رؤى

قُتل أبو بكر البغدادي، فهل ماتت الفكرة؟!

ليست هذه المرة الأولى التي يُعلن فيها عن مقتل أو تصفية زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إذ سبق وأن أعلن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، عن ذلك أكثر من مرة، ليتبين لاحقا أن الرجل لايزال على قيد الحياة.

 لكن ثمة مؤشرات عديدة وقوية هذه المرة تقول إن الولايات المتحدة قد تمكنت أخيرا من هذا الصيد الثمين، في عملية عسكرية شنتها قوات خاصة أمريكية على مخبئه في قرية «باريشا» شمال مدينة إدلب في سوريا، بعد منتصف ليل السبت، وذلك استنادا على معلومات استخباراتية وبالتنسيق مع أطراف عديدة شاركت في رصد تحركاته و تحديد موقعه ومن ثم استهدافه.

أهم  هذه المؤشرات هو تلك الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام الأمريكية، ةوتُظهر تفاصيل العملية العسكرية التي شنتها  القوات الأمريكية على الموقع الذي كان يختبيء فيه البغدادى، في حين أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بيان إلى الشعب الأمريكي بعد ظهر الأحد، مقتل زعيم تنظيم داعش الإرهابي قائلا: إن العالم أصبح الآن أكثر أمنا بعد مقتل «هذا الجبان». وأشار ترامب إلى أنه تابع عملية قتل البغدادي عبر الفيديو، مضيفا أن البغدادي، الذي كان متوحشا وعنيفا، قتل بعد أن فجّر نفسه، وتسبب في مقتل ثلاثة من أطفاله.

وقدم الرئيس الأمريكي الشكر إلى سوريا والعراق والأكراد فى سوريا، على الدعم من أجل التخلص من أبو بكر البغدادي، كما وجه الشكر إلى رجال الاستخبارات «الذين جعلوا هذه العملية ممكنة، وكذلك الجنود الأمريكيين وهيئة الأركان الأمريكية  والجهات الأخرى التي ساهمت في التخلص من هذا الجبان، قائلا: «العالم الآن مكان أكثر أمنا».

وقد تحدثت تقاريرعن تفاصيل العملية العسكرية التي استهدفت قتل زعيم داعش. وقال مسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» إن وحدة عسكرية أمريكية خاصة، نفذت عملية إنزال ضد تجمع لتنظيم داعش شمال غرب سوريا في محافظة إدلب وجرت تصفية عدد من قادة التنظيم من بينهم البغدادي. وأضاف أن البغدادي قُتل بعدما قامت أجهزة استخباراتية أمريكية بالتأكد من موقعه، وقد تمت تصفيته على الفور والتحفظ على جثته. لكن مسؤولين آخرين أكدوا أن  البغدادي وزوجته فجرا نفسيهما بسترات ناسفة لدى شعورهما باقتراب القوات الأمريكية من مكان اختبائهما، مما أدى الى مقتل ثلاثة من أطفالهما معهما.

تداعيات هائلة

وفي حال تأَكَد بشكل نهائي مقتل البغدادي، فإن ذلك يطرح الكثير من التساؤلات على تأثير ذلك على مستقبل تنظيم داعش بعد اختفاء زعيمه، وهل يعني ذلك انتهاء الخطر الذي كان يمثله التنظيم؟، كما أن توقيت عملية قتل البغدادي، يثير الكثير  من التساؤلات حول ما إذا كان له علاقة بالحسابات السياسية الداخلية للرئيس الأمريكي؟

 فيما يخص تداعيات مقتل أبي بكر البغدادي على مستقبل تنظيم داعش، فالمؤكد أن تصفيته تشكل ضربة معنوية سلبية كبيرة للتنظيم وأتباعه ومناصريه، لاسيما وأنه يأتي بعد الهزيمة الساحقة التي تعرض لها التنظيم وسقوط دولته وفقدانه لكل المناطق التي كان يسيطر عليها في العراق وسوريا. ورغم أن البغدادي أصبح في الأشهر الأخيرة عاجزا عن التواصل مع  أنصاره وأصبح معزولا في آخر معاقل داعش قبل لجوئه إلى القرية التي قتل فيها، إلا أن مجرد وجوده على قيد الحياة كان يمثل أهمية رمزية للتنظيم وأنصاره، ومن ثم فإن تأكد مقتله، سيعمق من حالة الهزيمة التي يعيشها التنظيم في سوريا والعراق. لكن المؤكد أيضا أن اختفاء البغدادي لا يعني اختفاء داعش أو هزيمته الكاملة، كما يروج الرئيس الأمريكي في خطاباته، إذ أن داعش، بكل ما يمثله من وحشية وظلامية، يمثل فكرة أكثر من كونه تنظيما إرهابيا، وهي فكرة تبدو ملهمة للكثيرين من أنصار التنظيم وهنا يكمن الخطر الذي سيظل باقيا طالما بقيت الفكرة.

 كذلك فإن الخبرات التاريخية البعيدة والقريبة للتنظيمات الجهادية الراديكالية، تقول بأن اختفاء أو مقتل القائد لا يعني اختفاء التنظيم أو إندثاره، فربما يؤدي إلى ضعفه وتراجعه، كما حدث مع تنظيم القاعدة بعد مقتل زعيمه أسامة بن لادن. لكن فيما يخص تنظيم داعش فقد حدث العكس، فمقتل أبى مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في العراق، و الذي يعتبر المؤسس الأول لتنظيم داعش، لم يؤد إلى تراجع التنظيم، بل ما حدث هو العكس فقد تمدد داعش وتوسع بعد مقتل الزرقاوي، ونجحت عناصره في السيطرة على مساحات شاسعة من العراق ومن ثم سوريا التي أقام فيها دولة الخلافة الخاصة به بزعامة أبى بكر البغدادي.

ربما يؤدي مقتل البغدادي إلى تراجع خطر التنظيم ونشاطاته في العراق وسوريا، لاسيما وأن ذلك من شأنه أن يبث اليأس في نفوس الكثيرين من أنصاره الذين باتوا ملاحَقين في صحراء العراق وسوريا وبلا تنظيم أو قيادة. ويتوقف مصير التنظيم ومستقبله في المنطقة – فضلا عن العوامل الاقليمية والدولية الراهنة ومدى توفر موقف دولي موحد في مواجهة التنظيم – على مدى نجاح داعش خلال السنوات الماضية في تشكيل صف ثان من القيادات التي يمكن أن تحمل راية التنظيم بعد مقتل زعيمه.

 لكن في المقابل فإن قتل البغدادي قد يقود إلى مزيد من التمدد والتوسع لداعش في مناطق أخرى لاسيما في غرب أفريقيا وليبيا، فضلا عن أفغانستان، وهي المناطق التي تشهد صعودا لافتا للتنظيم ونشاطاته خصوصا بعد هزيمته في سوريا والعراق، وهروب العديد من عناصره إلى تلك المناطق لتأسيس ولايات جديدة تابعة لدولة الخلافة المنهارة. كذلك فإن مقتل البغدادي، قد يدفع التنظيمات التابعة لداعش في هذه المناطق لشن عمليات إرهابية واسعة كنوع من الثأر أو رد الفعل على مقتل زعيمهم ولإثبات أن التنظيم باق ويتمدد.

 نحن إذن أمام فكرة أصبحت تجذب الكثيرين من الأتباع والأنصار في مناطق عديدة، أكثر من كوننا في مواجهة تنظيم متطرف إرهابي قُتل زعيمه أو هزمت دولته. والأفكار -سواء كانت جيدة أم شريرة- لا تواجه إلا بأفكار مقابلة تفندها وتدحضها. ومن ثم فإن المواجهة الأمنية -على أهميتها – مع التنظيمات الإرهابية وأفكارها المتشددة لا تصلح وحدها للقضاء على الخطر الذي تمثله هذه التنظيمات، بل هي حرب أفكار قبل أن تكون حربا بالبنادق والطائرات، فربما تقضي الطائرات على خطر الإرهاب حتى حين، لكنها لا تقضي على الإرهاب نفسه.   

حسابات سياسية

من حيث التوقيت، فربما ارتبطت عملية قتل البغدادي بتوافر معلومات استخباراتية دقيقة ومؤكدة ساعدت على تحديد مكان اختباء الرجل بدقة ومن ثم استهدافه بنجاح. لكن في المقابل فإن الحسابات السياسية الداخلية للرئيس الأمريكي تبدو حاضرة بقوة في توقيت العملية وطريقة الإعلان عنها. إذ لا يمكن النظر إلى العملية بعيدا عن حسابات ترامب، الذي يستعد  لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة على أمل الفوز بولاية ثانية العام القادم، والذي سيسعى لاستغلال هذا الانجاز الأمني الكبير بكل قوة، من أجل تعزيز موقفه الانتخابي في مواجهه خصومه الديمقراطيين الذين يشككون في قدرته على حماية أمن الولايات المتحدة. كما أن عملية قتل البغدادي تشكل ورقة مهمة الآن في يد ترامب الذي يخوض حاليا معركة صعبة مع الديمقراطيين في الكونجرس، ويتعرض لانتقادات حادة من قبل الأوساط الأمريكية بسبب قراره الأخير بالإنسحاب من سوريا والذي وصف بأنه قرار كارثي بالنسبة للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فقتل البغدادي يمنح ترامب فرصة ليقول لخصومه إنه كان على صواب وإن سحب الجنود الأمريكيين من سوريا لا يعني وقف الحرب على داعش وأنصاره. وقد ظهر ذلك جليا في لغة البيان الذي وجهه ترامب للأمريكيين وزف فيه اليهم نبأ مقتل البغدادي.

وكان البغدادي قبل مقتله، مدرجا في رأس قائمة كبار المطلوبين في العالم، حيث رصدت الولايات المتحدة مكافأة قدرها 25 مليون دولار لمن يساعد في الوصول إليه. وقد نجا البغدادي من عدة هجمات جوية استهدفته، حيث أصيب مرة واحدة على الأقل، بحسب تقارير استخبارية. وقد أعلنت الاستخبارات العراقية في شهر يوليو الماضي، مقتل نجل البغدادي حذيفة البدري في سوريا بثلاثة صواريخ موجهة روسية أصابت المخبأ الذي كان بداخله. وقد أكدت وكالة أعماق التابعة للتنظيم  مقتله وقتها.

 وبعد أن كان البغدادي يحكم «دولة الخلافة» التي تمتد على أراض شاسعة في سوريا وما يقرب من ثلث مساحة العراق، ويتحكم في رقاب سبعة ملايين شخص، لم يبق من التنظيم بعد هزيمته الأخيرة سوى مقاتلين مشتتين عاجزين عن معرفة مكان وجود زعيمهم الذي انتهى به الحال مختبئا في إحدى قرى أدلب قبل أن تصل اليه يد الولايات المتحدة.

 ولد البغدادي، واسمه الحقيقي إبراهيم عواد البدري، عام 1971 لعائلة فقيرة في مدينة سامراء شمال بغداد. وقد كان مولعاً بكرة القدم، ويحلم بأن يصبح محامياً، لكن نتائجه الدراسية لم تسمح له بدخول كلية الحقوق، كما أنه حاول الالتحاق بالسلك العسكري، لكن ضعف بصره حال دون ذلك، لتقوده الأمور في نهاية المطاف إلى الدراسات الدينية في بغداد قبل أن يصبح إماماً في العاصمة العراقية في عهد الرئيس السابق صدام حسين.

وكان دخوله إلى سجن «بوكا» الواقع على بعد عشرات الكيلومترات من الحدود العراقية الكويتية، نقطة تحول حاسمة في حياته. فقد اعتقل البغدادي، الذي شكّل لدى اجتياح العراق في العام 2003 مجموعة جهادية ذات تأثير محدود، في فبراير 2004، وأودع سجن بوكا الذي كان يؤوي أكثر من 20 ألف معتقل من قادة حزب البعث في عهد صدام حسين، إلى جانب عدد من الجهاديين السنة. و في 29 يونيو 2014، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام قيام «الدولة الإسلامية»، ونُصب أبو بكر البغدادي خليفة لها.. اختفت دولة  الخلافة وقُتل خليفتها، لكن الفكرة التي تأسس عليها كل ذلك ستظل باقية حتى حين!

 

شحاتة عوض

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock