منوعات

نظمي لوقا.. مسيحي عشق نبي الإسلام (2-2)

لم يكن الصبي يظن أن ثمة ما يفرق بينه وبينه شيخه ومعلمه، غير أن للأقدار كلمتها.، فقد مرض الأخ الأصغر لنظمي لوقا مرضا شديدا، أفقد الأسرة في محاولة مداواته كل ما تملك.. غابت الأم لأيام عند الجدة ميسورة الحال بالقاهرة لعلها تحصل على جزء من إرثها يرفع عنهم الفاقة ويخفف الضيق، غير أن قسوة الجدة حالت دون ذلك، فاضطرت الأسرة إلى بيع أثاث البيت، في حين تم قطع التيار الكهربائي عن أهل المسكن لعدم سدادهم الفاتورة، فراحوا يتحسسون تخفيف النفقات.

وكان أن قررت الأسرة وقف دروس التلميذ (نظمي) عند الشيخ سيد البخاري، فاعتذر الأب للشيخ، لكن الشيخ لم يطق فراق تلميذه، ولم يمض سوى يوم واحد حتى كان الشيخ الضرير يطرق باب الأسرة بعدما اصطحبه إليهم صبي الحلاق، قائلا للأب.. لا أظنك تبخل باستضافتي ساعة بعد صلاة عصر كل يوم؟

هاهو الصبي يقارن بين موقفي الجدة المسيحية، والشيخ صاحب الدين المغاير، والذي قرر أن يمنحه علمه دونما أجر، لكن القدر يقول كلمته من جديد، فينتقل الأب من وظيفته بمدينة السويس التي أودعها ماله وطفله الصغير، إلى القاهرة، فلا مناص إذن من الفراق، لكن الصبي هذه المرة سيفارق فراق الواثق فيما تحصل عليه من معرفة، وفيما أكسبه إياه الشيخ من قدرة على النقد وإعمال العقل.

كبر الصبي ليصبح الدكتور نظمي لوقا أستاذ الفلسفة القدير بجامعة عين شمس، وتزوج من الكاتبة والقاصة صوفي عبدالله، وصار من أقرب تلاميذ المفكر العملاق عباس محمود العقاد، وقد أهّلته ثقافته الدقيقة ومعرفته الواسعة بأن يٌعيد قراءة كل ما أحاطه من أفكار ومسلمات في جرأة وشجاعة نادرين.

في كتابه «مٌحمد الرسالة والرسول» يطفو نظمي لوقا جرجس – الذي يعلن اعتزازه وتمسكه بديانته المسيحية- فوق تاريخ الإنسانية، وينظر إلى الأديان نظرة الفاحص المدقق، والفيلسوف الذي تشغله العلل البعيدة والأهداف الأسمى للأشياء، فيرصد ذلك التطور الضروري في تاريخ الأديان من موسى إلى عيسى إلى محمد عليهم السلام.

التطور النبيل

 فالديانة اليهودية- من وجهة نظر نظمي لوقا- كانت ديانة خاصة بشعب بني إسرائيل، أي أن الله اختص بها شعبا معينا دون سائر الشعوب، ولم تكن دينا للناس كافة، وهو ما جعل اليهودية تصطبغ وتتأثر بشخصية وطباع وثقافة ذلك الشعب، فقد أصبح ذلك الإله (الخاص) لبني إسرائيل نصيرهم على بقية شعوب الأرض، يعبدونه مقابل أن يمكّن لهم في أرض العباد ورقابهم. وعلى الرغم من أنه شرع لهم في المعاملات ونهاهم عن التجسيم، فقد عوضوا أنفسهم عن ذلك بإقامة الهياكل، كما تقيم الأمم الوثنية لأربابها، وقدمت الذبائح وأقيمت الشعائر لإله بني اسرائيل الخاص، ثم توسعوا في ذلك، فاقاموا الأوثان في بيوتهم وأسموها بـ(الطرّافين)، وشعب هذا شأنه لا يرتد إلا بالتخويف والوعيد، لذلك كثر التهديد والوعيد لهم من قبل أنبياء بني إسرائيل، فبات الإله من وجهة نظرهم أقرب إلى رب الجنود الذي ينصرهم على بقية شعوب الأرض، وغلبت المادة وصارت الشريعة أداة لتنظيم معاملاتهم فيما بينهم، وتبرر لهم السطو على ممتلكات الشعوب. إما الإخاء بين بني الإنسان، وإما النظرة الشاملة إلى البشر كافة هو ما افتقدت إليه اليهودية كديانة، ومن ثم فقد كانت الحاجة إلى دعوة المسيح ضرورة إنسانية.

وهكذا انتقلت الإنسانية من دين المادة إلى دين القلب والروح، فما كان يمكن أن تستمر العقيدة الخاصة بشعب دون شعوب الأرض، ولا يمكن أن تستمر مع ذلك الطابع التشريعي المادي، فالعقيدة حاجة روحية في الأساس، ومن ثم فقد فتحت المسيحية- كما يقول نظمي لوقا – الباب أمام جميع شعوب الأرض، وتوجهت الروح الإنسانية إلى مصدر الحياة والكمال المطلق في عبودية توحيد وتنزيه، وأن يصير الله هو المعشوق الأسمى في وجدان كل إحساس، وبذلك يتلاشى الحس الذي لم يعد له وجاهه.فكانت المسيحية هي دين القلب الإنساني، ولذلك كانت دعوة المسيح خالية من المراسم والتقاليد، وخلت من تشريع المعاملات، لكن عقيدة القلب الخالص هي عقيدة الخواص والأفذاذ، أما الغالبية الغالبة فقد طغى على قلوبها الحس والمادة، ومن ثم فقد ظهر من ناحية الرهبانية كحركة مضادة، أما الباقون فقد انصرفوا إلى تجسيد العقيدة وتجسيمها، لأن العقل الإنساني  لم يكن قد ارتقى بعد إلى تصور تلك الروح الخالصة التي هي مضمون دعوة المسيح.

دين للبشر

ولم تزل الإنسانية في إنتظار ذلك الدين الذي يجمع ما بين العقل والقلب جميعا، ليؤكد على الوحدانية التي تنبذ التعدد في تصور الإله، وتمنع الإنزلاق إلى التجسيم، وتدع الفسحة لأشواق الروح، و تسمح بحظ من نصيب الدنيا، فالله صاحب الدنيا كما هو صاحب الآخرة. عقيدة تصلح للكافة.. العامة منهم والخاصة، دين للبشر جميعا وقد اضطلع بتلك الرسالة دين الإسلام، حيث أعاد التوحيد والتنزية إلى نصابهما، ورفع عن كاهل الإنسان الشعور بالذنب على خطيئة موهومة لم يرتكبها، وإنما ارتكبها الجد أول الخلق آدم . حين قال (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)، وحين طمأن بني الإنسان بقوله (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون)، وحين كرم الإنسان وحمله مسؤلية إحسانه وإساءته في الأرض، ويؤكد بشرية النبوة  (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي) فليس النبي بإله ولا إبن لإله.

كانت العقلية النقدية التي امتلكها نظمي لوقا تؤهله وتمنحه الشجاعة على مناقشة العقائد الرئيسية في ديانته التي ظل حتى الرمق الأخير يعتز بانتمائه لها، واقتدائه بالمسيح، كما منحته القدرة على مناقشة العقائد الإسلامية مٌحللّا- وهو الذي ملك ناصية اللغة العربية- خطابها القرآني، ليؤكد صدق نبوة نبي الإسلام وصحة ما قدم به إلى الناس كافة، وليستكمل رحلة حبه العميق للنبي بمحمد بكتابه الثاني (مٌحمد في حياته الخاصة) (أنا والإسلام)، ثم يتبعه بتناول سيرة حوارييه (أبو بكر)، و(عمر)، وسيرة الصحابي الفاتح (عمرو بن العاص).

و توفى نظمي لوقا في عام 1988 بعدما ترك رصيدا هائلا وعطاء عظيما من المؤلفات الفكرية والترجمات الأدبية والفلسفية.

  اقرأ أيضا:

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker