منوعات

رواية شاهد عيان.. كيف أسس الجيل الأول من الأفغان العرب لظهور «القاعدة» و«داعش»؟

فيكين شيتيريان – خبير سياسي، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة ويبستر (جنيف)

عرض وترجمة: أحمد بركات

تمثل شهادة عبد الله أنس التي طال انتظارها عن الأفغان العرب عملا مهما وجديرا بقراءته  بتعمق  وإمعان يمكن أن يكشف لنا كثيرا مما استغلق علينا فى قضية الأفغان العرب،. تروي هذه الشهادة قصة رحلة طويلة قامت على أساس أيديولوجي، وخاض غمارها شاب انطلق من رحابة الريف الجزائري إلى جبال أفغانستان الوعرة لمحاربة الاحتلال السوفييتي، قبل أن ينتهي به المطاف كطالب لجوء سياسي في إنجلترا، حيث يعيش اليوم.

يتمحور كتاب «To the Mountains: My Life in Jihad, from Algeria to Afghanistan» (إلى الجبال: حياتي في الجهاد، من الجزائر إلى أفغانستان) (2019)، للكاتب والسياسي الجزائري عبد الله أنس، حول فكرة الانحراف الشديد في مسار الحركة الجهادية، التي انطلقت بالأساس من قيم مثالية تقوم على مبادئ  الإيثار و التضحية بالذات.

الشاهد المميز

عبر سرديته، يفكك أنس بعض الأساطير الجهادية، ويُبرز عددا من نقاط الضعف المركزية التي تعاني منها الحركة، مثل الافتقار للقيادة ونقص الوعي السياسي. لكن الكاتب لم يمض بعيدا بما يكفي، ولم يُمِط اللثام عن الأسرار التي كان يتعين عليه الكشف عنها، لأنه لا يزال مرتبكا حيال الأسس التي قامت عليها حركة المجاهدين الأفغان العرب. 

يمكن وصف أنس بأنه الشاهد المميز‘ في هذه القضية الشائكة؛ فقد انضم إلى الجهاد في أفغانستان في وقت مبكر منذ اندلاعه. ويروي الكاتب عبر شهادته قصة ذهابه لأول مرة إلى أفغانستان في بداية عام 1984، حيث قضى أغلب السنوات العشر التالية في داخل أفغانستان، ولم يبرحها إلا في زيارات خاطفة إلى مقر القيادة العامة للأفغان العرب في مدينة بيشاور في باكستان. قام أنس أيضا ببعض الرحلات إلى الولايات المتحدة الأمريكية لجمع الأموال، وشارك في تأسيس «مكتب الخدمات العربية» (ماك)، وهو مؤسسة معنية بتقديم الخدمات اللوجستية للأفغان العرب، كما تولى إدارته لبعض الوقت.

ومن المثير للدهشة – وبخاصة لكثيرين ممن لا يمكنهم حتى الآن أن يتخيلوا حجم التحالفات والانقسامات السياسية في حقبة الحرب الباردة – أن هذا المكتب كان يمتلك 52 مكتبا قانونيا داخل الولايات المتحدة الأمريكية إبان سنوات الجهاد الأفغاني. وفي وقت لاحق، تطور “مكتب الخدمات العربية” “ليتحول إلى قاعدة الجهاد، أو «تنظيم القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن. إضافة إلى ذلك، أقام أنس علاقات وطيدة مع عدد غير قليل من رموز ومنظري الحركة الجهادية، مثل بن لادن، وخطًاب – الذي قاتل وقُتل في القوقاز – كما شهد أبو مصعب الزرقاوي حفل عرسه، وهو ما يضفي أهمية خاصة على شهادته.

ويبدو أن الهدف من هذا الكتاب هو إبراء سمعة الجيل الأول من المجاهدين العرب الذين حاربوا مع الأفغان، وبخاصة عبد الله عزام، وذلك عن طريق فصلهم عن الفظائع التي ارتكبها تنظيم القاعدة لاحقا. في هذا السياق كتب أنس: «بوصفي أحد مؤسسي ’مكتب الخدمات العربية‘»، أتحمل قدرا من المسئولية عن ميلاد هذا الوحش الذي تحول فيما بعد إلى «تنظيم القاعدة‘. لكنني أصر على أنني غير مسئول عن النهج الذي اتبعه التنظيم بعد ذلك»

عبد الله عزام

الأب الروحى

اتخذ أنس في حياته اثنين من المجاهدين على وجه التحديد قدوة له، هما عبد الله عزام، المجاهد الفلسطيني الذي يمكن وصفه بالأب الروحي للمجاهدين العرب في أفغانستان، لدوره المحوري في إصدار فتوى في عام 1979، شارك في توقيعها عدد من العلماء المسلمين البارزين آنذاك، والتي نصت على أن الجهاد في أفغانستان فرض عين على كل مسلم (الأمر الذي يعتبر مستحدثا في أحكام الشريعة الإسلامية التي تنظم قواعد الحرب بعناية تحت سلطة الدولة المسلمة).

