منوعات

في صحبة الوحدة.. داءُ هذا العصر ودواؤُهُ!

يشعر جميع البشر بالوحدة بين الحين والآخر، لكن منذ عدة عقود تحولت الوحدة من إحساس مؤقت إلى حالة دائمة تحاصر ملايين البشر، فعلى الرغم من أننا نعيش في أكثر العصور اتصالًا في تاريخ البشرية إلا أن أعدادا هائلة من الناس يشعرون بالعزلة.

ولا تعني الوحدة أنك بمفردك، فقد يفضل البعض الاستمتاع برفقة أنفسهم على رفقة أصدقائهم، أما الوحدة فهي تجربة فردية غير اختيارية من يختبرها داخليًا يلازمه هذا الشعور المؤلم، بغض النظر عما يملك من مهارات اجتماعية، أو شهرة، أومال، أوجمال، أو حتى قوة شخصية، حيث أثبتت الدراسات أن الجميع معرض للإصابة بشعور الوحدة، حتى وإن كان محاطًا بألف شخص.

عن معنى الوحدة

تمامًا كما ينبهك جسمك بأنك بحاجة للأكل من خلال شعور الجوع، ينبهك شعور الوحدة باحتياجاتك الاجتماعية، حيث كانت قدراتنا الاجتماعية منذ بدء الخليقة مؤشرًا على احتمالات نجانا في الحياة، فاندماج الإنسان داخل أسرته أو قبيلته منذ ملايين السنين كان يعني توفير الغذاء والأمن والرعاية، وهي عوامل كان من المستحيل تقريبا، توافرها إذا كان الإنسان بمفرده. وعلى عكس أجدادنا الذين كانوا يحرصون على البقاء ضمن مجموعة خوفًا من أن تنهشهم الحيوانات المفترسة إذا كانوا بمفردهم، يخشى الإنسان المعاصر أن تنهشه أفكاره بأنه مرفوض اجتماعيًا، لا صديق حميم له أو أحد يهتم بأمره بصدق عندما يكون وحيدًا.

الفردية المطلقة

وقد عملت آليات البشر الاجتماعية بشكل فعال على مدى قرون، حتى شرع الإنسان في بناء عالم حداثي خاص به، حيث بدأت الحضارة الغربية – تحديدًا في عصر النهضة- التركيز على الفرد، ثم تصاعدت أصوات المفكرين وعلماء الدين بالحديث عن المسؤولية الفردية بدلًا من الجماعية، وساهمت الثورة الصناعية في تسريع تلك العملية ،فترك الناس الحقول والقرى لكي يعملوا في المصانع، وبالتالي تحللت المجتمعات الزراعية القائمة منذ مئات السنين، لتحل محلها المدن تدريجيًا ويتشكل وجه جديد للعالم كله.
في عالم اليوم، يسافر البشر مسافات طويلة من أجل الحصول على وظائف جديدة، أو تعليم أفضل، أو حتى علاقة حب، تاركين وراءهم شبكاتهم الاجتماعية، وبالتالي نتعرف على أعداد أقل من الناس في الواقع ونلتقي بهم مرات أقل مقارنة بالماضي، ونتيجة لكل تلك العوامل يتفاجىء معظم الناس بأنهم يعانون من وحدة مزمنة دون دراية منهم.

فمبجرد الوصول لمرحلة النضج يبدأ الناس في الانشغال بالجامعة، ثم العمل، والزواج، والأطفال، إلى جانب بعض الهوايات الفردية، ولأن الوقت غير كاف لكل الأنشطة، عادة ما يضحي الناس بوقت الأصدقاء ،لأنه حل أسهل ومناسب أكثر، ثم يستيقظ أحدهم ذات يوم ليدرك أنه منعزل تمامًا، وأنه يحتاج إلى هذه الروابط، ولكن بعد فوات الآوان، لأن إقامة صداقات في هذه المرحلة المتأخرة ليس سهلًا، وبالتالي من المرجح أن تتحول وحدته إلى شعور مزمن لا فكاك منه.

