلى مدن الساحل، وإذا كان تغير المناخ والتصحر مسؤولَين عن صراعات مسلحة في أفريقيا فإن الأزمة في دارفور غرب السودان إحدى محطات هذا النوع من الصراعات، الذي كان إغارة قبائل الرعي على القبائل المستقرة بالزراعة أحد مسببات هذا الصراع، وليس كلها بطبيعة الحال، الذي لعب فيه الصراع على السلطة بين الإسلاميين في الخرطوم أدواراً إضافيَّة في اتساع حجم الصراع الممتد حتى اللحظة الراهنة.

ممارسات بشرية غير مسؤولة

والإنسان الأفريقي نفسه له دورٌ في تعميق آثار هذا الجفاف والتصحر بممارساته غير المسؤولة، مِثل قطع الأشجار، وإزالة الغابات، وزيادة استهلاكِ الماشيَّة للمراعي، واستعمال الوسائل الخاطئة أو غير الجيدة في حصاد المزروعاتِ، التي تُقلِّل من احتفاظ التربةِ بالمياه، والعمل بأساليب خاطئة في استخدام التربة، كالإفراط في الزراعة، ويؤدي هذا كله في النهايَّة إلى جدْب الأرض وجفافها، كما أن سوء إدارة الموارد المائيَّة والإدارة الزراعيَّة يتسببان في إهدار كميَّات عظيمة من المياه، وإقفار الأرض، ما نَتَج عنه أزمة غذاء أدَّت بدورها إلى حروب وقلاقل حصدت أرواحاً لا حصر لها في العقود الأخيرة.

ولعل الحالة والنموذج الذي يشار إليه في هذا المقام هو بحيرة تشاد التي تعد واحدة من كبرى بحيرات أفريقيا، لكنها تقلَّصت في السنوات الماضيَّة بسبب سوء الممارسات الزراعيَّة والرعويَّة، وتقلُّص البحيرة أدى إلى زيادة التوترات بين الرعاة والمزارعين وصائدي الأسماك في الدول الأفريقيَّة الأربع التي تُطِل عليها، وكانت مساحتها في الستينيات 25 ألف كيلومتراً مربَّعاً من المياه، لتَفقِد اليوم 90% من مياهها بسبب الجفاف والتصحر وغياب الإدارة الحكوميَّة للمياه.

أمَّا في شرق القارة فخسرت كينيا ما يزيد على 3 مليارات دولار في العقد الأول من القرن الـ21 بسبب الجفاف، وهو مبلغ ضخم إذا ما قُورن بإجمالي الدخل القومي للبلاد.

وبطبيعة الحال نقص المياه لديه انعكاسات مباشرة على الأوضاع الصحيَّة للأفارقة، فعلى سبيل المثال أصيب أكثر من 10 آلاف شخص بالكوليرا التي تَنتشِر عن طريق المياه الملوثة، وذلك عندما انتشرت في جنوب القارة عام 2001، ورُصدت مجدداً في مناطق شرق السودان حالياً.

ومع الأسف فإن تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أنه من المتوقَّع أن تَفقِد أفريقيا ثلثي أرضها الصالحة للزراعة بحلول عام 2025، ويؤدي جفاف الأرض حالياً إلى خسارة أكثر من 3% سنوياً من إجمالي الدخل القومي من الزراعة في دول جنوب الصحراء الأفريقيَّة.

كل هذه المعطيات تشير إلى أن مشكلة المياه في أفريقيا هي قضيَّة حياة أو موت لكل الأفارقة من الشمال إلى الجنوب، حيث تظل المياه هي شريان الحياة الذي يمد دول القارة بسبب وجودهم، ومع ارتفاع حرارة الأرض، وتقلُّب مواسم الأمطار، وإمساك السماء مياهها، ومع ازدياد عدد سكان القارة، وزيادة عدد الماشيَّة، سوف يتحوَّل الجميع إلى البحيرات والأنهار لإرواء ظمئهم، وتظلُّ منسوبات تلك الأنهار والبحيرات في انخفاض، وهو أمر يكثف الأعباء على الدول ومنظمات المجتمع المدني الأفريقيَّة والعالميَّة العاملة في هذا المجال.

نقلا عن: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock