لا شك أن مقتل أبي بكر البغدادي (زعيم تنظيم داعش) لم يربك العالم عام 2019، كما أربكه ظهوره وبيعته عام 2014. وبينما كانت التحذيرات تأتي من الخبراء والمراقبين بتجنب قتله مع بدء انهيار تنظيمه عام 2016 ([1])، بدعوى أن التنظيم قد يتطور ويتجدد لما هو أخطر بعد قتل رمزه ورأسه، لاسيما في ظل احتفاظه بشبكة قوية من الفروع والمقاتلين الأجانب والقوة الرمزية واللوجيستية، فإن البعض الآخر رأى أن هناك ضرورة لقتل البغداي، كما جاء في مقال لأحد الباحثين في مايو عام 2019. فالبغدادي هو رأس وزعيم لتنظيم مهترئ ومشتت، وسيزيد مقتله هذا التنظيم شتاتا وإنهيارا، وربما موتا في النهاية ([2]).
جاء تنصيب البغدادي خليفة ل تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في 10 يونيو سنة 2014، معدا له أفضل إعداد على مدار ثلاثة أعوام سابقة على الأقل، من قبل كوادر وأجهزة التنظيم المختلفة،. وكانت الكتب والرسائل معدة لتبرير بيعته وإلزام معارضيها – بمن فيهم التنظيم الأم، أي تنظيم القاعدة-، مثل كتاب الراحل تركي البنعلى «مدوا الأيادي لبيعة البغدادي» وكتابات أبي الحسن الأزدي وأبي الحسن الشنقيطي وغيرهم([3]) ،وهو ما لم نر- ولن نرى- بعضا منه مع تولي خلفه أبي إبراهيم الهاشمي القرشي زعامة التنظيم .
أبو إبراهيم القرشي ليس هو عبد الله قرداش
لا يعكس الإعلان السريع لتنظيم داعش عن خليفته المجهول «أبو إبراهيم الهاشمي القرشي»، قوة أو قدرة ناجعة، كما أن هذه العجلة في إعلان الخليفة الجديد بعد ثلاثة أيام فقط من مقتل البغدادي، لا تعني بالضرورة تماسكا للتنظيم، بقدرما تعكس أزمة كبيرة وعميقة، وخوفا فى دائرته الحاكمة من انحلاله وتفككه.
هذا التسرع في إعلان الزعيم الجديد لتنظيم الدولة، دون ذكر تفاصيل كثيرة عن شخه، يعكس – في رأينا – أمرين مهمين:
أولهما الخوف الأمني، وتصاعد الحساسية الأمنية لدى التنظيم من استهداف القائد الجديد نفسه الذي لم يقدم التنظيم أي تفاصيل دقيقة أو محددة عنه، لتستمر بيعة المجاهيل للمجهول نقطة ضعف مستمرة لديه انتقدته بسببها مختلف الجماعات والفصائل الجهادية الأخرى.
أما الأمر الثاني فهو انهيار التنظيم وأجهزته الإعلامية، حيث أن من المعتاد في مثل هذه البيعات وإعلانات الهزائم الكبيرة غير ذلك تماما، إذ يتطلب الأمر وقتا وإعدادا وإعلانا مثيرا مختلفا، مثلما جرى بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن وتولية أيمن الظواهري خلفا، بعد ما يقرب من الشهر من مقتل بن لادن.كذلك الأمر مع تولية أبي بكر البغدادي نفسه خلفا ل أبي عمر البغدادي الذي قتل سنة 2010.
تركة البغدادي الثقيلة
ترك أبو بكر البغدادي لخليفته على رأس التنظيم تركة ثقيلة للغاية، فعلى العكس كلية مما كان عليه تنظيم داعش في ذروة نشاطه بين عامي 2013 و2015، والتي تولى فيها البغدادي زعامة التنظيم، فإنه رحل بعدما خسر «داعش» مختلف معاقله، كما خسر – وفق ما يعرف بـ«استراتيجية المطرقة الصلبة»- كبار قادته وكوادره. ورغم محاولات التنظيم النشاط والحضور في جنوب آسيا وأفغانستان وبعض مناطق الشمال الإفريقي وبالخصوص ليبيا، إلا أن داعش ينهار فعليا على مستوى الصورة والحقيقة.
أزمة شاملة
لم يُعرف على مدار التاريخ الحديث، تنظيم أخطر من «داعش» عنفا ودموية، كما لم يُعرف مثل جهازه الإعلامي، بمنصاته ومنابره ولغاته المختلفة، في فترة انتصاراته وزهوه قبل عام 2017. لكنه اليوم يعيش أزمة شاملة، فقد خسر الجغرافيا والحضور والوجود التاريخي الذي أتيح له، كما تم اختراقه أمنيا، مثلما ظهر فى رواية مقتل البغدادي، وكذلك في بعض أجنحة وكتائب المقاتلين الأجانب الخاصة به، مثل الجيش التركستاني وغيره.
تغيرت أمور عدة وانحدر المنحدر بقدرات تنظيم الدولة إنحدارا خطيرا و كبيرا، ما بين إعلان إبراهيم عواد البدري (البغدادى) خليفة للدولة الإسلامية في الموصل في يونيو سنة 2014 وما بين مقتله يوم السابع والعشرين من أكتوبر 2019 في إدلب السورية أثناء هروبه للحدود التركية، ليترك لمن خلفه تركة ثقيلة يصعب حملها، وهي مهمة إحياء التنظيم من جديد.
أزمات تعوق عودة التنظيم
في اللحظة الراهنة، ونحن نستكشف واقع داعش ومستقبله بعد مقتل البغدادي، لا يمكننا الرهان كثيرا على الخليفة المجهول المعلن «أبو إبراهيم» ليجمع شتات التنظيم، خاصة مع أزمة التواصل والبنى الوسيطة داخل التنظيم المحاصر، في عالم الواقع والعالم الافتراضي على حد سواء. كما لا؟ تمكن المراهنة على الأزمات الطائفية التي سبق أن خرج منها التنظيم في العراق، أو صعد فيها في سوريا، خصوصا في ظل أزمة الخلاف الحاد بين داعش وبين مختلف الفصائل الجهادية في البلدين، وقسوة وانكشاف تجربته في كل منهما، وكذلك في ليبيا.
انهيار الجاذبية الأيديولوجية
فقدت أيديولوجيا داعش، جاذبيتها، وخاصة روايات آخر الزمان، التي تقع في الشام، والتي روجتها وهي تروج للبغدادي ولتنظيمه في البداية، من قبيل معارك آخر الزمان في «دابق وسهل اليابس مثلا»، والخليفة الثانى عشر القرشي الذي أسقطته على أبي بكر البغدادي بعد أن اخترعت له نسبا – كما ذكر بعض منتقديها-، فهذا الأمر لم يعد ممكنا مع الخليفة الثالث عشر وإن حمل النسب نفسه، والتمهيد لخلافة آخر الزمان والمهدي المنتظر الذي سكن كثيرا من المهاجرين إليها.
وليس أدل على انهيار الجاذبية الأيديولوجية لداعش المشار إليها، سوى عودة ثلاثة أرباع المقاتلين الأجانب من التنظيم خلال السنوات الثلاث الماضية إلى بلدانهم، فضلا عما بات معروفا عن قسوة التجربة التي عاشوها- وخاصة النساء منهم- في ظل حكم داعش وحروبه والحروب عليه.
استمرار أزمة الرمز
كان تنظيم القاعدة في العراق- سلف داعش- ثم داعش بعده واعيْيْن منذ وقت مبكر لأزمة الرمز، منذ وفاة أبي مصعب الزرقاوي، ولذا سعى داعش لترميز عدد من قادته وإشهار أمرهم وعلو شأنهم، جذبا لغيرهم من الجهاديين. فبرز البغدادي نفسه الذي حاول التنظيم- زورا وخطأ- المبالغة في حظوظه من علوم الدين والدنيا، والحسب والنسب. كما برزت بجواره أسماء أخرى كثيرة مثل أبي محمد العدناني ثم أبي الحسن المهاجر، الذي أعلن عن مقتله في اليوم نفسه الذي قتل فيه البغدادي، وغيرهم، لتعود أزمة التنظيم ومجهولية القائمين عليه محل نقد عند معارضيه من الجهاديين، وموضع تشكك لدى أنصاره.
استمرار خلافات التنظيم الأيديولوجية
وقد بلغت الخلافات داخل تنظيم داعش، في الشهور الأخيرة، حدا كبيرا على المستوى الأيديولوجي، خصوصا مع أزمة استمرار غياب البغدادي وعجزه عن إدارة أزمات ومشاكل التنظيم واستعادة حيويته. يؤكد ذلك ما نشره مركز البحوث والدراسات في داعش، في 22 مارس سنة 2019، من مطالبة لنزع الخلافة منه.
فقد نشر المركز المذكور كتيبا لمؤلفه أبى محمد الهاشمي أحد أبرز مشرعي تنظيم داعش، وأحد المقربين من أكبر شرعييه الراحل تركي البنعلى، وقدم له آخران، وقد جاء هذا الكتيب، الذي يقع في 200 صفحة، بعنوان «كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي» ليعكس عمق الصراع وفقدان اللُحمة والترابط داخل التنظيم. وقد رد بعض منظري داعش ومشرعوها على الكتاب المذكور بكتاب آخر بعنوان «إماطة اللثام عن نهج بلعام» مشبهين إياه بـ بلعام بن باعوراء (أحد علماء بني إسرائيل وكان مجاب الدعوة بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام)، وأن أبا محمد الهاشمي يسير على نهج الظواهري والجولاني المنحرفيْن([4]).
إن التشظي والصراع الأيديولوجي داخل التنظيم الواحد وبين التنظيمات المتطرفة بعضها بعضا، بلغ حدا غير مسبوق في تاريخها، وينذر باستحالة الوحدة وصعوبة ممتدة للتحول نحو واقع جديد، لغياب الرمز الكاريزمي الموحد فيما بينها واستفحال المسائل الكلامية والسجالية بين أجنحتها فضلا عن محاولة كل منها تصدير قداستها وتدنيس الآخرين وغياب أي مشروع مشترك ممكن لها في الأفق.
عوامل عودة داعش
لا شك أن استمرار الأزمات التي أنتجت داعش أوتلك التي وظّفها الأخير لصالحه ،كالأزمة الطائفية المحتقنة في سوريا والعراق، أو فوضى الصراع والرمال المتحركة في ليبيا وغيرها قد تساعد على عودة التنظيم من جديد بالطريقة نفسها التي سبق أن صعد بها.
ويبدو رهان داعش بالأساس على العراق المأزوم والذي تنشط فيه سياسات التمييز الطائفي ضد السنة، والميليشيات الموالية لإيران، ويلاحظ أن أغلب عمليات داعش وتركيزه الإعلامي الأول خلال العام الماضي سنة 2018 كان على العراق، واستمرار الأزمات بالشكل السابق قد يعيد هذا التنظيم من جديد.
بينما نرى أن الوضع في كل من سوريا وليبيا أصعب نظرا لتسلح وقوة الفصائل الجهادية المعارضة، وفساد التجربة واليقظة الدولية في كل منهما.
ويبقى التنافس الجهادي/ الجهادي وتجارب التطرف والتطرف العنيف في الحكم عائقا كبيرا أمام العودة الممكنة لمرحلة التمكين لأي تنظيم وليس داعش فقط، ولكن لا يمكن إنكار أن قدرة هذه التنظيمات على التكيف تجعل وجودها وحضورها ممكنا ولكن يظل حضورا محصورا بخلافاتها وأفقها الضيق والواقع الكاشف والراصد لها.
_____________________________________
[1] حذر من قتل البغدادي سنة 2016 كل من Haroro Ingram and Craig Whiteside في مقالهما المشترك:
DON’T KILL THE CALIPH! THE ISLAMIC STATE AND THE PITFALLS OF LEADERSHIP DECAPITATION, war on Rocks in 3 June 2016. This link: https://warontherocks.com/2016/06/dont-kill-the-caliph-the-islamic-state-and-the-pitfalls-of-leadership-decapitation/
[2] مثل الباحث Tore Hamming في مقالته بـ«جهاديكا» في مايو سنة 2019 يمكن مراجعتها على الرابط التالي:
[3] انظر حول ذلك كتابنا هاني نسيره، سرداب الدم، نصوص داعش: دراسة نقدية وتحليلية، ط1 دار صفصافة للنشر سنة 2019.
[4] انظر غلاف الكتاب على الرابط التالي: https://twitter.com/colebunzel/status/1108861285578477574?s=20 والجدل الذي ثار ضده على الرابط التالي: https://www.aman-dostor.org/20419