مثّل رحيل الدكتور سعيد اللاوندى المفكر والخبير فى الشؤون الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، خسارة فادحة للساحة الثقافية والفكرية والصحفية فى مصر. فقد كان اللاندوي نموذجا للمفكر الذى يحترم ذاته، ويكتب بعيدا عن أية مصالح وحسابات خاصة، و قد حصل الراحل على دكتوراه الدولة فى الفلسفة السياسية من جامعة باريس عام 1987، وقدم برامج سياسية وثقافية فى إذاعتى مونت كارلو والشرق، فضلا عن كونه مثقفًا موسوعيًا بارزًا، ظل لما يقرب من عشرين عامًا قبلة للمثقفين والكتاب بمدينة باريس حيث كان يعمل ويقيم.
الكاتب خالد حماد مع الراحل «سعيد اللاوندي»
أتت كتابات «اللاوندي»، سباقة في تأويلاتها وتحليلاتها، ومنها « كتابه الشهير: «الإسلاموفوبيا.. لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟»، وكتابه: «بدائل العولمة.. أوجاع مصرية»، وكان من أوائل من تنبأوا بالهيمنة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
و قد كان من حسن حظي أن ألتقي الدكتور سعيد اللاوندي، قبيل مرضه الأخير ضمن مشروعي الذي أعمل على توثيقه، تحت عنوان «المكتبة والكتب»، هاتفته مترددًا لأضرب موعدًا معه، وبالفعل استقبلني في مكتبة بيته، وكان رحمه الله ودودًا لأبعد مدى، قضيت جلستي معه في متعة مدهشة، بوجبة مبهرة من الثقافة والحضور، فضلا عن ذكرياته مع المكتبة والكتب.
عن الكتابة والكتب
وقتها بادرنى اللاوندى قائلا: بداية أشكر حماسك للفكرة، لأنها ذاتها تذكرني بحماسي منذ زمن فات بفكرة مشابهة حول لماذا نكتب؟ قابلت وقتها محمد أركون، ورجاء النقاش، وأحمد عبد المعطي حجازي بباريس، وقد كان سامي خشبة مسئولا آنذاك عن القسم الثقافي بالاهرام، ومعه الكاتب والشاعر محمد حربي، تحمسا للفكرة، وأرسلت لهم مجموعة من الحوارات تصلح لأن تكون كتابا حول الكتابة، ولكن مع الأسف لم ينشر الكتاب، لدرجة أن محمد أركون علق على الواقعة.
أحمد عبد المعطي حجازي، محمد اركون، رجاء النقاش
ووجدتنى أسأله: هل يجيد أركون الكتابة والحديث بالعربية؟
وجاء رده بأن أركون أحد عشاق العربية، كان يتحدث بها بطلاقة، وهذا مالا يعرفه الكثيرون عنه، كنا نجلس بالساعات ليتحدث بالعربية، نفس الأمر مع طاهر بن جلون، فهو يتحدث بالعربية وعندما يشعر بالتعب يتحدث الفرنسية.
وعن أهم من قابلهم من المصريين والعرب في باريس، لفت إلى لقائه بكل كتاب المغرب والجزائر، مؤكدًا أن مالك بن نبي أصبح صديقه، وهو مهندس ميكانيكا، مؤكدًا أن بن نبى كان يعتبر نفسه مصريا.
وأضاف «اللاوندي»: قابلت فى فرنسا المفكر «جاك بيرك»، وهو أشهر من ترجم معاني القرآن الكريم باللغة الفرنسية، كان يقطن بأحد ضواحي باريس، و يتحدث اللغة العربية بطلاقة، وهو شخصية مهمة ولم تُستَقْبل ترجمته لمعاني القرآن الكريم بشكل جيد، فكان حزينا جدا، لدرجة أنه أرسل لمشيخة الأزهر، وقت تولي الشيخ جاد الحق المشيخة، وقد قوبلت رسالته بالتجاهل في الوقت الذي تمت دعوته من الجزائر وبعض الدول العربية الأخري، المثير أنه أوصى زوجته عند رحيله، بوضع القرآن الكريم وكتابه فى ترجمة معانيه بالقبر إلى جواره في حالة وفاته، وسألته لماذا؟ قال لكى ألقى بهما وجه الله، عاش جاك بيرك على مدى 20 عامًا مشغولًا بترجمة معاني القرآن الكريم، وعندما انتهى منها، لم يقابل مشروعه بالإنصاف، وهوجم من قبل العديد من الأكاديميين المصريين للأسف الشديد
المفكر «جاك بيرك»
وأضاف اللاوندى: طلب مني سامي خشبة التواصل مع جاك بيرك لاستضافته بمصر، وكان السبب وراء الدعوة هو احتفال مصر بالإمام محمد عبده، وكلمت بيرك ونقلت له الدعوة لكنه رفض، لسببين، الأول سنه الكبيرة، وثانيهما الهجوم الذي تعرض له من البعض فى مصر على خلفية ترجمته لمعانى القرآن الكريم
وعن الكتاب الذى كان يعود إليه دائما قال سعيد اللاوندى: إنه كتاب «تجديد الفكر العربي» لزكي نجيب محمود، وقد كان زكى نجيب محمود، أحد أبرز المفكرين الذين أثروا فيه تماما، وأضاف: كنت أقرؤه وأتمثل مقولاته، ومنها ما كان يقوله: «أقرأ ساعة وأتأمل 3 ساعات، كنت أفعل بمحبة ومعرفة.
