«في سالف الأيام كان لكل الأفارقة أجنحة، كانوا قادرين على التحليق كالطيور.. يحكي الراوي عن امرأة تعمل في المزرعة ولم تتعافَ بعد من الوضع.. يصرخ وليدها فتجلس لترضعه. يضربها سائق العبيد، تقوم للعمل ولكنها تسقط من شدة الوهن. يضربها من جديد، هكذا حتى تتطلع المرأة لشيخ إفريقي من العبيد وتقول بلغة لا يفهمها سادة المزرعة: هل حان الوقت يا والدي؟ فيجيب: حان الوقت يا ابنتي. فإذا بالمرأة تطير بصغيرها وقد نبتت لها أجنحة.. يتكرر المشهد مع عبد آخر وحين ينتبه سيد المزرعة ونائبه وسائق العبيد إلى أن الرجل المُعَمر هو مصدر الكلمات التي تجعل العبيد تطير يهجمون عليه لقتله، لكن الشيخ يضحك ويوجه كلامه بصوت جهوري لكل عبيد المزرعة… وفي لحظة كانوا يحلقون كسرب من الطيور.. الرجال يصفقون والنساء يغنين والأطفال يضحكون.. ولم يكونوا خائفين»…
الفقرة السابقة والمأخوذة عن أسطورة إفريقية قديمة، هي جزء من مقدمة كتاب «لكل المقهورين أجنحة.. الأستاذة تتكلم» للأديبة والناقدة الراحلة الدكتورة رضوى عاشور، والذي صدر مؤخرا عن دار الشروق، و يضم عدداً من المقالات والدراسات النقدية التي تدمج بسلاسة شديدة بين النظريات النقدية والنقد التطبيقي في مجال الرواية العربية. كما يتناول الكتاب القضية الفسطينية ،وما لها من حضور راسخ بالضمير وبالأدب العربي، إضافة لعالم الجامعة ،ورفاق الرحلة بالحياة الأكاديمية والثقافية في مصر.
أدب السجون في العالم العربي
في المحور الخاص باللغة والأدب، والإتجاهات النقدية الجديدة في الكتاب، تخصص رضوى عاشور مساحة لمناقشة قضية أدب السجون، حيث تؤكد أن كتابات السجن تعد رافدا مهما من روافد الأدب العربي الحديث، أسهم فيه بدرجات متفاوتة رجال ونساء ليبراليون وشيوعيون وإسلاميون، وأفراد لم ينتموا لأي من هذه الاتجاهات السياسية، وكتّاب مهمتهم الكتابة، وكتّاب كان نص السجن هو نصهم الوحيد، سجلوا فيه تجربتهم ثم مضوا إلى أشغالهم وتخصصاتهم الأخرى. تستعرض رضوى عددا من الأعمال الأدبية التي أنتجها معتقلون سابقون عن تجربة الإعتقال والسجن السياسي بعدد من الدول العربية مثل مصر، المغرب، فلسطين ولبنان.
تستهل رضوى تناولها لكتابات السجن بالإشارة إلى الرواية الأولى لعبد الرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973) والتي تحكي عن رجل يفر من بلده جراء ما تعرض له من اعتقال وتعذيب.
أما الرواية الثانية لمنيف «شرق المتوسط» (1975) ،فيتناول فيها تجربة الاعتقال السياسي والتعذيب دون تحديد لبلد بعينه، وهو ما تفسره تجربة منيف الخاصة.
تنبع خصوصية تجربة عبد الرحمن منيف – وفقا لرضوى عاشور- لكونه ولِد بعمان بالأردن، لأب من السعودية، وأم عراقية، درس المرحلة الابتدائية في عمان والمرحلة الثانوية في بغداد والتحق بالجامعة في القاهرة، وكان يقضي إجازته الصيفية بصورة منتظمة مع عائلته الممتدة بالسعودية، ومن ثم ستجرده السلطات السعودية لاحقا من جنسيتها عام 1963، فيستقر بدمشق حتى رحيله عام 2004، ولهذا تمكن منيف من تناول تجربة القمع والاعتقال السياسي والتعذيب بالمنطقة العربية ككل.
تلك الرائحة.. ويوميات الواحات
«قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان. وتطلع إليّ في دهشة: إلى أين إذن ستذهب، أو أين ستقيم؟ قلت: لا أعرف. ليس لي أحد. قال الضابط: لا أستطيع أن أتركك تذهب هكذا. قلت: لقد كنت أعيش بمفردي. قال: لابد أن نعرف مكانك لنذهب إليك كل ليلة. ليذهب معك عسكري». هذا مقطع من رواية «تلك الرائحة»، للأديب صنع الله إبراهيم والتي نشرها عام 1966، بعد أن مر بتجربة إعتقال لمدة خمس سنوات من (1959-1964)، وهي الرواية التي وصفها الراحل يوسف إدريس في تقديمه لها بأنها «ليست قصة، قل إنها صفعة أو صرخة أو آهة منبهة وقوية تكاد تثير الهلع».
وفي هذا الصدد تؤكد رضوى عاشور أن رواية صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» كانت جديدة بشكل واضح، ومن ثم ستوصف لاحقا بكونها رواية الحداثة الأولى في مصر، حيث لا توجد حبكة ولا تسلسل زمني، بطل بلا اسم، كافكاوي السمت، يدور في الشوارع بلا هدف أو يتمدد على سريره يدخن. لا شيء ذا بال يحدث في الرواية بإستثناء الزيارة اليومية لرجل الأمن كي يتأكد من تواجد الشخص بمنزله ليلاً، وبعض مشاهد «الفلاش باك».
تنشغل رواية «تلك الرائحة» – كما تشير رضو عاشور – بما ترتب على تجربة الإعتقال من حالة نفسية عانى منها بطل الرواية ،دون سرد أي تفاصيل تتعلق بتجربة الإعتقال ذاتها.
وفي عام 2004 يعود صنع الله لتجربة الإعتقال في «يوميات الواحات» ليروي بشكل مباشر عن ظروف اعتقاله وبعض التفاصيل المتعلقة بالحياة اليومية بالمعتقل.
سنوات الجمر والرصاص
«الزنزانة رقم 10» سيرة أحمد مرزوقي، و«السجينة» لمليكة أوفقير، و«من الصخيرات إلى تازمامرت:تذكرة ذهاب وعودة إلى الجحيم» لمحمد الريس، و«تلك العتمة المبهرة» للطاهر بنجلون، وغيرها الكثير من الأعمال الأدبية المغربية التي تناولت تجربة الإعتقال والسجن بالمغرب، تستعرضها رضوى عاشور حيث تشير إلى أن العاهل المغربي الراحل ،الملك الحسن الثاني، حكم المغرب ثمانية وثلاثين عاما صارت تعرف في الأدبيات المغربية بسنوات الجمر والرصاص. وفي الأعوام التالية لرحيله صدرت عشرات الكتب والأعمال الأدبية التي تتناول تجربة الإعتقال السياسي في المغرب، حتى أن إتحاد كتاب المغرب قد احتفى بتلك الكتابات عام 2006 عبرعقد ندوة جاءت تحت عنوان «الذاكرة والإبداع: قراءات في كتابة ومحكيات السجن».
لا تكتفي مرويات السجن في المغرب بتلك الأعمال الأدبية، فقد الأمر وصل إلى حد أن آلاف المغاربة ممن تعرضوا لتجربة الإعتقال والسجن بادروا بتقديم شهاداتهم ،سواء كانت مكتوبة أو شفاهية إلى هيئة الإنصاف والمصالحة التي شكلها الملك محمد السادس عام 2004 لتبحث في الإنتهاكات التي تمت منذ عام 1956 إلى عام 1999.تلك الإنتهاكات التي عبر عنها المثل العامي الشائع في المغرب «يسمعها الشيطان فيغطي أذنيه».
سجون الإحتلال الإسرائيلي
وتبقى الكتابات الفلسطينية عن السجن قليلة رغم ضخامة أعداد الفلسطينيين الذين تعرضوا للسجن والاعتقال والأسر في سجون الإحتلال الإسرائيلي. فالإحصاءات تشير إلى أنه منذ عام 1948 وحتى عام 2008 على سبيل المثال تعرض نحو ثمانمائة ألف فلسطيني لتجربة السجن السياسي.
توضح رضوى عاشور أنها لا تملك إجابة عن أسباب قلة الكتابات الفلسطينية عن سجون الإحتلال رغم ضخامة أعداد السجناء، لكنها ترجح أن الأمر ربما يعود إلى أن غالبية المعتقلين ليسوا من فئة المثقفين أو المهنيين، وبعضهم من الشباب وصغار السن، والبعض الآخر لم يتح له من التعليم إلا القليل، أو ربما يعود الأمر إلى طبيعة ضغوط واقع الإحتلال التي تظل قائمة حتى بعد خروج السجين، مما يحول بينه وبين الكتابة عن تجربة سجنه.
تتوقف رضوى عاشور عند كتاب عائشة عودة «أحلام بالحرية» الصادر عام 2004، حيث لم تتمكن الكاتبة من أن تروي تجربتها سوى بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما كاملة، وقد أفاضت في الكتابة عن تجربة الإعتقال، أما الحياة اليومية داخل السجن الذي قضت فيه نحو عشر سنوات فقد إختزلتها في فصل واحد فقط.
المعتقل.. المتحف
كما تتطرق رضوى عاشور إلى أدب السجون في لبنان من خلال تجربة سهى بشارة التي تم الإفراج عنها عام 1996 بعد أن قضت نحو عشر سنوات بمعتقل الخيام بجنوب لبنان.. تخرج سهى من المعتقل لتنهج نهجا مختلفا في الكتابة عن تجربة السجن في كتابها الذي حمل عنوان «مقاومة» حيث أهتمت بالحديث عن نشأة المعتقل ،وتقسيم مبانيه، والإجراءات المعتادة في التحقيق والتعذيب ونظام الحياة اليومية.
ومع تحرير جنوب لبنان عام 2000 تم تحويل معتقل الخيام إلى متحف يزوره الكافة بوصفه شاهدا على بربرية سلطات الإحتلال الإسرائيلية، وهو ما جعل الإسرائيليين يصرون على استهدافه بغاراتهم الكثيفة خلال عدوانهم على لبنان عام 2006، ومن ثم يتحول المتحف إلى ركام من الأنقاض.
تختتم رضوى عاشور تناولها لأدب السجون بالتأكيد على أن كتابات السجن – على تنوع أساليبها – واختلاف قيمتها البلاغية والتوثيقية تحمل بين طياتها الكثير من التفاصيل الإنسانية المنسوجة من عرق ودم وحكايات تقشعر لها الأبدان.
(يتبع)