لا نعرف بالضبط إحصائية موثقة وموثوقة لما يُطبع من الكتب بالعربية… وتقدير نسبة القراءة عند العربيّ مبنيٌّ على التخمين والغرض والدافع
مسألةُ القراءة والكِتاب، بالنسبة إلى العرب، هُدر فيها الكثير من الحبر، وقيل فيها الكثير من الكلام، وحتى الساعة ما زال الحديث ذاته، بمعطياته ونتائجه، منذ الإمام محمد عبده. والمُشكل على الطاولة، أن العرب لا يقرؤون، وأن الكِتاب من آخر اهتماماتهم، وأن الجيل الأخير أسوأ ممن قبله في هذا، حتى أن مقالي هذا كأنه اجترار لمسألة معادة ومعتادة، لكنها أيضا مسألة المسائل.
وأجد أننا في تناولنا لهذه المسألة، كمن يبكي على حائط المبكى. بمعنى ما، نعيد نفس الوسائل في الدراسة والبحث، معتمدين طرائق بالية، رغم توفّر التقنية، ورغم أن الرقمية سهلت الطرق. فحتى الآن لا نعرف بالضبط إحصائية موثقة وموثوقة لما يُطبع من الكتب بالعربية، وبغيرها من اللغات في العالم العربي، وبالنسبة إلى العربية في مجمل العالم. وعليه فإن تقدير نسبة القراءة عند العربيّ مبنيٌّ على التخمين، والغرض والدافع، ما يكون كثيرا عاطفيا، كما الشعر ما يجنح لتجريح الذات.
وإذا كانت مسألة القراءة، ونسبة القراء العرب، مسألة لم يطلها العلم والموضوعية، فإن الكِتاب مصاب أكثر، فهو بضاعة في يد تجار، في القطاع العام والخاص، ليسوا لهم علاقة في كثير منهم بالكتاب، ومنهم من يعتبره سلعة: من لزوم ما لم يلزم. وبهذا فإن الكتاب يتيم، وليس له حتى صاحب، في الأقل، يتعامل معه كسلعة ضرورية، من هذا جاء عدم ثقتي، فيما يتردد من أرقام حول الكتاب والقارئ.
ومع عصر «السيبرانية»، وبزوغ شمس الكتاب الرقمي، زاد وتفاقم النواح على أفول الكتاب وانتشار وباء عدم القراءة، وهجاء الأجيال الشابة ووصمها بكل معيب في الخصوص. والغريب أن هذا يحدث، وحالة مناقضة تواكب هذا النواح، فالكثير من الناشرين القُدامى يشتكي من انتشار دور نشر صغيرة، كما طفرة غريبة عجيبة! أما الكتاب وأهل الصحافة فيرددون أن أسماء لكُتّاب جدد تنبثق كل صبح، ومن كل فج، لا تحصى ولا تعد، ولم يعد بمستطاعهم متابعة ذلكم. هذا قرين الشكوى من هيمنة (عدو) غير محتسب، ألا وهو (الكتاب الرقمي)، مع السراق المضطردين للكتب، فتحويلها من ورقية إلى رقمية.
بهذا وبغيره يعج عالم الكتاب العربي بالمتناقضات، وبسيل من الكلام على عواهنه. وفي مسألة القارئ هناك إجماع بالاكتفاء بما قيل، في عصر ما قبل الرقمية، بل بما قيل في عصر الإمام محمد عبده! وكفى الله العاملين في هذا المجال البحث الجاد.
منذ مقتبل العمر، شغفت بالكتاب، فزيارة المكتبات والمعارض التي شاءت الظروف أن عُقدت في صباي في مدينتي بنغازي بحديقتها العامة. وأيضا في مغامرة أول العمر، زرت القاهرة، فحضرت معرض كتابها في دوراته الأولى، وأكاد لم أنقطع عن هذه المناسبة، ما أسميتها في تغطية صحفية مبكرة: (زار الكتاب)، فمعرض القاهرة مهرجان لكل شيء، بمناسبة الكتاب، وقد أحببت ذلك، فالكتاب في الأول والأخير الواجهة.
أثناء معرض القاهرة للكتاب، يحضر جمع كبير من آل الكتاب العرب، ليرددوا نشيد رثاء حال الكتاب، ويأسفوا على غروب زمانهم، زمن القراءة، زمن مجد الكتاب…. وهلم، من مدائح ومراثٍ. فينتابني إحساس بأني أغرق وأغرق في بحر دماء، الدماء التي تتدفق من تجريح للذات العربية، ما أتقنها العرب كافة تقريبا، في كل مجال وكل مناسبة، فأندب مع النادبين، مخافة أن أكون البعير الأجرب.
للمرة الأولى هذا العام، أُدعى لحضور معرض الشارقة للكتاب، وكنت الليبي الوحيد بين المدعوين، وقد عرفتُ إمارة الشارقة، كإمارة للمسرح العربي، تابعت هذا الاهتمام المميز بالفن الرابع، ما شارك زملاء ليبيون في مناشطه، وكذلك كان معرض الكتاب بالشارقة، الذي أخذ يبرز في روزنامة معارض الكتاب العربية، حتى أنه اعتبر ثالث معرض كتاب في العالم. وفي هذه الدورة (38)، ما شعارها (افتح كتابا، تفتح أذهانا)، باعتبار أن الشارقة (العاصمة العالمية للكتاب)، ما أرى أنه يميزه أن الكثير من المشاركين في مناشط هذه الدورة، أسماء جديدة، تُعد إضافة للثقافة العربية بل والعالمية، أضف لتنوع الفعاليات، التي منها اهتمام بالطفل، وفن الكوميكس مثلا، ثم تسمية الناقدة المبرزة “يمنى العيد” الشخصية الثقافية لهذه الدورة.
أعتقد أن هكذا اهتماما مركزا بالكتاب يستحث أن نؤسس لهيئة مستقلة، مهمتها متابعة ودراسة القارئ العربي والكتاب والمعارض، وكل ما يهتم بذي الشأن، هيئة علمية مصغرة، تستعين باليونسكو وغيرها، وتضم أعضاء متخصصين وتَهمُهم هذه المسألة، لتقدم لنا تقريرا سنويا، يُبين لنا المستقبل، حيث الكتاب الرقمي يدق الباب، بل ويفتحهُ على مصراعيه، وقد يجيء اليوم الأقرب من القريب، الذي يكون فيه معرض الكتاب، كما هو الحال الآني، قد بات من التاريخ، وبذا فلتكُن «الشارقة» السباقة، في وضع لبنة معرفة كتاب المستقبل، ومعرفة القارئ العربي، الذي يولد الساعة، ولم نعرف بعد.
نقلا عن: إندبندنت عربية