عادة ما كان استخدام هذا الوسم أو الوصف، مرتبطا بفترات الأفول الحضاري، وهي فترات في عمر الشعوب يتراجع فيها العقل لصالح الخرافة، ويشغل الدين حيزا أكبر في حياة الناس في ظل غياب المعرفة والعلم. ف”الكفر”هو الغطاء، فيقال كًفر الشىء بمعنى ستره وغطّاه، وفي معنى آخر فإنه يعني نكران العقائد كالنبوة والتوحيد وغيرهما. غير أن استخدامه في الحياة العامة عادة ما يحمل العديد من الملابسات، إذ لا يكون المعنى هو النكران في ذاته بقدر ما يضفيه أحدهم على الآخرين، فيصير بمعنى (الحرمان من نعمة الإيمان الحق).
وبهذا المعنى وسًم المسلمون غيرهم من أبناء الحضارة الغربية الراهنة، ولا يزالون، باعتبارهم كفارا يستمتعون بالدنيا ،لكنهم بلا شك محرومون من نعيم الآخرة، نتيجة عدم اتباعهم للإيمان الحق المتمثل في عقيدة المسلمين.
لكن المفارقة التي يقدمها لنا الكاتب والمؤرخ «أندرو هويتكروفت» في كتابه (الكفار ..تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام)، والذي ترجمه لنا المؤرخ قاسم عبده قاسم ضمن أعمال المركز القومي للترجمة- هي تلك الصفحة من التاريخ الغربي التي تداول فيها الأوربيون مصطلح “الكفار” في الإشارة إلى المسلمين، فكلمة (infidle) اللاتينية والمعادل للكلمة العربية «كافر»– هي الكلمة التي كان المسيحيون الأوربيون يشيرون بها إلى المسلمين، ولقد كانت المرحلة التي راج فيها استخدام المصطلح هي الفترة التعبوية والممهدة وجدانيا للحروب الصليبية الموسومة ظلما ب( الحرب المقدسة).
دوافع الكراهية
في كتابه يحاول الباحث من خلال رصد دوافع الكراهية المتأصلة تاريخيا، ما بين عالمي (الغرب المسيحي)، و(الشرق الإسلامي) أن يكتشف أسباب الصورة النمطية السلبية التي تكونت لدى كل طرف تجاه الآخر، وكان دافعه في ذلك هو تلك التجربة الخاصة التي تعرض لها أثناء زيارته للمغرب. فقد كان المؤلف (أندور هويتكروفت) يجلس في أحد شوارع المغرب وقد نال منه الإنهاك والتعب وملأه الخوف، وبينما هو كذلك مرت به سيارة يستقلها شخصان عربيان هما (حسان ومحمود) وعندما شاهداه سألاه عن وجهته، وأصرا على اصطحابه إلى حد اضطر أندرو إلى أن يستقل السيارة معهما. وأثناء الرحلة التي استغرقت ساعات نحو طنجة، دار بينهما وبين أندرو حديث قصير تخلله صمت طويل. قضى أندرو رحلته يفكر في هول المصير الذي ينتظره، وتستعيد ذاكرته ما سمعه عن قصص اختطاف وتعذيب وسرقة لمواطنين أوربيين على أيدي هؤلاء العرب المسلمين.
لم يكن الكاتب يخال أن رحلته مع هذين الرجلين، يمكن أن تستمر لعدة أيام، لكن هذا ما حدث، بعدما اصطحباه معهما إلى منزلهما في طنجة وقد أكرما وفادته، ثم اصطحباه بعد ذلك في العديد من الجولات في سوق المدينة التي شرب فيها الشاي بالنعناع المغربي الشهير، والذي لم ينس الكاتب مذاقه حتى انتهى من وضع مؤلفه الضخم، الذي استغرق سنوات طويلة من البحث والدراسة. يبدأ هذا الكتاب زمنيا من القرن السابع الميلادي ويمتد إلى القرن الحادي والعشرين ،ويغطي مساحة شاسعة من الجغرافيا، تمتد من الجزائر جنوبا إلى فيينا شمالا، ومن المحيط الأطلنطي غربا إلى بحر العرب والمحيط الهندي شرقا، ويتجاوز هذه الحدود في بعض الأحيان وإن كانت مركزيتها حول البحر المتوسط.
كانت نهاية الرحلة عندما أصطحب هذان المغربيان صديقهما أندرو إلى الميناء، بعدما أخبرهما برغبته ف اللحاق بمركب في ملقا ليقطع بعدها مسافة طويلة إلى غرناطة في إسبانيا. في أعقاب تلك الرحلة ظل الكاتب يتساءل عن حقيقة عشرات القصص التي سمعها عن همجية ووحشية المسلمين حتى في وقتنا الراهن؟ وكيف سيكون الأمر لو فر من العربيين اللذين صارا صديقين له رغم بعد المسافات؟، وما هي الحكاية التي كان سيقدمها للناس هناك؟ وتأثير ذلك عليهم؟ وما الذي يدفع حسان ومحمود لاستضافة شخص لا يعرفانه في منزلهما رغم خطورة الأمر، وقد كان من الممكن أن يتهمهما بسرقته أو خطفه؟.
تحريف الرسالة
لم ير المغربيان حسان ومحمود في ضيفهما الأوربي، سوى صورة الإنسان المنهك العطشان، ورغم ذلك فقد شكلت تلك الواقعة محفزا قويا لباحث دؤوب، من أجل السعي نحو اكتشاف أسباب تلك الكراهية المتجذرة بين العالم المسيحي غربا، و العالم الإسلامي شرقا. والأكثر أهمية كان بالنسبة له هو اكتشاف أسباب تلك الصورة النمطية السلبية للأوربي تجاه الآخر المسلم، وهو ما حاول تفسيره في البداية من خلال (نظرية الايصال) تلك النظرية التي ضرب لها مثلا بمثل صيني شهير قيل عن الجنود أثناء الحرب العالمية الثانية, فقد كانت هناك رسالة يتهامس بها الجنود في خنادقهم في الصفوف الأمامية تقول (أرسل لنا تعزيزات.. نحن نتقدم)، وقد ظلت تلك الرسالة تنتقل من خندق إلى آخر حتى وصلت إلى الخنادق المتأخرة رسالة تقول (أرسل ثلاثة أو أربعة بنسات… نحن ذاهبون إلى حفل للرقص)!
لقد تم تحريف الرسالة بسبب عوامل لا يمكن حصرها، وقد تكون بلا تعمد من أي الأطراف، لكن النتائج كانت مختلفة تماما. ففي ظن الكاتب أن البابا أوربان بابا روما، حين وقف في مجمع كليرمون بجنوب فرنسا عام 1095 يتحدث عن ضرورة إنقاذ قبر المسيح، لم يكن بالضرورة يدعو لاجتياج الشرق الإسلامي، لكن لأن للكلمات أجنحة –كما يقول هوميروس- فلم يكن هناك ما كان يضمن نتائج كلماته التي انتقلت من مكان إلى آخر، ومن جيل إلى جيل. وعلى هذا الأساس سيسعى الكاتب لمحاولة قراءة الدوافع والأسباب التي أدت لوقوع عدد من الأحداث التاريخية الكبرى كموقعة ليبانتو البحرية، واجتياح القدس، والاستيلاء على القسطنطينية، واستسلام غرناطة، وحتى الهجوم على برجي التجارة العالميين في نيويورك، والتي ساهمت جميعا في تشكيل الصورة النمطية للخيال الشعبي في أوربا عن الآخر المسلم في شرق المتوسط، لتنطوي على قدر كبير من الكراهية والحقد الدفين إلى حد استساغة وصف «الكفار» في التعبير عنهم، حسب ما سيتضح من خلال فصول هذا الكتاب المهم.
(يتبع)