وبموجب هذه الفتوى، فتح عزام أبواب الجحيم على مصراعيها، حيث جعل اتخاذ قرار «مَن يقاتل؟» و«أين يقاتل؟» ليس فقط محض اختيار فردي، وإنما أيضا التزاما دينيا يصل إلى حد «فرض العين»، وهو ما أدى إلى ولوج الإسلام السياسي ’نفق‘ الراديكالية المظلم الذي لم يستطع الخروج منه حتى الآن. علاوة على ذلك، -على عكس غيره من الموقعين-، كان عزام حاضرا في منطقة أفغانستان وباكستان، ليقوم بتنظيم المساعدات العربية لجماعات المقاومة الأفغانية. وفي وقت لاحق، تزوج أنس بابنة عبد الله عزام. أما النموذج الآخر الذي اتخذه أنس قدوة له فهو أحمد شاه مسعود، قائد المقاومة الأفغانية.

عندما وصل أنس إلى أرض أفغانستان، لم يكن بها سوى 15 مقاتلا عربيا. كما لم يتوافر بها أكثر من مائة عربي يقاتلون ضد الاتحاد السوفيتي في أي وقت من الأوقات. يخلص أنس إلى أن المجاهدين العرب في أفغانستان «لم يكن لهم أثر واضح على المخطط الكبير للجهاد في أفغانستان»، وأن الجحافل الغفيرة للأفغان العرب لم تصل إلى أفغانستان إلا بعد فبراير 1989، أي بعد عبور آخر جندي سوفيتي جسر دروزبا عائدا إلى الأراضي السوفيتية. كان الدافع وراء استقدام هذه الجموع العربية بتلك الأعداد الكبيرة هو – على الأغلب – محاربة نظام رئيس أفغانستان الأسبق، محمد نجيب الله. بيد أن هذا الطرح يثير بدوره العديد من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت بهؤلاء المجاهدين إلى قطع كل هذه الأميال غاضين الطرف عن أنظمتهم المحلية التي لم تكن تختلف في كثير عن نظام نجيب الله. في جميع الأحوال، تنسف هذه السردية أسطورة دور الجهاديين في تدمير الإمبراطورية السوفيتية.

انقسامات وتشرذم

يتناول الكتاب بالتفصيل الانقسامات العميقة داخل الصف الجهادي الأفغاني، وحالة التشرذم التي أصابت الأفغان العرب منذ وصولهم إلى أفغانستان.   يدرك الشاب أنس أن مشكلة المقاومة الأفغانية لا تكمن في ندرة الأبطال، وإنما في حالة التشرذم والانقسام. في هذا السياق يكتب أنس «أدركت أن الموقف في أفغانستان كان يتطلب نوعا معينا من المقاتلين الذين يتمتعون بقدر كاف من الثقافة، والقادرين على ممارسة التعليم وتقديم المعونات الإنسانية وتوضيح التعاليم الدينية بقدر قدرتهم على ممارسة المساعدة العسكرية. إضافة إلى ذلك، كانت القدرة على قيادة الدولة وممارسة الدبلوماسية ضرورية بنفس القدرة  على إجبار السوفييت على تجرع رصاصات الكلاشنكوف. لكننا كنا صفر اليدين في هذه المهارات جميعا» في هذا الموضع، وفي مواضع أخرى كثيرة، يفشل الكاتب في ملاحظة المخاطر والتشوهات الهيكلية التي ارتبطت باضطلاع الجماعات المسلحة بمسئولية العمل الإغاثي أو التعليم. لكن الأهم في هذا الصدد هو عدم توافر المتطوعين العرب الذين يتسمون بالحنكة، أو حتى الوعي السياسي، وهي المشكلة التي ألقت بظلالها منذ الوهلة الأولى من عمر الحركة حتى اقتادتها بعيدا إلى جبال آسيا الوسطى. ولا تزال هذه الإشكالية – التي تتمثل بالأساس في عدم القدرة على استيعاب المستجدات وفهم توازنات القوى وما يمكن أن يفضي إليه الصراع المسلح – تضرب بقوة في جسد الحركات الراديكالية منذ ذلك الحين.

منذ بدايتها، حملت الحركة الجهادية عوامل تدميرها ذاتيا؛ وليس أدل على ذلك من اغتيال بطلي أنس، ليس بيد العدو السوفيتي، وإنما بسلاح راديكاليين إسلاميين كان من المفترض أن يأتوا إلى أفغانستان لدعم الشعب الأفغاني. فقد قتل أحمد شاه مسعود – بطل المقاومة ضد الغزو السوفيتي – على يد اثنين من الجهاديين البلجيكيين من أصول تونسية أرسلهما بن لادن، وتنكرا في هيئة صحفيين، وقاما بتفجير عبوات ناسفة كانا يخبئانها داخل كاميرات التصوير التليفزيونية، مما أودى بحياة القائد الأفغاني في 9 سبتمبر 2001، أي قبيل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر بيومين فقط.

وقبل اثنى عشر عاما من تلك الواقعة (تحديدا في نوفمبر 1989)،  قتل عبد الله عزام، الذي كان يدعى «الأب الروحي للجهاد الأفغاني» مع اثنين من أبنائه أثناء ذهابهم إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة جراء انفجار قنبلة زرعت على جانب الطريق. لم يعيِّن الكاتب بشكل مباشر تنظيم القاعدة، أو أي جماعة جهادية أخرى، كمرتكب للجريمة، لكنه يصف الحملة الشعواء التي أشعلت فتيلها جماعات تكفيرية في عام 1988، واتهمت عزام بالعمالة لحساب أحمد شاه مسعود (في الوقت الذي كان أغلب العرب في بيشاور ينحازون إلى جانب قلب الدين حكمتيار)، ممهدة بذلك الطريق أمام عملية اغتياله.

تناقضات سافرة

وفي محاولته للنأي بعزام عن عنف الجهادية السلفية الذي أعقب ذلك، يرسم أنس صورة لعزام كرجل نبيل وخلوق، لكنه ساذج بدرجة ما. يمثل عزام مرجعية دينية تناقض – عند الكاتب – كلا من بن لادن والظواهري اللذين لم يتلقيا أي تعليم ديني.. صحيح أن عزام لم يسع يوما إلى إنشاء قوة عسكرية عربية تعمل بمعزل عن الأفغان، بل كانت غايته أن تكون هذه القوة في خدمة الشعب الذي يعاني من الاحتلال الأجنبي. رغم ذلك، يفشل الكاتب في الربط بين الجيل الأول من الأفغان العرب من جانب، وما كان يعتورهم من نقاط ضعف وتناقضات أدت في النهاية إلى تهيئة الأجواء لظهور تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش) من جانب آخر. في هذا السياق، أزعم أن الفتوى التي جعلت الجهاد مسئولية شخصية وواجبا على كل مسلم قد وضعت الأساس لإرساء فكرة جهاد بلا قيادة، وقوضت ليس فقط السلطة السياسية، وإنما أيضا النموذج الأخلاقي الديني من خلال تحويل خيار الانضمام إلى الحرب من قرار سياسي جمعي إلى قرار ديني شخصي. لقد كتب أنس بسذاجة أن عزام «لم يطرح قط أفكارا سياسية بخصوص الشباب حديثي العهد بالجهاد الذين قدموا إلى أرض أفغانستان للقتال» وعلاوة على ذلك، فإن ذهاب الشباب العربي إلى دول أجنبية لا يفهمون لغتها المحلية، ولا يعرفون تاريخها وتقاليدها الدينية والثقافية كان بمثابة فصل للجهاد عن السياسة، وهو ما أدى إلى خلق بيئة خصبة لنمو أيديولوجيا تكفيرية عدمية.

إن هذا الفصل بين الحرب والسياق السياسي يقع في قلب المشروع الجهادي لعزام. وهنا يبرز سؤال مهم: لماذا ترك عزام الفلسطيني الفدائيين الفلسطينيين إبان مقاومتهم للعدوان الإسرائيلي في صيف عام 1982، عندما كان ياسر عرفات ورفاقه محاصرين في بيروت، و فضل عليهم الجهاد في بلد لا يملك دراية كافية عنه؟ لقد طرحت هذا السؤال منذ عدة سنوات على أنس، وعلى آخرين مقربين من عزام، لكنني لم أحصل على جواب شاف، لأن هذا الجواب غير موجود بالأساس. لقد ذهب عزام إلى أفغانستان لمواجهة قوة عظمى تمد الفدائيين الفلسطينيين بالسلاح في لبنان ليساعد بذلك قوة عظمى أخرى تدعم إسرائيل عدو الفلسطينيين. هل توجد عبثية سياسية أكثر من هذا؟ ومن المفارقات أن دعوة عزام للجهاد ضد السوفييت في أفغانستان قد أدت إلى انتقال ثقافة حرب العصابات الفلسطينية إلى آسيا الوسطى، وانفصالها عن سياسات الشرق الأوسط، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية في السياسة العربية.

في أواخر الثمانينات، أجاب مئات الشباب العرب دعوة عزام إلى الانضمام إلى قوافل المجاهدين لخوض حرب لا يعلمون عنها شيئا، وكانت النتيجة كارثة ما زال العالم يعاني آثارها حتى اليوم.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا 

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock