مرت ذكرى رحيل إبراهيم باشا (10 نوفمبر 1848) الأب الروحي للجندية المصرية في العصر الحديث ،من دون اهتمام يذكر ، رغم أنه -كما يسجل التاريخ – كان القائد الفذ لأول جيش مصري بعد قرون لم يكن فيها للشعب المصري حق تكوين جيش، ولا الانخراط في الجندية، فكون مع أبيه «محمد على» جيش الفلاحين المصريين، وشارك في تحديثه وتنظيمه على أحدث ما توصلت إليه العلوم العسكرية في عصره، ثم أصبح هو قائده التاريخي طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
أبو خليل.. عربى اللغة والعاطفة
كان المصريون يلقبونه: «أبو خليل» محبة وتودداً، وكان إبراهيم باشا يؤمن إيماناً راسخاً وعن خبرة وتجربة بإمكانيات الجندي والضابط المصريْيْن، ويثق فيهما أكثر من ثقته في نظرائهما من الأتراك، الذين ظل يسخر منهم، وكثيراً ما كان يردد إن ضباطه الأتراك «لا يفعلون شيئاً سوي أنهم يدخنون طوال اليوم ويريدون منه أن يغسل لهم أياديهم»، وحين تعجب أحد مساعديه من المصريين من قوله ذلك بينما هو نفسه تركي ابن تركي أجاب إبراهيم باشا بحسم: «أنا لست تركياً ، فإني جئت إلى مصر صبياً، ومن ذلك الحين مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دماً عربياً».
كان القائد إبراهيم عربي اللغة والعاطفة، وإن لم يكن عربي المولد، وكان ينوه بفضل العرب على المدنيّة والتاريخ، يقول عنه أحد البارونات الفرنسيين ممن عاصروه: «كان إبراهيم باشا يعد نفسه عربياً، وكان يجاهر بإحياء القومية العربية»، وكتب إلى أبيه في أثناء حصار عكا حين بلغه أن السلطان العثماني حشد الجيوش لدحر الجيش المصري بعيداً عن أسوارها «مهما بحثوا فلا يمكنهم أن يعثروا على مثل جنود العرب الذين أقودهم أنا».
إبراهيم باشا
هو الابن الأكبر لمحمد علي باشا، وُلد سنة 1789م بقرية قوله في اقليم روملي الواقع على حدود مقدونيا وتراقيا في اليونان، وظل هناك حتى استقر حكم مصر لأبيه في سنة 1805 ،فاستدعاه مع أخيه طوسون ليعيشا في كنفه ويشاركاه صناعة مجد تأسيس حكم الأسرة العلوية، كان إبراهيم يبلغ من العمر 16 عاماً، حين عينه والده على قلعة القاهرة، ثم أرسله سنة 1806 رهينةً لقاء الخراج الذي وعد الدولة العلية به وتعبيراً عن إخلاصه، فرده الباب العالي بعد سنة نظير خدمات أبيه وإعراباً عن نجاح محمد علي في هزيمة حملة الجنرال فريزر الإنجليزية على مصر سنة 1807.
كان الفتى ابراهيم يجيد التركية والفارسية، وله اطلاع واسع على تاريخ البلاد الشرقية، وأجاد العربية وعاش في أوساط عربية، وقرأ تاريخ العرب وثقافتهم، مع ما تلقنه من مبادئ العلوم والفنون، وخالط المصريين في مجالسهم، ومال منذ صغره إلى الأعمال العسكرية، وغلب على صفاته الطابع العسكري، وسرعان ما بدأ يلعب أدواره العسكرية القيادية المهمة، ويُحقّق الانتصارات تلو الأخرى.
محمد علي
قائد كبير.. وتجربة عظيمة
تقاس عظمة التجارب الانسانية في التاريخ بعمق التحولات التي أحدثتها في حياة شعوبها ومجتمعاتها، وبثقل التحديات والمعوقات التي واجهتها، وتغلبت عليها وقهرتها، وبتأثير الانجازات التي حققتها وقدمتها دروساً مهمة للآخرين ليتعلموا منها، وإبراهيم باشا ابن محمد علي باشا قدم واحدة من أبرز هذه التجارب الإنسانية التي أحدثت التحول الكبير في مصر والمنطقة العربية، وواجه على طول مسيرته ـ التي دامت أربعة عقود ـ الكثير من التحديات استطاع أن يقهرها جميعا ويتغلب عليها، وحقق الكثير من الانتصارات التي تكتب باسمه، رغم أنه طوال ذلك المشوار الطويل كان يعمل تحت لواء والده محمد علي باشا.
لم يخل سجل إبراهيم باشا من إنجازات مدنية سواء في مصر أو في المدائن التي فتحها، سواء على صعيد المسائل التنظيمية والإدارية أم الزراعية والتجارية، ولكنها تبقى جميعها – رغم أهميتها الكبيرة وتأثيرها الباقي حتى اليوم – بعيدة عن حجم إنجازاته على الصعيد العسكري، حيث إنجازه الأهم هو مساهمته الفعالة في تأسيس وتطوير الجيش المصري، ومن بعد قيادة فتوحاته وحروبه الخارجية في الجزيرة العربية، وبلاد الشام بل وفي أوروبا نفسها، وهو بكل المقاييس يعد الأب الروحي للجيش المصري في العصر الحديث، ويتأسف كثير من المؤرخين على أن أجله لم يسعفه لتقديم خدماته كوالٍ للدولة، وهو الذي لم يجلس على كرسي الحكم في مصر إلا لبضعة أشهر حيث وافته المنية ولم يبلغ الستين من عمره.
خطاب من إبراهيم باشا إلى والده محمد علي بشأن عكا
رغم ذلك يمكن القول إن إبراهيم باشا حكم مصر من خلال نسله لمدة تسعين سنة، من مجموع حكم الأسرة العلوية الذي بلغ 148 سنة منها 43 سنة كانت مصر تحت حكم المؤسس لحكم الأسرة محمد علي باشا، خلفه في حياته ابنه إبراهيم باشا من مارس سنة 1848 إلى 10 نوفمبر سنة 1848 ثم اعتلى كرسي الحكم خلفاً لإبراهيم ابن أخيه عباس طوسون، وخلفه أخوه محمد سعيد، تبعاً لنظام التوارث القديم الذي كان يجعل ولاية الحكم للأرشد فالأرشد من نسل محمد علي، وبعد ذلك بدأ نسل إبراهيم باشا في حكم مصر حكماً متصلاً بداية من ابنه الخديوي اسماعيل و كانت فترة حكمه (1863 ـ 1879) مروراً بأحفاد إبراهيم كلٍ من الخديوي توفيق نجل إسماعيل( 1879 ـ 1892)، والسلطان حسين (1914 ـ 1917)، والملك فؤاد 1917 ـ 1936)، وأبناء أحفاد إبراهيم وهم الخديوي عباس حلمي الثاني نجل الخديوي توفيق (1892ـ 1914)، والملك فاروق نجل الملك فؤاد(1936 ـ 1952)، وابن ابن حفيده الملك أحمد فؤاد الثاني الذي انتهت ولايته وكتبت كلمة النهاية على قرن ونصف القرن من حكم الأسرة العلوية مع إعلان الجمهورية في 18 يونيو سنة 1953، وهكذا فإن إبراهيم باشا الذي لم يحكم إلا شهوراً في سنة 1848 حكم من خلال نسله تسعين عاماً (من سنة 1863 إلى سنة 1953).
انتصارات الجيش المصري
صاحب الإنتصارات الكبرى
لم يكن التاريخ ليذكر إبراهيم باشا ويعده واحداً من القادة التاريخيين الكبار، لو أن الأمر اقتصر على تلك الشهور التي تولى فيها حكم مصر حين تناقصت القوى العقلية لأبيه في أواخر أيامه، أو في انتساب حكام مصر المتتابعين إليه، لكن التاريخ التفت بتقدير وإجلال إلى الأدوار التي أداها القائد إبراهيم تحت لواء أبيه مؤسس حكم الأسرة، ورغم ارتباط اسمه باسم أبيه، وارتباط سيرته بسيرة أبيه، لأنهما عملا معاً، وكان إبراهيم ساعد أبيه الأيمن، رغم ذلك يفرد التاريخ الكثير من صفحاته ليقص لنا انجازات إبراهيم باشا العسكرية العظيمة، وفتوحاته الجبارة التي تبيض صفحة أي قائد كبير في التاريخ.
لا يمكننا فك الارتباط بين الإنجازات التي تحققت في عهد محمد علي وبين الدور الكبير الذي أداه باقتدار ابنه إبراهيم باشا في تحقيق تلك الإنجازات. صحيح أن إبراهيم باشا ظل يعمل طبقاً لسياسة وأوامر أبيه، لكنه في الوقت نفسه كانت له رؤيته ومنطلقاته الخاصة التي تقاطعت مرات واختلفت مرات أخرى مع رؤية أبيه، ولكنه بقي على الدوام تبعاً لأبيه، منفذاً لسياساته، وكان هو يده العسكرية المقتدرة والتي نجحت في كل المهام التي أوكلت إليها نجاحاً لم يتوقعه الأعداء ولا حلم به الأصدقاء، فقاد جيشه العربي الحديث في الشرق حتى حدود الخليج العربي على أطراف الجزيرة العربية، وفي الغرب حتى العاصمة اليونانية أثينا، وحقق في كل هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة انتصارات كبيرة ومشهودة.
اقرأ أيضا:
الطريق إلى الديمقراطية (1).. محمد علي يؤسس للدولة via @aswatonline https://t.co/XntylhHKqa
— أصوات Aswat (@aswatonline) November 14, 2019
جند مصر البواسل
قاد ابراهيم باشا الجيش المصري وحقق به انتصارات كبرى أولاً في حرب المورة التي استمرت من 1824 إلى 1828ثم حقق انتصارات أكبر في حروب الشام بين العام 1831 إلى العام 1840 وانتصر المصريون تحت قيادته على الأتراك وكان لتلك الانتصارات آثارها الإيجابية على الروح المصرية وحركت لديهم مشاعر الوطنية والاعتزاز بالنفس.
قال المسيو مورييه في هذا الصدد: «لما انتظم الفلاحون في صفوف الجيش النظامي ألفوا بسرعة حياتهم الجديدة، وبعد ان كانوا معتادين الذل والمسكنة في قراهم استشعروا تحت راية الجيش بكرامتهم الانسانية، واخذوا يفخرون بأنهم جنود محمد علي ويقابلون غطرسة الترك بمثلها، ولم يقبلوا أن يُسمَّوْا فلاحين وعدوها تصغيرا لشأنهم لان هذه التسمية كانت تُشعر وقتئذ بشىء من المهانة، ونالوا من الحكومة أمرا لا ينبذهم أحد بكلمة فلاحين».
وقد أبلى المصريون الذين آمن بهم ابراهيم بلاء حسناً ويروي كلوت بك أن فتح الشام وانتصارات حمص وبيلان وقونية أثبتت للأتراك سمو المصريين الذاتي عليهم كأفراد، كما أثبتت شوكتهم كجموع مسوسة بقواعد وعلم وخطط القتال، وذكر كلوت بك حوادث عدة تأييداً لتلك الحقيقة، وقال انه حدث في معركة حمص أن جنديا من الأورطة السابعة من الفرسان يدعى منصور فصلت ذراعه من جسمه بقنبلة، فأبى وهو في هذه الحالة التراجع عن ميدان القتال، بل تقدم رجال كتيبته حاملا على العدو بأشد البأس وأروع البسالة وظل يحارب الى أن مات.
وحدث في معركة قونية أن ترك جميع الجرحى القادرين على حمل السلاح أسرتهم في المستشفى ونفروا الى ميدان القتال ليشاطروا إخوانهم مجد الانتصار أو شرف الشهادة. وفي تلك المعركة سقط جندي من الأورطة الرابعة من الفرسان عن ظهر جواده مجروحا، فلما شهده أمير لوائه احمد المنكلي بك دفع اليه جواده ليرجع به الى الساقة «وهى مؤخرة الجيش»، فأبى الجندي قائلا انه يفضل البقاء في ميدان القتال ليشهد اخوانه منتصرين ولو لقى الموت.
ثم ذكر كلوت بك حادثة أخرى قال عنها إنها من أهم الحوادث وأخصها بالذكر، وهي أن سليمان باشا الفر نساوي كان ذات يوم يعرض أورطة وصلت إليه حديثا، فوقع نظره على فتى ضاوٍ نحيل في السادسة عشرة من عمره يدعى الحاج علي، فهمَّ سليمان باشا أن يرده معترضا بأنه لا يصلح أن يكون جنديا كفؤا، فأبى الحاج علي إلا أن يبقى في السلاح قائلاً لسليمان باشا إن الحكم عليه إنما يكون في عمله ومتى سنحت الفرصة تبين الحكم، فلما ضرب الجيش المصري الحصار على عكا خرجت الحامية يوما فاستظهرت على المشاة المصريين وردت جنود الأورطة الثامنة المقاتلة في الجبهة في أعقابها، فتقدمت الأورطة الثالثة من الفرسان التي كان الحاج علي منتظما في سلكها لتعزيز جانب أولئك الجنود، وحملت حملة باهرة صدت فيها المحصورين وألجأتهم الى مواقعهم، ولم يكتف الحاج علي أن شاطر رفاقه مجد فوزهم بل أنقذ بيده يوزباشي كان على وشك الوقوع في أسر العدو، ثم انقض على ضابط تركي فأسره، وجاء بالضابطين المصري والتركي الى سليمان باشا وقال له: «أفترى انني جندي لا أصلح لشيء؟».
سليمان باشا الفرنساوي الذي أشرف على تأسيس الجيش المصري وتنظيمه وتحديثه يشهد بأن «العرب (يقصد المصريين) هم خير من رأيتهم من الجنود، فهم يجمعون بين النشاط والقناعة والجلد على المتاعب مع انشراح النفس وتوطينها على احتمال صنوف الحرمان، وهم بقليل من الخبز يسيرون طول النهار يحدوهم الشدو والغناء، ولقد رأيتهم في معركة قونية يبقون سبع ساعات متوالية في خط النار محتفظين بشجاعة ورباطة جاش تدعوان الى الإعجاب دون أن تختل صفوفهم أو يسري إليهم الملل أو يبدو منهم تقصير في واجباتهم وحركاتهم الحربية.
وخلال حرب الشام أجبر إبراهيم باشا والده على الموافقة على ترقية المصريين إلى رتبة اليوزباشي ( النقيب) بسبب حاجات الحرب ومقتل ضباط مماليك ، وظل ابراهيم يضغط لإقناع والده بأن المصريين ليسوا جنوداً أكفاء فحسب بل يمكنهم أن يكونوا ضباطاً أفضل من الأتراك وأخذ يرسل رسائل من الشام توضح ذلك بوقائع عملية ، وهذا نص كلام ابراهيم باشا قائد الجيش والذي يوضح حقيقة شخصيته ، وقد كان مستقلاً في تفكيره ولكن يحترم والده وقراراته بدقة كقائد أعلى للبلاد فقال له في إحدى الرسائل إنه مندهش لرفضه ترقية المصريين إلى الرتب الأعلى في سلك الضباط وقد أظهروا ( فرط الشجاعة، ويزداد حبهم لنا كلما ارتفعوا في الرتب، فما الذي يمنعك إذاً يا صاحب السمو من تعيين عدد منهم في رتبة المقدم (البكباشى) وأضاف : «بعد عشرين سنة من الخبرة أستطيع أن أقول: إنه إذا كان هناك ثلاثمائة مخلصون من بين كل ألف من الأتراك فإن هناك سبعمائة مخلصين من بين كل ألف عربي (هو هنا يقصد المصري) صدقني لأنني أكثر الصادقين من بين أبناء صاحب السمو وأخلصهم له، كما أنني أتحدث بصراحة لأنني تربيت منذ شبابي بطريقة عسكرية خالصة، وفي يقيني أن اسأل صراحة لماذا لا ترقى العرب (المصريين)، ولكن محمد علي لم يستجب له في اقتراح ترقية المصريين إلى رتبة مقدم (بكباشي) وإن تحقق ذلك في عهد ابنه سعيد.
قلعة عكا التي حاصرها ابراهيم باشا من البر والبحر
ولاية قصيرة
في إبريل سنة 1848 أصبح إبراهيم باشا الحاكم الفعلي للبلاد، بعدما اعتلت صحة والده ولم يعد قادراً على الاضطلاع بأعباء الحكم، وفي سبتمبر 1848 منح السلطان العثماني إبراهيم باشا ولاية مصر رسمياً، لكنه لم يُكمل العام في منصبه، وتوفي قبل والده في 10 نوفمبر 1848 وهو لم يبلغ الستين من عمره.
«سلام على إبراهيم قاد جيشه من نصر إلى نصر» هذه العبارة التي حفرت على اللوح الرخامي المثبت على قاعدة تمثال إبراهيم باشا في ميدان الأوبرا مصحوبة بقائمة للمعارك التي خاضها بتواريخها، والانتصارات التي حققها لتخلد ذكرى أهم قائد عسكري في تاريخ مصر الحديث.
تمثال إبراهيم باشا بميدان الأوبرا