مخاطر الوحدة  

أثبتت الدراسات أن التوتر الناتج عن الوحدة المزمنة من أخطر العوامل التي تؤثر علينا سلبًا، حيث تجعل علامات العجز تظهر علينا أسرع، وتضعف مناعتنا، كما تساعد أمراض ألزهايمر والسرطان في التطور السريع، إضافة إلى أنها تعتبر أخطر ضعفين من السمنة، ويماثل تأثيرها تدخين علبة سجائر يوميًا. لكن أخطر ما في الوحدة أنها بمجرد أن تصبح مزمنة تولد شعورًا يعادل الألم الجسدي، وهو ما يجعل الإنسان في حالة دائمة من التهديد، وبالتالي يتولد لديه سلوكًا دفاعيًا حيث يتخذ عقله وضعية الحماية الذاتية فيشعر الإنسان بالخطر المحتمل في كل من حوله.
كما وجدت بعض الدراسات أن الوحدة تجعل العقل أكثر تحفزًا للإشارات الاجتماعية مع إساءة فهمها في الوقت نفسه، حيث يتشوش الجزء الخاص بالتعرف على الوجوه في المخ، وبالتالي يُصنف الوجوه المحايدة باعتبارها أكثر عدائية ويرتاب الشخص الوحيد في الآخرين، حيث تجعلنا الوحدة نتوقع الأسوأ عن نوايا الآخرين تجاهنا، وبسبب هذه الشكوك ينغلق من يشعر بالوحدة على ذاته ويصبح متمركزًا حولها لحماية نفسه، وبالتالي يظهر كشخص بارد وغير ودود ومنبوذ اجتماعيًا من الآخرين.


كسر دائرة الوحدة

رغم أن دائرة الوحدة تبدو مفرغة، إلا أنه يمكن كسرها من خلال التقبل، وإدراك أن الشعور بالوحدة أمر طبيعي يشعر به جميع البشر في مرحلة ما من حياتهم، وبالتالي لا يستدعي الأمر الشعور بالخجل، لكن المهم معرفة أسبابها والتخلص منهم، من خلال ملاحظة إذا ما كنت تركز بشكل انتقائي على الأشياء السلبية التي تصدر من الآخرين أثناء تعاملك معهم، ومعرفة إذا ما كانت سلبية فعلًا أم مجرد تصرفات محايدة أو حتى إيجابية ،ولكنك أسأت فهمها.

إضافة إلى ذلك يجب أن يعدل الإنسان أفكاره عن العالم، حيث لا يجب الدخول في موقف اجتماعي مع وضع سيناريو مسبق، أو افتراض سوء نية الآخرين، أو حتى افتراض عدم رغبة الآخرين في وجودك، ولا داعي للحرص الدائم على حماية نفسك من خلال تجنب مخاطرة الانفتاح على الآخرين، فقط افترض أن الناس ليسوا ضدك وغامر بتجربة أن تفتح قلبك لأحدهم، وتوقف عن تجنب الوجود وسط الناس، وخلق أعذار مسبقة لتجنب أي دعوة من الآخرين.

 وحاول السيطرة على إحساسك بأنك مهدد من قبل الناس ولا تكتف بالانغلاق على ذاتك، ولكن ابحث عن علاقات جديدة كلما أتيحت لك الفرصة، أما إذا فشلت كل هذه المحاولات فعليك بالذهاب إلى مختص لتلقي المساعدة.

لا غنى عن التواصل

 خلق الإنسان لنفسه عالمًا متقدمًا به رفاهية وسهولة لم تكن متوفرة لمن سبقونا، لكن كل هذا التطور الهائل لن يغني الإنسان عن حاجته الجوهرية البيولوجية والنفسية للتواصل مع الآخرين، مكالمة قريب أو صديق لم تحادثه من زمن، أو حتى تجربة أشياء جديدة غير مألوفة، والعمل على الخروج من دائرة الارتياح ،يمكن أن يساعد في الخروج من تلك الحالة المرهقة نفسيًا، والتي عادة ما تتطور إلى اكتئاب أو أمراض نفسية أخطر قد تؤدي إلى الانتحار. إن إنسان اليوم لا يختلف كثيرًا عن الإنسان الأول، حيث يرغب في أن يأكل وينام ويعمل ويتكاثر مع ممارسة كل تلك الأنشطة في إطار اجتماعي يتفاعل فيه مع الآخرين، ويخلق روابط تمكنه من مواصلة حياته رغم ما فيها من كدر. أما إذا حاز على كل المميزات دون تكوين أي علاقات حقيقية، فغالبًا لن ينجو على أية حال.

المصادر:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock