حظيت ثلاث بقاع جغرافية بأهمية خاصة في التاريخ الأوروبي القديم، وهي تلك المناطق التي تمتلك فيما يرى- أندرو هويتكروفت مؤلف كتاب (الكفار .. تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام)، نوعا من التاريخ المدفون، والمقصود بالتاريخ المدفون ليس ذلك القدر من التحف والآثار التي يمكن العثور عليها من خلال الحفر، وإنما تلك التي ارتبطت بقدر من الذكريات والتكوين الوجداني للشعوب.
أما المنطقة الأولى فكانت إسبانيا، والمنطقة الثانية هي منطقة البلقان، أما الثالثة فكانت تلك البقعة الممتدة من صحراء سيناء وحتى سفوح التلال في هضبة الأناضول، وهي تلك البقعة التي شهدت ميلاد السيد المسيح، وبتعبير آخر هي تلك الأرض المقدسة حيث وُلد المسيح ومات.
تاريخ الحج المسيحى
وإذا كان الحج إلى مكة فريضة على القادرين في الشريعة الإسلامية، فإن الحج إلى يت المقدس لم يكن أبدا من مقتضيات الإيمان وشروطه في العقيدة المسيحية، ورغم ذلك فقد سير الأوروبيون قوافل الحجيج إلى الشرق لدوافع مختلفة كالتطهر من الخطايا، أو الإقصاء من الأرض، وكان الحجيج كثيرا ما تُشد من حولهم سلاسل حديدية معتقدين أن صلاتَهم في الأرض المقدسة ستجعل الرب نفسه يقوم بفك تلك السلاسل، وبالجملة لقد كانت الصلاة بقلب طاهر في البقعة التي ولد وعاش فيها المسيح تحمل رمزية خاصة، وقد بدأ الحج المسيحي إلى الأرض المقدسة منذ عهد الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، وبدأوا في إعادة اكتشاف الأماكن المقدسة التي ورد ذكرها في العهدين القديم والجديد، وبنيت الكنائس في بيت لحم والناصرة وفوق جبل الزيتون، وبدأت الإمبراطورة هيلين البحث عن بعض المتعلقات المقدسة كصليب الصلبوت (وهو وفق الرواية الشعبية الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح)، وقد استمرت رحلات الحجيج في التدفق حتى احتلال الفرس لأرض فلسطين، وهي فترة عانى فيها المسيحيون في القدس من الاضطهاد وتعرضت قوافل الحجيج لكثير من حوادث السلب والنهب والقتل.
بعد الفتح الإسلامي كان تأمين قوافل الحج سواء القوافل الأوروبية أو قوافل مسيحيي المشرق كتلك القادمة من مصر مهمة الولاة المسلمين، غير أن ما تعرضت له بعض قوافل الحجيج القادمة من أوروبا عبر الدولة البيزنطية من هجمات، جعل الأوروبيين يضاعفون من حجم حملات الحجيج التي كانت تصل في بعض الرحلات لسبعة آلاف مصحوبين بجيش للتأمين من الفرسان والمقاتلين، وقد دفعهم البحث عن المؤن في الطريق كثيرا إلى الاشتباك مع سكان المدن من البيزنطيين والمسلمين الذين كانوا يدفعونهم عن الموانىء والمدن بقتالهم، ومن ثم فإن من كتبت له العودة من هؤلاء كان كثيرا ما يروج أساطير عن التعذيب والويلات التي يتعرضون لها في الطريق على أيدي (الكفار) من المسلمين، ووفقا للكاتب- فقد استدعيت أساطير التعذيب المسيحي على أيدي الرومان- والتي كثيرا ما خضعت للمبالغة والتهويل أيضا- على المسلمين، وتتبدى المشكلة الحقيقية للتراث الفكري والعقدي المسيحي في تلك المرحلة في كونه تراثا شفاهيا بالأساس، تكون من خلال تلك الأساطير والقصص والكلمات الرنانة التي انطلقت بها ألسنة القساوسة ورجال الدين واللاهوت المسيحيين وليس خبرة عملية، ولقد كانت تلك الأرض بالنسبة لرجال الدين هي أرض مثمرة تجود بالخيرات، على ما سيظهر في خطاب البابا الذي سيدعو لخروج الحملات لإنقاذ قبر المسيح.
