في كثير من الأعمال السينمائية الهامة نجد أن الأدوار المساعدة تطغى بموهبة أصحابها على أدوار البطولة، بل إن تلك الأدوار التي تصنع ما يمكن تسميته بالظلال الناعمة- هي ما تمنح تلك الأعمال أسباب تفردها وروعتها. لذلك فإنه ليس من قبيل التجاوز القول إن كثيرين من ممثلي الأدوار المساعدة هم الأعمدة القوية التي تحمل العمل السينمائي إلى القمة بملء هذه المساحات الصغيرة المتاحة بمخزون هائل من الإبداع والموهبة، ربما لا يكون متوفرا لدى أصحاب الادوار الأولى. هؤلاء المبدعون من أصحاب الأدوار المساعدة لا يتوهجون ذلك التوهج السريع الذي ما يلبث أن ينطفئ؛ لكنهم يلمعون على مهل، ويتألقون فيم هدوء، تاركين ذلك الأثر العميق في وعي المشاهد الذي يستطيع التمييز بين أداء حقيقي يضفي على الشخصية أبعادها المختلفة، وأداء آخر مفتعل تسقطه الذاكرة بطريقة آلية.. لتحتفظ فقط ببصمات الكبار الضالعين في الفن حد التورط الكامل.
أحد أبرز هولاء المبدعين الموهبين الكبار هو الفنان القدير حسن حسني الذي نحتفل معه اليوم (15 أكتوبر) بعيد ميلاده الثامن والثمانين. فعلى مدار نحوٍ من ثلاثة عقود ظهر اسم الفنان حسن حسني في أكثر من مئة وأربعين فيلما، تراوحت مستوياتها تراوحا كبيرا، هذا بالإضافة إلى أكثر من مئة وعشرين عملا إذاعيا وتليفزيونيا، ونحو ثلاثين مسرحية.. وبالطبع لايتسع المقام هنا للحديث عن كل هذه الأعمال ؛ لذلك اخترنا أن نلقي الضوء على أهم الأعمال السينمائية التي شارك فيها الفنان، وأمتعنا فيها بأداء بديع لاينسى.
«سواق الأتوبيس».. البداية الحقيقية
بالرغم من أن بدايات «حسن حسني» السينمائية تعود إلى أوائل الستينيات، عندما شارك في فيلمي «الباب المفتوح» و«لا وقت للحب» عام ثلاثة وستين، إلا أن بدايته الحقيقية في السينما تأخرت عن هذا التاريخ لنحو عشرين عاما، عندما اختاره المخرج «عاطف الطيب» للقيام بدور «عوني» زوج شقيقة البطل «حسن سلطان» في فيلم «سواق الأتوبيس». ففي هذا الدور قدم «حسني» لونا جديدا من الشر، وهو الشر الذي تحركه الأحقاد القديمة في صمت؛ لكنه لا يعلن عن وجهه مستخدما كل الأدوات للإجهاز على خصمه بعد سلبه كل ما يملك.. بدا «عوني» واقعيا جدا بتفاصيل الملابس البالطو والجلباب والطاقية، وتعبيرات يختلط فيها الخوف والتشفي بالطمع والتجبر.. أبدع الفنان «حسن حسني» في المشاهد القليلة التي ظهر فيها معبرا عن كم هائل من الانحطاط والدناءة أجهز من خلالها على حلم «حسن» في الاحتفاظ بورشة أبيه التي جعلها «الطيب» رمزا للوطن.
وبعد سنوات يقدم «حسني» مع «الطيب» أيضا دور ضابط المعتقل في «البريء» وهي شخصية حرص الفنان على أن تكون بلا ملامح، فالرجل يبدو من هيئته ورتبته وسنه، أنه رُقِّي من «صف ضابط» إلى ضابط.. وهو ما يعني تفانيه في الخدمة وطاعة أوامر قادته، وهي تتضمن كما يظهر في أحداث الفيلم التنكيل بالمعتقلين،وتعذيبهم. وقف الفنان عند حدود الدور بعباراته القصيرة والحادة التي تنطوي على قسوة مفرطة وقلق بالغ في آن، ليجعلنا ندرك ما يمكن أن تحدثه تلك الآلة الجهنمية في نفوس البشر من تشوهات غائرة.
بين الطيب وخان
ومع «محمد خان» يشارك «حسن حسني» في فيلم «زوجة رجل مهم» عام 1987، في دور الضابط الكبير مساعد وزير الداخلية التي تتسبب أحداث 18 و19 يناير عام 1977، في إحالته إلى الاستيداع بعد أن أثبتت جهات التحقيق أن القضايا التي قدمت لها ملفقة ولا تستند إلى أدلة وبراهين حقيقية.. ويبدع «حسني» في مشهد ترقب صدور القرار الذي سيقضي بإحالته إلى المعاش مع الترقية، وفي مشهد إبلاغه للضابط «هشام» الذي قام بدوره «النجم أحمد زكي» بالخبر- حيث مزج «حسني» بين عدة مشاعر منها الرفض لما حدث معه، وفي نفس الوقت التسليم بالأمر الواقع، مع بعض الرضا لأن الامر قد تم احتواؤه.
ثم يعود «حسني» مجددا إلى «عاطف الطيب» في الهروب؛ ليقدم شخصية ضابط الداخلية الكبير الذي ينصاع لمؤامرات يحيكها ضابط تحت إمرته عاد توا من الولايات المتحدة.. ويبدي الضابط الكبير إعجابه بتلك الحيل الشيطانية التي تستطيع الداخلية من خلالها توجيه الرأي العام، والتغطية على ما يشوب أداءها من قصور.
في نفس العام 1991، يقدم مع صلاح أبوسيف دورا من أهم علامات مسيرته الفنية، وهو دور «حمدان الويشي» المتعهد في فيلم «المواطن مصري» في هذه الشخصية يبدع «حسني» من خلال عدة تفاصيل في كشف حقيقة ذلك المزور المخادع الذي نكتشف في آخر الفيلم أنه كان معلما للغة العربية، ويبدو أنه أبعد عن التدريس لأسباب لم يوضحها الفيلم.. يدبر «الويشي» أمر استبدال ابن الغفير بابن العمدة ليؤدي عنه الخدمة العسكرية في زمن الحرب، ويؤكد لنا «حسني» عبقريته في مشهد جمعه مع «العمدة» الذي قام بدوره النجم عمر الشريف، وهو يحاول الحصول منه على أية مبالغ إضافية من المال، فيتفتق ذهنه الشيطاني عن فكرة استخراج شهادة وفاة مزورة لابن الغفير ليؤمن موقف «العمدة» في حال ما عاد الشاب حيا من جبهة القنال وطالبه بحقوقه.
«دماء على الاسفلت» أريقت بلا رحمة في زمن أنشب أنيابه في الأسرة المصرية التي طحنتها عجلة التحولات الاقتصادية التي رصدها «عاطف الطيب» عام1992، واختار لـ «حسن حسني» دور «كامل نور الحسن»” الأب المصري كثير العيال المغلوب على أمره، الذي يعمل «باشكاتب» في وزارة العدل، ويتهم بسرقة ملف من إحدى القضايا، وعندما يعود ابنه الأكبر الذي يشغل مركز مرموقا في الأمم المتحدة لمساعدته؛ يكتشف انهيار الأسرة بالكامل واتجاه إخوته للمخدرات والدعارة والسرقة. يقدم «حسني» هذا الشخصية المقهورة التي تدفعها الظروف الاجتماعية إلى التغافل عن مصدر المال الذي يكسبه أولاده، وهو في حالة تبرير دائم لسلوكه، كما أنه يحس بالظلم وتخلي أقرب الناس عنه، وينحو باللائمة على ابنه البكر الذي تركه وسافر ليحصل على الدكتوراه ويبني مستقبله، بينما كان هو في أمس الحاجة إليه.. وفي مشاهده مع ابنه البكر د.ثناء الذي قام بدوره نور الشريف، نرى «حسنى» في أفضل حالاته مصورا مأساته على نحو لا تستطيع معه أن تدين الشخصية التي صنعت بإهمالها وتهاونها كل هذا الخراب. وقد نال «حسني» عام1993، جائزة أفضل ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي عن دوره في هذا الفيلم.
وفي دور «عبد العظيم القرنفلي» الذي يكسب عيشه من ادعاء الإصابة في حوادث متفرقة يعود «حسني» إلى «محمد خان» عام1993، في «فارس المدينة». ومن خلال أداء بسيط بالغ العذوبة يصل «حسني» بالمشاهد إلى درجة التعاطف الكاملة مع «القرنفلي» الذي سيعطي «فارس» تلك الحياة الهانئة التي لم يستطع نوالها رغم ثرائه، وسيكشف له من خلال فلسفته العميقة أن الحياة لا تستحق كل هذا اللهاث، وأن عليه أن يستمتع بما هو متاح دون طمع.
رائعة رضوان الكاشف
يرى كثيرون أن ذروة أداء الفنان «حسن حسني» تجلت بصورة كاملة مع المبدع الراحل «رضوان الكاشف» في رائعته «ليه يا بنفسج» عام 1993، والذي لعب فيه شخصية الشيخ «عيد» الكفيف الذي يحلم بأن يصبح مطربا مشهورا من خلال عمل شريط كاسيت. في هذا الدور اهتم فناننا الكبير بكثير من التفاصيل التي زعم البعض أنه استوحاها من شخصية الشيخ «إمام عيسى»، ورغم الإحباطات التي يعانيها «عيد» بسبب هجر زوجته له وزواجها من جاره «منصور» وانقطاع الأمل في عودتها بعد أن صارت حاملا- إلا أن «عيد» لا يفقد الأمل، وهو دائما إلى جوار ناسه ،يواسيهم في الأتراح ويشاركهم الافراح، ويرتبط بالأصدقاء الثلاثة أحمد وعباس وسيد، فلا يهتز وجدانيا ولا يتنازل عن حلمه المستحيل، إلا بانفراط عقد الصداقة، وخروج «أحمد» من الحارة؛ فيلجأ إلى الله ولا ينقطع عن الدعاء حتى تعود الأمور إلى سابق عهداها.
القرداتي
لكن الفنان «حسن حسني» يعتبر أن دور «رُكْبَه» القراداتي في «سارق الفرح» لداود عبد السيد هو أحب أدواره إلى قلبه، فهذا القراداتي الذي يتلصص على الناس في أول مشاهد الفيلم، يموت – راقصا طربا – من اقتراب معشوقته الشابة منه بعد أن جعلها ترقص كما لم ترقص من قبل على إيقاع طبله.. ومن خلال مشاهده في الفيلم يقدم «حسني» أداء مبهرا لشخصية القراداتي التي اختفت من مصر ،كما اختفت شخصيات أخرى كثيرة في فوضى الحياة التي صارت تسلبنا كل ما هو جميل.
وفي عام 1996 يقدم «حسني» في «عفاريت الأسفلت» لأسامة فوزي- دور الأسطى محمد الحلاق الذي يعشق الحكي، ويخاف من قصة الحلاق اليوناني الذي كان يحلق للأموات، لكن مخاوفه تتحقق بموت عم «علي» وهو يحلق له، ويروي له حكاية «أبو كُبَّة» و بطريقة شديدة الجاذبية ولا تخلو من طرافة يقص «حسني» في آخر الفيلم قصة الرشيد والموصلي والجارية «مُزْنَة» وينتهي الفيلم بعبارة «ليس لماء الورد عهد، إنما العهد للرخام» وهي نهاية الحكاية التي أبدع في روايتها الفنان الكبير.
إن أعمال الفنان حسن حسني الرائعة في السينما تفوق ما ذكرنا بكثير، لكن المقام لا يتسع لذكرها كلها، وربما يتسنى لنا أن نلقي الضوء على عدة أعمال أخرى لمبدعنا الكبير أطال الله عمره ومتعه بموفور الصحة والعافية.