وأضاف: قد تندهش أن والدي كان فلاحا، لايعرف القراءة ولا الكتابة، وبيتنا كان خاليا تماما من الكتب، لكن ما كان يحدث هو أننى كنت انتظر كل عام الكتب المدرسية في عهد عبد الناصر، وأتذكر منها الأيام، كنت نهما وشغوفا بالقراءة، لدرجة أن الأمر تطور معي، فطلبت نقودا من والدي بغرض شراء الكتب، وكان أول كتاب اشتريته تحت عنوان «نصف مليون دقيقة في استراليا»، عن فرقة موسيقية كانت قد ذهبت لاستراليا، و ثم اشتريت رواية لنجيب محفوظ. وأضاف اللاوندى: تأثرت برفاعة الطهطاوي جدا، و قابلت بهاء طاهر في يوم من الأيام بجنيف، وكنت أقوم بعمل برنامج إذاعي هناك، قال ليّ إنك قصاص محترف، وشجعني، وقال ليّ أنا متابع ما تقوله في الإذاعة يوميا.
أيام فى باريس
وعن تجربته فى فرنسا قال اللاوندى: أنا خريج اقتصاد وعلوم سياسية، تخرجت في الجامعة وقضيت الخدمة العسكرية، وقررت الذهاب إلى إيطاليا، ولكن غيرت قرارى وسافرت إلى باريس على حسابي الخاص، ذهبت إلى باريس وليس معى كتاب واحد، دخلت إحدى المكتبات، وجدت كتب عبد الرحمن بدوى وكلها كتب فلسفية، وأنا دارس للاقتصاد والعلوم السياسية، وربما كان ذلك الموقف هو ما غير مسار اهتمامي إلى دراسة الفلسفة، الكتاب في باريس بالنسبة لي، زادت قيمته، خاصة أن الكتاب في يد كل فرنسي، هذا ما شاهدته بفرنسا أثناء الدراسة بجامعة السوربون.
قرأت الحكيم كله بباريس، ودراستى ليست لها أى علاقة بالبيئة التى نشأت فيها نهائيا، لم أقرأ هنا في مصر، قراءاتي كانت كلها نتاج الإقامة والدراسة بباريس، مشيرًا إلى أن والدته كانت كلمة السر في سفره إلى الخارج واستكمال دراسته، وأنها وقفت فى صفه أمام إخوته لكي يسافر، وعمل مراسلا صحفيا للأهرام بالصدفة، بعد مقابلته لشريف الشوباشي مصادفة وعرض عليه الأمر ووافق.
عربة قمامة تأخذ مكتبتي
وبابتسامة ساخرة، يحكي اللاوندى عن أصعب المواقف التى واجهته فى باريس فيقول: شوارع باريس كانت مقسمة ما بين الشعبي والراقي، وكنت أسكن فى منطقة شعبية وأردت أن أنتقل إلى منطقة أخرى، وجمعت مكتبتى في أكياس سوداء، واغلبها كانت كتبا فى الفلسفة وجاء أحد أصدقائى بسيارته لينقلنى بسيارته وفى ذروة انشغالنا، وبعد أن وضعنا الأكياس السوداء أسفل المنزل تمهيدا لنقلها للسيارة جاءت عربة قمامة وأخذت الأكياس السوداء وذهبت، وكانت لحظة فارقة في حياتى، وخسارة فادحة أن تخسر مكتبتك.
ويضيف: بعد هذه الخسارة، كان عليّ أن أعود إلى الكتب الفلسفية، وكتب الفكر العربي المعاصر، خاصة أنى حاصل على الدكتوراه في الفكر الفلسفي والاصلاحي عند العقاد، كأحد تلاميذ الإمام محمد عبده.
ويشير اللاوندي إلى أنه تأثر كثير بالعقاد وأنه اشتغل على كتاباته على مدار سبع سنوات، ويقول «عندما تصديت لدراسة العقاد، كان من الضرورى أن أقرأ طه حسين ومن ثم، كان جاك بيرك، أحد أبرز الأصوات التى تأثرت بها في حياتى، وأنجزت كتابا تحت عنوان «محاكمة جاك بيرك»، وكان بيرك يقول ليّ: إن العرب يعيشون مرحلة من أسوأ مراحل تاريخهم، إنهم يشبهون من يتسلق جذع شجرة وهناك من يحاول قطع هذه الشجرة “…
وبهذه الكلمات الموجعة لجاك بيرك عن العرب وأوضاعهم، أنهى الدكتور سعيد اللاوندى حواره المهم والكاشف.. ثم رحل.. رحمه الله