اقرأ أيضا:
عندما كنا نحن الكفار (2) via @aswatonline https://t.co/PqbXBM366p
— أصوات Aswat (@aswatonline) October 28, 2019
خطاب أوربان
لقد اجتهد رجال الدين في الترويج لقسوة وبشاعة المسلمين في المخيلة الأوروبية بما يشكل الأساس النظري لإندلاع تلك السلسلة الطويلة من الحروب التي ستعرف تاريخيا بالحروب الصليبية، ولنقف عند واحدة من الصور التي نقلها أحد الرواة عن بشاعة العرب المسلمين وهو يقول 🙁 وعندما يرغبون في تعذيب الناس بالموت الشنيع، فإنهم يثقبون بطونهم عند السرة ويستخرجون أحشاءهم، ويربطونها في عصي، ثم يقودون الضحية وهم يضربونه بالسياط في دائرة حتى تندفع الأحشاء خارجه ويسقط الضحية طريحا على الأرض) لقد كان هذا جزءا من خطاب البابا أوربان الذي أخذ على عاتقه مهمة تجييش العاطفة الأوروبية تجاه كراهية المسلمين، مما جعل المؤلف يتساءل عن إمكانية نجاح تحريك الجماهير لغزو المشرق الإسلامي، لو لم يمتلك البابا أوربان تلك القدرات الخطابية المؤثرة؟
ففي كليرمون جنوب فرنسا أعلن البابا أوربان- الذي عبر جبال الألب صوبها يوم الثلاثاء الموافق 27 من نوفمبر 1095 ميلاديا- أنه سوف يتكلم لا إلى الكنيسة وحدها بل إلى العالم، وفي الصباح الباكر وضع العرش البابوي أمام جمهرة غفيرة من الحضور، وهناك خمس روايات مختلفة لنص الخطاب البابوي في كليرمون لكننا سننقل جزءا يكاد يقع الاتفاق عليه بين الروايات المختلفة، يبين نظرة رأس الهرم الكنسي لما يجب أن يسود لدى عوام المسيحيين إزاء الآخر المسلم ( إنني أو بالأحرى الرب، يناشدكم باعتباركم المبشرين بالرب أن تحملوا المساعدة حالا إلى أولئك المسيحيين وأن تدمروا الجنس الشرير وتطردوه من أراضي أصدقائنا… وكل الذين يموتون في الطريق سواء في البر أو البحر أو في المعركة ضد الوثنيين سوف ينالون غفرانا لخطاياهم في الحال من خلال سلطة الرب التي أسبغها عليّ… ياله من عار أن يهزم شعب يدين بديانة الرب القدير، من مثل هذا الجنس الحقير الوضيع الذي يعبد الشياطين )
نجح أوربان في إشعال غضب العامة وإلهاب حماستهم ثم باركهم جميعا برسم علامة الصليب التي ستصير شعار جيش الرب، وبذلك ستنطلق تلك الوفود المدججة بالسلاح صوب الشرق الإسلامي في سلسلة الحروب التي ستتسمى للمرة الأولى في القرن الثامن عشر ب”الحروب الصليبية”، فقد استخدمت في اللاتينية للمرة الأولى في القرن الثالث عشر أي بعد قرن من استرداد المسلمين للقدس، ثم استخدمت في الفرنسية في القرن السادس عشر، ثم انتقلت إلى الانجليزية في القرن الثامن عشر لتصبح مرادفة لكل حملة توجه ضد أعداء المسيح حتى من أولئك الهراطقة المنشقين عن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.
وقد يكون من الضروري أن نلفت هنا إلى أن المسلمين لم يستخدموا مفردة (الحروب الصليبية) ولا اعتبروها حربا دينية، بل أطلقوا عليها عبارات من قبيل (جيوش الفرنجة) التي تعج بها كتابات المؤرخين المعاصرين للحروب الصليبية ك أسامة بن منقذ، وإبن الأثير وغيرهما، وإنما اشتهرت التسمية في المشرق الإسلامي حين توالى استخدامها من قبل دوائر السياسة الغربية تجاه كل محاولة لتوجيه جيوش صوب الشرق الإسلامي، فقد بدأت فرنسا غزوات صليبية جديدة منذ بواكير القرن التاسع بعد هزيمة نابليون النهائية 1815م، وهي الفترة التي ظهرت فيها بواكير التأريخ الأوروبي للحملات الصليبية مؤكدة فكرة استعادة مجد الآباء، فكانت بمثابة التمهيد لموجات أخرى من الغزو الفرنسي لبلدان المغرب العربي، واستبدلت مفردة الحروب الصليبية، بعبارة (المهمة التمدينية) بينما ظلت ظلت عبارة (الحروب الصليبية) تستخدم في الدوائر الكاثوليكية العليا، وقد ظلت المفردة كامنة في العقل الأوروبي حتى جرد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش حملته التي أسماها ب(الصليبية) في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وصولا إلى احتلال بغداد عام 2003.
اقرأ أيضا:
— أصوات Aswat (@aswatonline) October 25, 2019